هناك قوى حقيقية أدت إلى تدهور الأوضاع في المشهد الليبي، ولعل من أهم هذه القوى هي الثورة المضادة وقد كشفت خلال السنوات الماضية أدواتها ووسائلها وأهدافها، ومن أهم أدواتها:
أولا: بقايا فلول النظام من العسكر
تمكنت الثورة المضادة من استقطاب خليفة حفتر للقيام بدور القائد العام لفلول النظام من العسكر الذين هُزموا من قبل الثوار قبل تدخل الناتو في العديد من المعارك.
جاءوا بخليفة حفتر من خلال أكذوبة محاربة الإرهاب وإعادة الكرامة للجيش الليبي، وقد تم دعمهم عسكريا وأمنيا ولوجستيا من قبل مصر والإمارات والسعودية ومعنويا من قبل بعض الدول الأوروبية (روسيا وفرنسا مثلا) والعربية (الأردن مثلا).
وبالتالي مكنوا فلول النظام المجرمين من الإنتقام الوحشي من الثوار وعائلاتهم في بنغازي ودرنة واجدابيا وبعض مدن الجنوب والمنطقة الغربية .
ثانيا: المخابرات السعودية وصنيعتها المدخلية
من أهم أدوات الوحشية في عمليات “ميليشيات الكرامة” هي الزواج اللاشرعي بين مجرمي كتائب القذافي العسكرية والأمنية و قوات الصاعقة من جهة وأتباع السلفية المدخلية (صنيعة المخابرات السعودية منذ الثمانينات) من جهة أخرى.
استطاعت كتائب السلفية المدخلية أن تخترق قوات مشروع الكرامة وسيطرت على أهم المواقع القريبة من خليفة حفتر فجعلوا منه “ولي الأمر الذي لا يجوز الخروج عليه“.
تمكنت ميليشيات حفتر من تصفية أغلب الشباب الذين برزوا في مقارعة النظام خلال أشهر الثورة (مجلس شورى ثوار بنغازي مثلا) والمفارقة أن خليفة حفتر هو الذي تصدى للتيار الاسلامي في المنطقة الشرقية في السابق.
هذا الزواج يعبّر بكل وضوح عن الصفقة التي عقدتها المخابرات السعودية مع قوى الثورة المضادة للربيع العربي وعلى رأسهم الإمارات ومصر وبعض الأطراف الدولية.
ثالثا: الدولة العميقة
وبرزت الدولة العميقة ، بعد أشهر من سقوط النظام، في كل مفاصل الدولة وبصور عديدة من أهمها:
ـ تعطيل خطوات التحول الديمقراطي وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية عبر بعض الأحزاب التي تدعي “الليبرالية” التي أعلنت العداء السافر لكل توجه وطني وخاصة من أصحاب الإتجاه الاسلامي (كالاخوان والمقاتلة مثلا) وتبين ذلك في عرقلة مداولات المؤتمر الوطني العام والبرلمان وهيئة التأسيسية لصياغة الدستور ، وما حدث من مهازل في مجلسي البرلمان والأعلى.
ـ تضخيم الهيكل الإداري لمؤسسات الدولة من خلال تعيين عشرات الألاف من الموظفين الجدد (بدون أية مؤهلات) في أجهزة الدولة بحيث وجدت الحكومات المتتالية تصرف أكثر من ثلث الميزانية في المعاشات والأجور (فمثلا هناك نصف مليون مدرس يعملون في مدارس التعليم العام رغم أن أقصى ما تحتاجه ليبيا من مدرسين لا يزين عن 150 ألف مدرس)
ـ السيطرة على السوق السوداء وقد تغلغلت في إدارات المصارف بما فيها فرع المصرف المركزي في بنغازي وغيرها من المؤسسات المالية
ـ التحكم في السيولة من خلال الترتيبات التي قام بها النظام السابق قبيل سقوطه حيث قام بسرقة كميات هائلة من العملة الصعبة وتهريبها خارج البلاد لاستعمالها في دعم جهود الثورة المضادة في الداخل
ثانيا: الجريمة المنظمة
قام النظام السابق، قبيل هروب القذافي من العاصمة، بإخراج أكثر من 15 ألف سجين من أصحاب الجرائم الجنائية والمحكوم عليهم بالمؤبد وبالسجن لفترات طويلة، وبالتالي تمكن الألاف من هؤلاء المجرمين المحترفين من اختراق صفوف كتائب الثوار ونظم أعداد كبيرة منهم في كتائب مسلحة بعدما تمكن الثوار من السيطرة على العاصمة وتمكن هؤلاء المجرمين من سرقة المعسكرات ومخازن الأسلحة والذخيرة وأصبح المئات منهم قادة كتائب مسلحة بالاسلحة الثقيلة والمتوسطة، وهؤلاء هم الذين يقومون حاليا بتهريب النفط والمواد المدعومة وأيضا بإدارة سجون الهجرة غير المنظمة، والسيطرة على تجارة وتهريب المخدرات والسلاح والبشر
لعل من أخطر ما قامت به قوى الثورة المضادة هو دعم وتمويل قوات داعش في سرت وتمكينهم من السيطرة على المدينة وبعض المناطق المجاورة مما كلف قوات البينان المرصوص عدة أشهر من القتال راح ضحيته المئات من الشهداء والألاف من الجرحى
ثالثا: الجيوش الاكترونية وأدوات التضليل الإعلامي
أعطى النظام السابق تعليماته للعديد من أتباعه المكلّفين بالعمل في مجالات التضليل الإعلامي (الجيوش الالكترونية) والذين كانوا يعملون ضمن جهازي الأمن الداخلي والخارجي والحرس الثوري وبقايا اللجان الثورية، فتولت تلك الجيوش الإلكترونية مهمة القيام بحملات تشويه وشيطنة من خلال نشر معلومات مضللة التي وجدت أذان صاغية من قبل القبائل التي تصر على وصفها بـ “الشريفة” وبقية الفئات التي كانت مستفيدة من النظام السابق والتي تبنت في البداية شعارات الديمقراطية والحرية والدولة المدنية، وأفرغتها من محتواها، وبدأت منذ مدة برفع شعارات ورايات النظام السابق بكل جرأة.
تولت مصر والإمارات الدعم المالي والتقني للعديد من وسائل أعلام الثورة المضادة (فضائيات، صحف، مواقع الكترونية، صحفيين وكتاب) وكانت من أهم ماقامت به تلك الجيوش الالكترونية ووسائل الإعلام شيطنة الفئات التالية:
ـ المساجين السياسيين الذين قضوا عشرات السنين في سجون الطاغية خاصة الذين كانوا يسعون للحصول على تعويض جبرا للأضرار التي لحقت بهم وبأسرهم.
ـ المعارضين الذين عادوا للبلاد وشاركوا الثورة، والذين كانوا يوصفون بأنهم “كلاب ضالة” وهم الآن يشار إليهم بوصف “دبل شفرة” بسبب حصولهم على جنسيات أخرى بجانب الجنسية الليبية.
ـ الثوار الذين قاتلوا كتائب القذافي الأمنية وهزموهم أمام شاشات التلفزة
ـ الرموز الدينية والعلمية والأكاديمية والإدارية بدأ من أئمة المساجد ومرورا ببعض الشخصيات المعروفة بمعارضتها للنظام السابق وانتهاء بالمشائخ والعلماء وعلى رأسهم المفتي ودار الإفتاء
ـ الحركات السياسية الوطنية ذات التوجه الاسلامي وفصائل التيار الوطني الاخرى
***
عند الحديث عن مستقبل الربيع الليبي، يمكن الإشارة إلى بعض السناريوهات المحتملة والمتوقعة في عرقلة بناء الدولة عبر المسار السياسي والشرعية الدستورية
الأول : تعطيل الانتخابات وعرقلتها من قبل بقايا فلول النظام والمتصدرين للمشهد السياسي على مستوى مجلسي النواب والدولة وخاصة عند تأكدهم من فشلهم في السيطرة على البلاد عبر صندوق الإقتراع
الثاني : الشروع بالانتخابات الرئاسية بدعم ورعاية الأمم المتحدة ، للدخول في فترة أنتقالية أخرى تفاديا للانتخابات البرلمانية التي يتوقع أن المشاركة فيها ضعيفة مقارنة بانتخابات 2012
الثالث : مـُواجهة ونزاع مـسلح ، بـيـن الجماعات المسلحة، تدخل البلاد في حرب أهلية واسعة في كل أنحاء البلاد تقحم فيها الكتائب المسلحة، وفلول النظام، وعسكر حفتر، والقبائل، والأقليات الإثنية، وربما دول الجوار أيضا
الرابـع : تحالفات جديده غير مـتوقعة ،تخلق نـظام محاصصة جديد وعلى أسس جديدة نظراً لتوافق المصالح وبعض الضغوطات الدولية الأجنبية ، تخلق وضع هش يؤدي استمرار الأزمـة إلى عقود من الزمن
الخامس : وجود حكومة ثالثة ورئيس معترف به دولياً وصاحب شرعية سياسية ، لكن لا يحظى أيا منهم بشرعية دستورية وحاضنة شعبية
السادس: تدخل اجنبي لدواعي جيوسياسية أمنية (تدخل مباشر او بوجود قواعد عسكرية دائمة معلنة ، بحجة حمـاية الحدود ، والحد من تدفق المهاجرين غير القانونين)
_____________