سالم الكبتي
الانتخابات مصيدة
(الانتخابات مصيدة المغفلين) سارتر، في مقال له بمجلة الأزمنة الحديثة خلال ثورة الطلاب في باريس ـ مايو 1968.
1964 إطلالة العام في ليبيا بدأت مع الشتاء القادم لتشهد سلسلة متصلة من الأحداث. مظاهرات يناير. صدام الطلبة مع البوليس في بنغازي ومثله في الزاوية والجميل. ضحايا وجرحى وتعطل الدراسة فترة قاربت الشهرين. استقالة حكومة د. محي الدين فكيني. حكومة جديدة برئاسة السيد محمود المنتصر. ثم مفاوضات الجلاء بعد خطاب عبد الناصر يوم السبت 22 فبراير.
تأثر بما يسود المنطقة. الملك يلوح باستقالته. ناور بها وتراجع. لم يعجبه تسرع الحكومة في التداعي مع ما قاله عبد الناصر حول القواعد في المنطقة في ذلك الخطاب. رماد تحت الجمر أو جمر تحت الرماد. الصحف تصدر. تغلق ثنتان منها.. البلاغ والشعب. تعود الدراسة والقلق والفراغ والبرلمان في دورته الثالثة يناقش القضايا. الملك يشارك في مؤتمر القمة الثاني بالأسكندرية .
.. ثم الانتخابات معلنة انتهاء دورة البرلمان العادية لاختيار أخرى. والمشاكل التي فتحت أبوابها دون سابق إنذار أو تمهيد مع تلك الانتخابات. ودهاليز السياسة في كل الأحوال لاتعرف الأخلاق. هناك أولويات على الدوام تظل في مجريات الأمر والسياسة رغم كل ما يقال. ذلك كله يحدث في العالم أيضا، وليبيا لم تكن استثناء. وفي الانتخابات تحدث الألاعيب وتطل التأثيرات القبلية والتحالفات والمصالح في أغلب الوجوه أكثر من الدافع الوطني الذي يظل يتأخر كثيرا وسط الحلبة والجري أو الصراع خلالها .
كالعادة يغادر الصيف بنسائمه ويقدم الخريف ومعه تشرع السلطات في الإعداد للانتخابات القادمة التي حدد لها يوم العاشر من شهر إكتوبر موعدا لإجرائها في كل الدوائر الانتخابية التي بلغ عددها (103) عبر مناطق البلاد طولا وعرضا. وساد الحماس الجميع وتقدم الكثيرون للترشح وأعلنوا عن ذلك بمختلف الوسائل.
كان من بين الاستعدادت لهذه الانتخابات حث النساء على المشاركة. وطلب منهن الحضور للتسجيل في مراكز الانتخاب (سافرات) حتى يتمكن مأمور التسجيل في كل مركز من التعرف على شخصياتهن. كانت تلك المرة الأولى التي يشاركن فيها في عملية الاقتراع .
الرأي العام ظل بدوره يتابع ما يدور بعد أن انتهى من متابعة الإعلان عن نتائج التعداد العام الثاني الذي أجري في البلاد ذلك الصيف وبناء عليه تم الإعداد للانتخابات. والصحف، خاصة المستقلة، تابعت في اللحظة نفسها تلك المسألة خطوة خطوة. فعلى سبيل المثال، قامت صحيفة الحقيقة الصادرة في بنغازي في عددها الأسبوعي الصادر يوم السبت الموافق للسادس والعشرين من سبتمبر 1964 باستفتاء قامت بنشره على كامل صفحتين من العدد وقابلت من خلاله مختلف الناس من مرشحين وناخبين حول المستقبل المنتظر للانتخابات وبرامج كل مرشح ونواياه.
سألت المرشحين عن الأسباب التي دعتهم للترشيح وعن منهاج عملهم القادم وعن فكرتهم للمرحلة الآتية ورأيهم في درجة الوعي السياسي والانتخابي لدى المواطنين. وسألت الناخبين عن الشروط التي يودون توفرها في كل مرشح. وهل يفضلون في اختيارهم العلاقات الشخصية والقبلية أم مبدأ المرشح واستعداده لخدمة الوطن وهل يحسون بصدق المرشحين الذين سيختارونهم أم أنهم يشعرون بأن ما يعلنه كل مرشح هو مجرد دعاية انتخابية.
كانت أغلب إجابات المرشحين تتحدد في الحرص على خدمة الصالح العام وحماية ثروة الشعب من الضياع والعمل على تصفية القواعد الأجنبية وتحقيق حياة أفضل للشعب ومعالجة الفساد والقضاء عليه. والواقع أن أغلب هؤلاء المرشحين اتفقوا على أن المرحلة القادمة من أخطر المراحل التي تمر بالوطن وأن هناك ارتفاعا في درجة الوعي لدى الشعب.. في ما كانت ردود الناخبين تشترط في المرشح النزاهة والتصميم على العمل للمصلحة العامة والإخلاص وأن ماضي المرشح وسيرته النظيفة هي التي تجعل من الناخب يتحمس لاختياره.
وأشار بعضهم إلى أنه لو كان لدينا أحزاب سياسية لما حدث تردد لديه في اختيار المرشح المناسب الذي يعتقد أنه سيقدم خدمات جليلة للبلاد. ولاحظ البعض أيضا أن ما يقال من المرشحين هو مجرد دعاية انتخابية ووعود لا أكثر ولا أقل، ولقد سبق أن خدع في انتخابات مضت وفي هذه المرة سوف لن يعطي صوته إلا للشخص الذي يثق فيه.. وكلام كثير من هذا القبيل.
ثم اتجه الاستفتاء على صوت المرأة ورأيها فقد أشارت بعضهن إلى أن إجراءات التسجيل لاتعني إلا التعجيز للمرأة وعرقلتها في القيام بواجبها بالطريقة التي أعلن عنها وأكدن، من جهة أخرى، على أنه ينبغي أن لا ينتخب المرشح لماله أو لجاهه أو لنسبه أو لقرابته، وإنما لصلاحيته على ضوء ما قدمه من خدمات صادقة وماعرف عنه من نزاهة واستقامة وأن الناخب الواعي لايقيم أي اعتبار للعلاقات الشخصية أو القبلية.. ولكن، حسب تساؤلهن، أين الوعي الانتخابي الصحيح في مجتمعنا؟
حين اقترب الموعد المحدد ليوم الانتخاب غادر رئيس الحكومة البلاد إلى الخارج بغرض العلاج وأناب عنه أكبر أعضاء الوزارة سنا وأقدمهم السيد إبراهيم بن شعبان. تدخلت السياسة وضروراتها.
أبعد ما يسمى بالاستحقاق الدستوري وحق المواطن وكان للحكومة بالطبع رأي آخر نفذته وأصاب الجميع بالصدمة.
وفي التاسع من إكتوبر أصدر المراقب العام للانتخابات السيد أبوبكر الزليطني إعلانا بأسماء المرشحين ورموزهم (ألوان صناديق الترشيح) ومواقع نقاط الاقتراع. وكان في الواقع قد سبق ذلك – تحديدا في السادس والعشرين من سبتمبر – اعتقال مجموعات من المرشحين وإجبار البعض منهم على الانسحاب.
الحكومة قادمة على مرحلة قد تكون صعبة وتريد الفوز لأغلب مرشحيها. لاتبغي التشويش أو المزيد من المعارضة داخل البرلمان بصريح العبارة.
ولوحظ أن من بين المشاركين في الاستفتاء الذي قامت به الحقيقة قد أبعدوا ومنعوا من المشاركة!! وترددت على امتداد الرأي العام الكثير من الأقوال.. بشأن الانتخابات وبيعت الأصوات.
ففي إحدى المناطق شرق البلاد بلغ سعر الصوت خمسة وعشرين جنيها، وفي بنغازي وحدها قيل بأن أحد المرشحين يشتري الصوت باثني عشر جنيها.
وفي غرب البلاد حدثت أشياء كثيرة من هذا الذي جرى. وتردد أيضا بأن الحكومة ساعدت مرشحيها ماليا. ضاع بذلك الضمير والديمقراطية البرلمانية وفقد المضمون الوطني والاجتماعي للبرلمان بهذا الشكل الذي وصلت إليه انتخابات عام 1964..
وتبين للجميع حدوث عمليات تزوير واضحة ومؤسفة في سيرها ما كانت لتقع، وكان ينبغي أن تعالج أسبابها بالطريقة الدستورية الحقة التي تغطي أركان البلاد وفقا لدستورها الصادر عام 1951 ثم بتعديلاته التي تمت عام 1963.
إضافة إلى ما شهدته كثير من مراكز الاقتراع من مواجهات وصراعات ومعارك غذتها المصالح القبلية وتأثيراتها والتعصب لها دون مبرر واقتيد العديد من هؤلاء للتحقيق في مراكز الشرطة وتم سجنهم بضعة أيام وعولج عدد منهم في المستشفيات نتيجة لما لحقهم من جروح وإصابات .
عاد الرئيس من العلاج وعلم بما حدث في مسألة الانتخابات والتزوير المشين الذي صاحبها وغير نائبه واستبعده من الوزارة ثم افتتح الملك البرلمان بالنتائج التي أعلنت .
لم يقف المرشحون المبعدون أو الذين أضيروا من عمليات التزوير على الرصيف. بل وحدوا موقفهم الوطني ضد ما حدث اختراقا للدستور والحرية وتوجهت مجموعة منهم من طرابلس وبنغازي حاملين عريضة طويلة إلى الملك محاولين مقابلته في طبرق.
كان ذلك في أواخر إكتوبر 1964، غير أنهم منعوا عند الوصول إلى مفترق شحات من مواصلة السير عبر حافلاتهم التي حوصرت من قبل قوات الأمن وظلوا أياما ينتظرون ولم ينسوا خلالها كرم أهل شحات وشبابها الذين لم يبخلوا عليهم بالعناية والقيام بما يلزم من مساعدة.
وصل إليهم رئيس الديوان الملكي د. علي الساحلي مبعوثا من الملك. قابلته مجموعة مثلت القادمين وهم.. مصطفى بن عامر وعلي مصطفى المصراتي ومحمود صبحي. أبلغهم بحالة الملك الصحية وتسلم منهم العريضة التي نددت بالتزوير وإفساد الانتخابات وطالبت الملك بالإصلاح والتدخل وحددت مطالبها في ثلاث نقاط :
الأولى. حل مجلس النواب لأنه لايمثل الشعب فقد تم بالتزوير .
الثانية. إعادة الانتخابات في جو من الحرية .
الثالثة. محاكمة رجال البوليس الذين قاموا بالاعتداءات على المرشحين والناخبين .
وقرر بعضهم، بعد العودة من ذلك اللقاء، خوض المعركة الانتخابية القادمة إذا حصلت على المدى القريب أو البعيد. وبالفعل استجاب الملك لتلك المطالب ووصلت إلى سمعه العديد من المعلومات عن مجريات الانتخابات، فأصدر بعد ثلاثة أشهر مرسوما بحل البرلمان في اليوم الثاني عشر من فبراير 1965.
أعيدت الانتخابات من جديد في الثامن من مايو 1965 في (91 دائرة) بدلا من (103) في كافة المدن والمناطق والقرى وتردد أيضا بأن بعضها شهد عمليات تزوير وتفريغ لصناديق مجموعة من المرشحين لصالح أخرين !
كانت تلك آخر الانتخابات التي شهدتها ليبيا في فترة العهد الملكي. وقام الملك أيضا لآخر مرة بافتتاح هذه الدورة يوم الثاني والعشرين من مايو 1965 وتزامن ذلك مع وقائع وأحداث حرائق تفجر أبار البترول المشهورة.
تلك الدورة ظلت في التاريخ الليبي المعاصر آخر دورة نيابية يفترض أنها تنتهي عام 1969. وهناك شد الكثير من المسؤولين على قلوبهم تهيبا من المسؤولية المنتظرة. الملك غادر البلاد. لم يعلن أي شيء عن المرحلة النيابية التالية وانتخاباتها. وتداعى الفراغ بلا انقطاع.
انتهت التجربة البرلمانية على مدى دورات فترة الاستقلال بضمها في مجملها على عدد بلغ حوالي (120) عضوا في مجلس الشيوخ ومايقارب.. (300)عضوا في مجلس النواب. تغير بعضهم بالوفاة أو الاستبدال.
وشهدت تعاقب العديد من الرؤساء للمجلسين.. 1. عمر باشا الكيخيا 2. علي باشا العابدية 3. محمود بوهدمة 4. عبدالحميد العبار.. للشيوخ. وللنواب. 1. عبد المجيد كعبار 2. سالم لطفي القاضي 3. مفتاح عريقيب.
والعديد من الموظفين والعاملين الليبيين الذين أداروا مرافق وشعب المجلسين طيلة هذه الفترة وتدوين المحاضر وإصدارها. في التاسع والعشرين من مارس 1967 أصدر الملك قانونا بتعديل المادة 94 من الدستور وقضت بأن يؤلف مجلس الشيوخ من اثنين وأربعين عضوا يعينهم الملك وهؤلاء الأعضاء يعينون لهذا التعديل تنتهي عضوية نصفهم بطريقة القرعة في 24 مارس 1972.
وتنتهي عضوية النصف الآخر في 24 مارس 1976. وذلك لم يحدث، فقد سبق التغيير في سبتمبر 1969، ذلك التعديل في المادة الدستورية.
تبدلت الأمور
في ظهيرة اليوم الأول من ذلك الشهر أذيع من طرابلس بيان طويل تضمن في بنده الأول الإعلان عن سقوط المؤسسات الدستورية التابعة للعهد (البائد) من مجالس وزارية وتشريعية وتعتبر هذه المجالس مجردة من سلطانها وأن أية محاولة معادية من الساسة القدامى ستقابل برد عنيف لن يكون في حسبانهم وأن الأمر الآن يعود إلى سلطة مجلس قيادة الثورة وهو يمثل السلطة الوحيدة في هذا القطر. ثم جرت في الأنابيب مياه عديدة وتسربت منها غدران تحت الشمس وفي الظلام على مدار عقود قادمات .
من طرائف المرحلة النيابية أرسل أحد السجناء بسجن باب بن غشير المركزي يحمل الرقم 433 عريضة إلى الملك بتاريخ الثالث عشر من مارس 1962، شرح له فيها أسباب وضعه في السجن نتيجة لمشاكل حدثت في انتخابات البرلمان عام 1962 في غريان.
وقع له صدام مع رجال البوليس ونشأ عن ذلك إصدار عقوبة في حقه بالسجن. وشكى من سوء المعاملة له داخل السجن ومنها منع زوجته التي اصطحبت طفليهما لزيارته لسبب هو اسميهما.. فالأول عمره تسعة وثلاثين شهرا وأسمه أندريه جروميكو والثاني اسمه جمال نهرو وعمره مائة وعشرة شهرا !!
مرحلة مضت بتعقيداتها ومشاهدها وتجربتها التي كان ينتظر لها المزيد من النضج.. لكنها غادرت مصحوبة ببعض الطرائف إلى أطياف الماضي والتاريخ البعيد !!
النهاية
_______________