حركة صوفية خضع لها العثمانيون وانقلب عليها العسكر

شريف أيمن

استندت حركة النهضة في العالم الإسلامي في أوائل القرن 19 إلى دعامات قام عليها العالم الإسلامي في الحقيقة منذ اللحظة الأولى، أهمها التفاف هذا العالم حول دستور واحد هو القرآن الكريم، وما فرضته الشريعة السمحة الكريمة على كل مسلم قادر على الحج إلى بيت الله الحرام.

ثم تأتي دعامة الخلافة، وكان لها شأن عظيم في أوائل عهدها، ثم انقلبت عليها الأيام (…) فقد ظلت وحدة العالم الإسلامي تستند إلى الحج والخلافة في شد أزرها وتقوية دعائمها“.

هكذا شَرَّح المؤرخ المصري محمد فؤاد شكري في كتابه الدولة السنوسية، دين ودولةفكرة الدولة بالنسبة للسنوسية، مُفرِّقا بين حال الابتداء ودعاماته، وحال الضعف وأوتاده الباقية حينها، وهي بمجموعها تشكّل عوامل بدء التجديد والنهوض في أوائل القرن 19.

والسنوسية حركة صوفية إصلاحية ليبية، غيّرت المجتمع الليبي المعاصر وشكلت دولته الحديثة بعد مخاض طويل حتى الاستقلال، وبالإضافة إلى ذلك أنتجت حراكا فكريا واجتماعيا في ليبيا وشمال أفريقيا لا تزال أصداؤه حاضرة.

مكة مهد السنوسية

كان مؤسس الطريقة السنوسية والأسرة المالكة السابقة في ليبيا محمد بن علي السنوسي (1787-1859) يعزو سبب اضمحلال دولة الخلافة من جهة، ثم قيام حكومات في العالم الشرقي مثل حكومة محمد علي باشا في مصر من جهة أخرى؛ إلى حقائق ظاهرةلخصها في 3 نقاط؛

أولاها أن المسلمين كانوا في حاجة مُلحَّة إلى وجود المصلحين الذين يقومون بنشر الدعوة للدين القويم.

وثانيها حسب السنوسي الكبير“- “تشتّت كلمة المسلمين وتفرقهم شيعا وأحزابا، وعدم تضافرهم، ثم ركونهم إلى الاستبداد في الرأي، وتفضيل أنواع الحكومة المطلقة على غيرها من الحكومات التي تأخذ بمبدأ الشورى، وفق التعاليم الإسلامية الصحيحة“.

وثالث هذه الأسباب كما نقل شكرييعود إلى خمول علماء المسلمين وتقاعدهم وتقاعد حكوماتهم عن نشر التعليم بين جميع الطبقات وتعلّم الصنائع وتعميمها لسد حاجات الشعب، وتعميم الرياضة واستعمال السلاح ثم تحبيب الفروسية إلى قلوب العامة والخاصة“.

كانت هذه مواطن الخلل في رأي السنوسي الذي نشأ في بيت علم، وفي شبابه ذهب إلى الأزهر الشريف بمصر ولم يلبث فيه مدة طويلة، ثم انتقل إلى الحجاز أوائل ثلاثينيات القرن 19.

ويقول المؤرخ شكري أن زيارة السنوسي لمكة كانت ذات أثر كبير في قيام الدعوة السنوسية وظهور شأنها، وساعدت على هذا جملة أسباب؛ منها وجود السيد وإقامته بمكة، وهي المدينة المقدسة التي يقصدها ويحج إليها المسلمون من مختلف الأقطار، فأعطى ذلك السيد الفرصة حتى يقف على معلومات عظيمة عن أحوال وأخلاق المسلمين الوافدين على مكة، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وتباين طباعهم، وكان السيد ينتهز الفرصة لمباحثة جميع فضلاء ومفكري الإسلام عند وفودهم إلى هذه الديار؛ يتلقى عنهم المعلومات ويتعمق معهم في البحث والتمحيص“.

وأخذ السنوسي عن مجموعة من علماء الحجاز الكبار، ثم طفق بعد هذا يدرس الطريقة الشاذلية بجميع فروعها عن الإمام الصوفي أحمد بن إدريس الفاسي، ثم الطريقة الناصرية، ثم القادرية، ثم التيجانية عن أبي العباس التيجاني نفسه، ولازم السنوسي الشيخ ابن إدريس إلى أن غادر مكة بسبب مشكلات مع السلطات الحكومية ومعارضة علماء مكة، وذهب إلى (صبيا) عسير، وتبعه السنوسي إلى وفاته، ثم عاد إلى مكة وأنشأ بها زاوية في جبل (أبي قبيس) عام 1837 لتكون أولى زواياه.

وسبب اختيار مكة لتكون أولى الزوايا بها قبل عودته لبلادهلأنها قِبلة المسلمين وموطن الحجاج والمعتمرين، فيسهل نشر الدعوة والأفكار السنوسية بين المسلمين من شتى البلدان، حسب ما كتبه المؤرخ شكري.

الزوايا الصوفية.. تزكية وعمل ومقاومة

لم تكن الزوايا السنوسية في ليبيا حسب كتاب شكريصوامع للرهبان، بل هي مراكز نشاط ديني واجتماعي كبير، ويُعنى شيوخها والمقيمون بها وحولها بشؤون الدين والدنيا، وتُحرِّم الطريقة على أتباعها التسول، وتأمرهم بالكَدِّ والسعي من أجل عيشهم على أساس التعاون والأُخوَّة، وتطلب من الإخوان العمل في الزرع والتعمير والإنشاء.

وكانت من العادات المعروفة أن يتبرع كل فرد من أفراد القبيلة التي تُبنى الزوايا على أرضها بحراثة يوم وحصاد يوم ودِرَاسة يوم من أرض الزاوية، فسهُل عمران الزوايا، كما حتّمت الطريقة على مشايخها معرفة أماكن الأسواق وحالتها، وأمرتهم بالتجارة، على أن يُخصص جزء من الأرباح للزوايا، وقسم آخر للطريقة عامة.

وسرعان ما صارت هذه الزوايا نتيجة هذا العمران وهذا النشاط الاجتماعيملاجئ مهمة لا نظير لها في الصحراء، خاصة للمسافرين والتائهين والمشرّدين، واختار السنوسيون لأغلب الزوايا أجمل البقاع وأخصب الأراضي.

واتبع السنوسي نظاما دقيقا في إنشائها وترتيبها حتى غدت كل واحدة منها بمثابة حكومة ذات سلطان عظيم على جميع الأهلين المقيمين في جهتها، ويَفْصِل شيوخ الزوايا في المنازعات والخصومات، ويَردُّون المنهوبات إلى أصحابها، وينشرون ألوية الأمن والاطمئنان.

ويقوم نظام الزاوية على اختيار مقدَّملكل زاوية، وهو شيخها والقيّم عليها، ويتولى أمور القبيلة أو الناحية التي فيها الزاوية، ويفصل بين الخصومات، ثم يليه الوكيلووظيفته كوظيفة الحاكم المدني، فهو وكيل الدَّخْل والخَرْج، وينظر في زراعة الأراضي، وجميع الشؤون الاقتصادية.

وقام السنوسي باختيار رؤساء وشيوخ ووكلاء الزوايا من أبناء المناطق التي تُبنى بها، بعد أن يقوم بتعليمهم وتربيتهم، ثم ربط بين هذه الزوايا برباط متين من المخاطبات والمخابرات تلتقي أسبابه عند زاوية الجغبوب المركزية، وقامت هذه الزوايا بنشر الإسلام، خاصة عند الشعوب الوثنية في قلب أفريقيا الغربية والسودان والصحراء الكبرى.

واهتم السنوسي بالعامل العسكري كذلكأثناء اختيار أماكن الزوايا، وكانت زاوية البيضاءأولى الزوايا التي بناها عقب خروجه من مكة، واختار لها مدينة برقة، وكان السنوسي يتوقع سقوطها في يد النابلطان” (الإيطاليين) من نابولي؛

فاختار لزاوية البيضاء مكانا إستراتيجيا صعب المسلك، ويسهل الدفاع عنه بعدد قليل من الرجال، واتبع نظاما خاصا في إنشاء بقية الزوايا؛ فاختار لها أمكنة على شاطئ البحر بحيث تبعد كل زاوية عن التي تجاورها مسافة 6 ساعات، ثم أنشأ خلفها جميعا زوايا مقابلة لها تبعد كل منها عن الأخرى المسافة نفسها، حتى إذا هوجمت الزوايا الأمامية التي بالشاطئ، استطاع الإخوان وأهل الزاوية أن ينتقلوا بسهولة إلى الزوايا الخلفية، حسب شكري.

يتبع

____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *