محمد مصطفى الهوني

الجزء الثاني

إن اقتراح الأخذ بنظام المحافظات العشرة واعتمادها كتقسيم إداري في الدستور وإعطاء كل منها الاستقلال الإداري والمالي الكاملين عن السلطة المركزية هو اقتراح فضلا عن غرابته فمن الصعب هضمه وقبوله فهو يهدر ويخالف قاعدة الأغلبية المعروفة في النظام الديمقراطي، وذلك بالنسبة لإجازة الدستورعند الاستفتاء عليه بنسبة 60% في محافظات ثمانية بالعدد، ومن خلال ذلك الاقتراح يتبين أن هذه المحافظات لا تعتبر وحدات حكم محلي تعمل في إطار سلطة الدولة المركزية الواحدة ولكنها بحق هي أقاليم أو مقاطعات منفصلة عن جسم الدولة نظرا لما تتمتع به من استقلال واسع وسلطات، فهي أقرب ما تكون إلى نظام الولايات السابق تطبيقه في العهد الملكي في الفترة من 1951 إلى 1963م.

كما أنه مما يجب التنويه إليه هو أن القانون رقم 8 لسنة 1964 السالف الإشارة إليه قد جاء في أعقاب إلغاء العمل بنظام الولايات وإقرار نظام الدولة الواحدة، إذ إنه صدر بعد مضي عام على إعلان قيام (المملكة المتحدة) كدولة موحدة.

كما أنه من ناحية أخرى عُدل بقانون آخر في شان الإدارة المحلية صدر بتاريخ 1 سبتمبر 1967 حيث زاد عدد أعضاء مجالس المحافظات من 12 إلى 24 عضوا، كما أُضيفت (نيابات المتصرفيات) كوحدات إدارية، إلى جانب المتصرفيات والمديريات، كما صدر في السنة التالية، القانون رقم 19 لسنة 1968م بشأن البلديات، التي كانت أحكامها تنظمها النصوص الواردة في القانون رقم 8 لسنة 1964 السالف الإشارة إليه، ومن ثم فإن المناداة بإعتماد نظام المحافظات المشار إليه، واتخاذه شكلا سياسيا لدولة ليبيا المستقبل.

وفقا للرؤية آنفة الذكر، ما هي في الحقيقة إلا تطبيقا لللا مركزية الإدارية المعروفة في النظم الإدراية، إذ إن الأولى تتعلق بالنظام السياسي ـ في الدولة التي تأخذ بالنظام الاتحادي أو الفيدرالي الذي يتم على أسبابه توزيع السلطات بين تلك الدولة، والولايات أو المقاطعات التابعة لها، والتي تتمتع بنوع من الاستقلال في إطار أحكام قانونها الأساسي أو دستورها الخاص بها، بينما يعبر مفهوم اللامركزية الإدارية عن نظام إداري، توزع بواسطته الصلاحيات والسلطات (الوظائف الإدارية) بين السلطة الإدارية المركزية، والوحدات والمرافق الإقليمية أو المحلية، التي هي عبارة عن وحدات إدارية خالصة، وبناء عليه فاللامركزية السياسية لا توجد إلا في الدولة الاتحادية، دون الموحدة، بينما نظام اللامركزية الإدارية يوجد في الدول الاتحادية والدول الموحدة.

من خلال الاطلاع على النصوص الواردة في القانون عامي 1967 و 1968 المشار إليهما، نجد أنها تضمنت أحكاما جديدة متطورة، حيث منحت الشخصية الاعتبارية، والذمة المالية المستقلة لكل من البلديات والمحافظات، كما أنها أعطيت صلاحيات واسعة تمكنها من أداء جميع الخدمات التي يحتاجها المواطن في نطاق حدودها الجغرافية، وتقديمها إليه في سهولة ويسر دونما أن يضطر أو يجأ للذهاب، سعيا في طلبها في مدينة طرابلس (العاصمة)، بينما كان المواطن على العكس من ذلك تماما خلال الحقبة من 1969 إلى 2011) إذ إنه عانى من نظام الإدارة المحلية، بسبب الإجراءات الإدارية المعقدة التي كانت تواجههم عند الالتجاء إليها، حيث كانت الجهات الإدارية تطالبهم بإعداد الملفات وتوفيرالمستندات عدة مرات، دون أن تحقق مطالبهم، وطموحاتهم المتمثلة في الحصول على فرصة العمل الشريف، أو توفير السكن أو تلقي العلاج غير المتوفرمحليا، وغيرها من المطالب العادلة.

كل ذلك يرجع إلى سوء الإدارة، وتفشي الفساد في جميع الجهات العامة دون استثناء، بالاضافة إلى الروتين الإداري المعقد الذي أرهقهم طيلة الاربعة عقود الماضية، هذا بالاضافة إلى عدم استقرار وثبات الهيكلة الإدارية للبلاد، والتغيير المستمر في عدد ومسميات الوحدات المحلية، وذلك منذ صدور القانون رقم 62 لسنة 1970م بشأن الحكم المحلي، بتاريخ 27 مايو 1970م الذي ألغي بموجبه قانون الإدارة المحلية الصادر عام 1967م، وقانون البلديات رقم 19 لسنة 1968م، المشار إليه.

كما قسمت ليبيا إلى عشر محافظات، بموجب القانون رقم 89 لسنة 1970م، هي نفس المحافظات عدا استحداث محافظة الخليج وإلغائه لمحافظة أوباري، ثم الغي القانونان رقم (62 ـ 89) المشار إليهما بموجب القانون رقم 130 لسنة 1972م الصادر بتاريخ 26 سبتمبر 1972م، ثم غيرت هذه المحدات المحلية عدة مرات وبمسميات مختلفة، من بلديات وفروع بلديات إلى مؤتمرات ومحلات، إلى مناطق، ثم أخيرا شعبيات بدون لجان، وذلك منذ عام 1998م وحتى قيام ثورة السابع عشر من فبراير، وما رافق ذلك من إلغاء ودمج مصالح وهيآت وأجهزة وأمانات، بحيث أصبحت مصالح المواطن موزعة على عدة جهات، لا يعرف أيها صاحبة الاختصاص، لكي يتلجئ إليها بطلبه، يضاف إلى ذلك ما عرف عن هذا النظام الفوضوي من تركيز السلطات الإدارية في طرابلس، التي كانت سابقا في مدينة سرت وبقيت فيها عدة سنوات بسبب انتقال جميع الامانات إليها.

وإذا كان الأمر كذلك فيجب ألا تتخذ الصيغة الفيدرالية، أو نظام اللامركزية الإدارية (الموسعة) أو كرد فعل على التطبيق السيئ لا للامركزية الإدارية في العهد الفاسد، على النحو الذي سلف بيانه، لأن ذلك التطبيق لا يجب أن يتخذ مقياسا ولا منطلقا للتوجه نحو النظام الاتحادي بالصورة المقترحة، لذا فإنني أرى أنه ليس هناك ما يمنع من الأخذ بنظام إداري رشيد وفقا للتقسيم الوارد بقانون الإدارة المحلية الذي كان مطبقا في العهد الملكي، وهو عشر محافظات مع العودة إلى العمل بنظام البلديات، بحيث تتمتع هذه الوحدات المحلية بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة عن الأجهزة والسلطات المركزية التي يجب أن يقتصر دورها على مجرد التخطيط ومتابعة التنفيذ في تلك الوحدات.

كما يجب تطوير نظام الإدارة المحلية، بإشراك المواطنين في إدارة الوحداث المحلية عن طريق الانتخاب، واعطائها صلاحيات واسعة، بما يحقق مزيدا من اللامركزية الإدارية، بالشكل الذي يقرب إلى المواطن، جميع الخدمات المتعلقة بحاجاتهم الضرورية، وأحوالهم المعيشية، وبما يمكنه من معالجة جميع مشاكلهم في النطاق المحلي، وتسهيل كافة الإجراءات بحيث يتمكنون من مراجعة الجهات العامة والدوائر الرسمية في مدنهم وقراهم، دون الذهاب إلى العاصمة.

لذا أخلص من ذلك كله إلى القول بأني لا أري أي مبرر للأخذ بهذا النظام الانفصالي بعد تحقيق ليبيا لوحدتها، وهجرها لنظام الولايات منذ أمد بعيد، كما أن الاستجابة لمثل هذه الدعوة، تعد خيانة لدماء الجرحى والشهداء الأبرار، التي يجب ألا تضيع هباءً منثورا، كما أنها تعتبر بحق نكسة حقيقية، وعودة إلى الخلف، بدلا من التطلع إلى الأمام، خاصة بعد هذا الانتصار الباهر الذي تحقق على أيدي أبطال ثورة فبراير، إذ مقبلون ـ بعون الله ـ على إقامة دولة ليبيا الجديدة، التي يجب أن نحرص كل الحرص على أن نبني مؤسساتها على قواعد متينة ودعائم قوية، بحيث تكون دولة القانون والمؤسسات، وأن نقطع صلتنا تماما بالماضي البغيض وجميع سلبياته، وأن ننبذ جميع اسباب الاختلاف والفرقة، بشتى أشكالها وصورها.

عاشت ليبيا على الدوام دولة موحدة مستقلة

______________

المصدر: “المواطنة” مجلة دورية تعنى بالشؤون الفكرية والثقافية والسياسية ـ السنة الاولى ـ العددان الأول والثاني (2011) ـ المجلة صادرة عن منتدى المواطنة للديمقراطية والتنمية البشرية.

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *