ديفيد كورد

منذ أكثر من قرن مضى، شهدت دولة فنلندا المستقلة حديثًا حربًا أهلية قصيرة ولكنها وحشية. وبرغم من أن الصراع ترك ندوبًا عميقة، إلا أن ثقافة العمل معًا ساعدت على المصالحة بين الأعداء السابقين، وسمحت للبلاد بالتقدم بسرعة نسبية في عملية بناء الدولة.

مشاة يمرون وسط ركام الحرب الأهلية في بيتكاسيلتا (الجسر الطويل) في هلسنكي. حتى يومنا هذا، تحمل أحجار الجسر آثار الحرب الأهلية ومتفجرات من الحرب العالمية الثانية.

واعتمد برلمان فنلندا إعلان الاستقلال في 6 ديسمبر 1917. وقبل ذلك، تشكلت الجماعات المسلحة “الأمنية”، والتي أصبحت فيما بعد تعرف باسم البيض والحمر.

وكان البيض محافظين سياسيًا، بينما كان الحمر مرتبطين بالحركة العمالية. وكان الخلاف القائم منذ زمن طويل بين المعسكرين يعني أنه حتى بعد تحقيق الاستقلال، فطريق الأمة الجديدة لم يكن واضحًا.

حيث استمرت الحرب الأهلية من 27 يناير إلى 15 مايو 1918. ومن أصل 36600 حالة وفاة، كان هناك حوالي 9700 حالة إعدام و13400 شخص زُج بهم في معسكرات السجن المروعة. وفاق عدد إصابات الحمر نظيره في البيض بنحو ستة إلى واحد.

بدأت المصالحة السياسية فور انتهاء الحرب مباشرةً. سيستغرق الأمر وقتًا أطول حتى تبدأ المصالحة الثقافية والاجتماعية.

التحرك نحو جمهورية أكثر شمولية

بنى المنتصرون من البيض آمالهم في ملكية ذات روابط قوية مع ألمانيا، ولكن هزيمة ذلك البلد في نهاية المطاف في الحرب العالمية الأولى وضعت حدًا لتلك الفكرة. واختارت فنلندا دستورًا جمهوريًا لها في يوليو 1919.

يقول جيسون لافري، الأستاذ المساعد الدائم بجامعة هلسنكي وأستاذ التاريخ في جامعة ولاية أوكلاهوما، “يصعب التحدث عن اهتمام الجمهوريين بتسوية في حين يدعم الكثير منهم تدابير قاسية ضد الجنود الحمر”. “غير إن من أرادوا الجمهورية رأوا أنها شكلاً أكثر شمولاً للحكومة لكل من اليسار المعتدل والملكيين”

أول رئيس لفنلندا، K.J. كان ستالبرغ يؤمن بالمصالحة والعفو عن السجناء السياسيين الحمر، مما سمح للنقابات المهنية بالتفاوض والتوقيع على قانون حتى يتمكن المزارعون المستأجرون من شراء ممتلكاتهم بأسعار مناسبة.

يقول لفيري: “لقد حاول ستالبيرغ بالفعل توحيد البلاد، ولكن ضمن المعايير التي حددها الإجماع المناهض للماركسية”.

اعتدال ما بعد الحرب

دعم الحزب التقدمي المعتدل والاتحاد الزراعي تسويات وخطوات نحو المصالحة خلال السنوات الأولى للاستقلال. وتم استبعاد اليسار المتطرف من العملية السياسية، في وقت تم الترحيب بالديمقراطيين الاشتراكيين في السياسة المحلية، بل وأصبحوا أكبر حزب في البرلمان تحت قيادة فيانو تانر.

“يقول لافيري “لقد بذل تانر أقصى ما في استطاعته”. “كرئيس للوزراء في عام 1927، قبِلَ تحية الحرس المدني في العرض السنوي لإحياء ذكرى نهاية الحرب، وكان الحرس المدني هو الميليشيا التي شكلت القوام الأساسي للجيش الأبيض”. الجنرال الأبيض، C.G.E. وبدأت مانرهايم تقليدًا سنويًا لاستعراض يوم 16 مايو في ذكرى لنهاية الحرب الأهلية.

وكان قبول تانر للتحية ذا أهمية خاصة، لأن الحرس المدني أطلق عليهم اليسار اسم “الجزارين” بسبب دورهم في عمليات الإعدام بإجراءات موجزة. وعندما حاولت عناصر من الحرس المدني ومجموعة تسمى حركة لابوا انقلابًا يمينيًا، في عام 1932، رفضها معظم الفنلنديين وفشلت الانتفاضة خلال أيام.

وكانت فترة الثلاثينات من القرن الماضي فترة من الرخاء الاقتصادي النسبي والإصلاحات الاجتماعية المستمرة، مما ساعد على المساهمة في نظام ديمقراطي ونظام برلماني قوي.

تقارب بين أطياف الشعب

ومن السياسيين الآخرين الذين كان لهم تأثير في تشكيل مستقبل البلاد، ميينا سيلانبا، المعروفة بكونها حلقة وصل تمد الجسور التي تمكنت من أن تجمع الأحزاب ذات وجهات النظر المتعارضة. فقد كانت من بين النساء الأوّل، رقم 19 منهن، اللاتي صوتن في البرلمان في عام 1907 بعد أن حصلت النساء على حق التصويت والترشح للمناصب في عام 1906. وخلال الحرب الأهلية، عملت على مساعدة الأطفال اليتامى، وكان عددهم كبيرًا – 15000 -وفقًا لبعض التقديرات.

وفي حكومة تانر (13 ديسمبر 1926 – 17 ديسمبر 1927)، شغلت منصب الوزير الثاني (نائب وزير) الشؤون الاجتماعية، مما جعلها أول وزيرة حكومية في فنلندا. ولأنها جاءت من خلفية الطبقة العاملة وساعدت في قيادة حملات القضايا الاجتماعية مثل ظروف عمل أفضل للخادمات والعمال الآخرين، وملاجئ للأيتام والأمهات غير المتزوجات. وعلقت تارجا هالونن، رئيسة فنلندا من عام 2000 إلى عام 2012، على سيلانبا بأنها “يمكن اعتبارها إحدى أمهات دولة الرفاه الاجتماعي.”

كما ساعد الأبطال الرياضيون، وأبرزهم عداء المسافات بافو نومي، جميع الفنلنديين في الوصول إلى هدف مشترك. وفاز باثنتى عشر ميدالية أولمبية – تسع ذهبية وثلاث فضية – في ثلاث دورات أولمبية بين عامي 1920 و 1928.

معًا في حرب الشتاء

في عام 1939، هاجم الاتحاد السوفيتي فنلندا، وبدأ ما يُعرف باسم حرب الشتاء، التي استمرت من 30 نوفمبر 1939 إلى 13 مارس 1940 واتحدت جميع عناصر المجتمع الفنلندي دفاعًا عن بلادهم.

يقول لافري: “كانت حرب الشتاء هي حرب التحرير الوطنية الباسلة والبطولية على عكس الحرب الأهلية”. “لقد كانت أول إنجاز جماعي كبير لفنلندا المستقلة”.

ووافقت المنظمات الممثلة لأصحاب العمل والموظفين على التفاوض والتعاون. وشجع الديمقراطيون الاشتراكيون أعضاءهم على الانضمام إلى الحرس المدني. وألغى القائد العام مانرهايم المسيرة السنوية للاحتفال بالانتصار الأبيض، واستبدلها بيوم تذكاري للذين لقوا حتفهم. كان الفنلنديون على استعداد للوحدة من أجل قضية مشتركة.

يقول لافري: “يجب على المرء أيضًا أن يفكر في الأحداث بعد الحرب العالمية الثانية”. “ومن بين هذه الأحداث إضفاء الشرعية على الحزب الشيوعي الفنلندي، وبناء دولة الرفاهية الشاملة، والفن والعلم الذي أنتجته أحداث عام 1918.”

المصالحة لا تنتهي أبدًا

أحد أهم الأعمال الأدبية المتعلقة بالحرب الأهلية هو ثلاثية Väinö Linnä (فيينو لينا) Under the North Star ،”تحت النجم الشمالي”، التي نُشرت في السنوات 1959 و1960 و1962. وهي تبحث على نحو مثير للعواطف في دوافع السياسيين الحمر (الشيوعيين) وتصف دون تردد ما حدث في أعقاب الحرب.

وهي المصالحة الثقافية التي طالما كانت تنتظرها فنلندا، ولكن عملية المصالحة لم تنته أبدًا. يقول لافري: “أن الحروب الأهلية غالبًا لا تنتهي أبدًا”.

وحتى اليوم، لا يزال مانرهايم شخصية انقسمت حولها الأراء. ويتم كتابة كلمة “الجزار” أحيانًا على تماثيل له، في حين يستخدم متحف مانرهايم المصطلح المحمّل بالمعاني “حرب التحرير” للإشارة إلى الحرب الأهلية.

وقد أظهر استطلاع أجرته شركة الإذاعة الوطنية الفنلندية “Yle” عام 2016 مدى عمق تأثير الحرب على الناس. وحتى بعد ما يقرب من قرن من انتهاء الحرب الأهلية، قال 22 بالمائة من المشاركين في الاستطلاع أنه لا يزال موضوع “شديد الحساسية” لدى عائلاتهم.

ومع هذا، فإن المجتمع الفنلندي يقدّر عملية القانون والديمقراطية والعمل معًا من أجل الصالح العام. وقد ساعد هذا على الشفاء، قدر الإمكان، من ندوب الحرب الأهلية.

وقال رئيس فنلندا، Sauli Niinistö (ساولي نينيستو)، في خطاب ألقاه في 1 يناير 2018: “استغرق الأمر عدة عقود لكسب ثقة كاملة بالديمقراطية، فولدت الوطنية التشاركية”.

ومن الدروس المستقاة من الحرب الأهلية، على حد قوله، هو أن “هناك تنوع، وأن لدى الناس خلفيات وقناعات وأهداف مختلفة، ولدينا الحق في الاختلاف. هذا شيء لابد أن نكون قادرين على احترامه، مهما اختلفت طرق تفكيرنا.”

______________

مقالات

1 Commentاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *