د. محمد عاشور مهدي
حينما هبت رياح التغيير والثورة على كل من تونس ومصر، أكد المراقبون والمحللون السياسيون أن ثروات ليبيا كفيلة بألا تجعل الشعب الليبي يثور، غير أن الليبيين أنفسهم كان لهم رأي آخر!.
الجزء الأول
تصاعدت الاحتجاجات ضد النظام السياسي، وتحوّلت الاحتجاجات السلمية في ليبيا منتصف (فبراير) 2011 إلى مواجهات دموية بين النظام والثوار، على عدة جبهات ما بين الشرق والغرب.
كشفت الاحتجاجات الستار عن أسباب أخرى كانت تحت الرماد دفعت الليبيين لاختيار الثورة رغم الثروة، أبرزها الفساد في كافة المناحي، وعدم العدالة في توزيع الثروات، وحالة التخلف الذي تعيش فيه ليبيا رغم ثرائها بالنفط، وغياب المعارضة الحقيقية، وانسداد قنوات التواصل، فضلا عن “القمع الأمني” عبر اللجان الثورية، والذي امتدت أذرع قمعه إلى الخارج لتلاحق كل من يختلفون مع النظام، إلى الحد الذي دفع إلى وصف النظام الليبي بأنه نظام قمعي بامتياز داخليا وإرهابي خارجيا.
وتفاعلاً مع الأزمة، صدر القراران الدوليان رقما 1970 و1973، والذي تضمن أولهما إقرار عقوبات دبلوماسية ومالية على النظام، وفرض الثاني حظر طيران فوق ليبيا وأكد على حماية المدنيين بكل الوسائل اللازمة، وهو الأمر الذي حد كثيرا من قدرات النظام الليبي في استخدام قواته الجوية، وحرم قواته البرية من غطائها الجوي.
رغم ذلك، لم تنجح قوات المعارضة في حسم الصراع لصالحها في ظل افتقارها للجنود المدربين والعتاد مقارنة بقوات النظام، حيث جرى التذرّع ابتداءً بنص القرار 1970 لمنع توريد السلاح إليهم في مساواة نظرية بينهم وبين النظام، كما تمسّكَ حلف شمالي الأطلسي “الناتو“ بالتطبيق الحرفي للقرار 1973، والذي لا يسمح بأكثر من حماية المدنيين، مع محاولة إنهاء الصراع بتسوية سياسية معينة. وفي ظل ذلك التوازن وصلت المسألة إلى ما يشبه حالة الجمود في أرض الواقع.
وتهدف تلك الدراسة إلى عرض ملامح التشابه والاختلاف بين تطورات الأحداث في ليبيا مقارنة مع نظيرتها في كل من تونس ومصر، ثم تناول أهم أسباب حركة التمرد الليبية التي تصاعدت إلى حرب أهلية، وعوامل وصول الحالة إلى ما يشبه الجمود، ثم السيناريوهات المحتملة لمسار الأحداث مستقبلاً.
أحداث ليبيا والثورات العربية:
ملامح التشابه والاختلاف
يمكن القول أن مختلف الثورات والحركات الاحتجاجية التي شهدتها المنطقة العربية في الأشهر الأخيرة من عام2010م ومطلع عام 2011 قد تشابهت في مجموعة من الخصائص والسمات يمكن إجمالها فيما يلي:
– أنها في مجملها كانت ثورات واحتجاجات من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أكثر منها من أجل لقمة العيش والخبز، وإن مثل الأخير وقودا رافدا لمزيد من المشاركة من جانب فئات الشعب المختلفة في مرحلة تالية من اندلاع حركات الثورة والاحتجاج.
– أن مطالب تلك الحركات جميعها قد ركزت على الإصلاحات الداخلية بالأساس، ولم يكن للسياسات الخارجية موقعا يذكر فيما يتصل بمطالب تلك الجماعات الاحتجاجية في بدء الأمر.
– تشابهت جميع تلك الحركات أنها بدأت سلمية الطابع، رغم كافة محاولات النظم لوصمها بالتمرد والعنف وجرها إلى مواجهات تبرر للنظم تصعيد استخدام آلة القمع في كبح جماح تلك الحركات السلمية والقضاء عليها.
– مثّل الشباب والطبقة الوسطى الوقود الأساسي لاندلاع حركات التمرد والثورة، وذلك على عكس كثير من التوقعات والصور الذهنية عن هاتين الفئتين (الشباب، الطبقة الوسطى)، حيث ساد الاعتقاد بأن الثورات إن قامت ستكون ثورة الغوغاء والجياع، وأن الشباب بانشغاله بتافه الأمور من أنشطة يومية وإعلام وفراغ ثقافي وعلمي غير قادر على استيعاب الواقع ناهيك عن تغييره، والاعتقاد بأن الطبقة الوسطى لم يعد لها وجود في ظل انشغالها بكيفية الصعود للطبقة الراقية، ومخاوفها من السقوط إلى الطبقة الدنيا.
– لعبت التكنولوجيا وثورة الاتصالات دورا أسياسيا في عملية التعبئة والتحضير للثورات ومسيرات الاحتجاج التي شهدتها البلدان العربية المختلفة، كما لعبت المساجد ودور العبادة دورا مماثلا كأطر للحشد وملتقيات للتجمع يصعب على النظم المختلفة إغلاقها ومنع الناس من ارتيادها، خاصة مع كسر حاجز خوف كثير من أئمة تلك الدور من مساجد وكنائس وخروجهم عن التعليمات بالخطابة والعظة في اتجاه بعينه.
– يلاحظ أن جميع الثورات والحركات الاحتجاجية في تيارها العام نظرت للخلاف والصراع على أنه صراع ذا محتوى وطني غير إقصائي على الصعيد الاجتماعي بالمعنى الواسع ولا انقسامي بالمعنى الإقليمي.
– تشاركت كافة الحالات التي شهدتها دول الشمال الأفريقي في انتشار مخاوف فئات نخبوية داخلية وقوى خارجية من هيمنة الإسلاميين على المشهد السياسي في مرحلة التحول وسقوط النظم القديمة، على تفاوت بين تلك الأنظمة من مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي بصفة عامة والسلطة بصفة خاصة.
– أن التأخر والتردد في إحداث إصلاح سياسي حقيقي من جانب النظم السياسية بفعل الصراع بين المؤيدين والمعارضين لهذه الإصلاحات قاد من بين أشياء أخرى إلى التمرد والثورة على النظام ككل لتعاظم الشعور بعدم جدية الإصلاح.
وعلاوة على العوامل السابقة تميزت التجربة الليبية بعدة سمات تفردت بها عن التحولات في كل من تونس ومصر يمكن إجمالها بدورها فيما يلي:
– إفتقرت حركة الاحتجاج الليبية إلى مؤسسات مجتمع مدني تتبناها وتدعمها في ظل عدم وجود مثل تلك المؤسسات على الساحة الليبية وعدم مشروعيتها.
– أنه منذ البداية فُرض على حركة التغيير والاحتجاج التحول السريع عن المسار السلمي إلى حمل السلاح لتدخل مباشرة إلى صراع مسلح مفتوح بين الطرفين (النظام والمعارضة).
– أن طرفي الصراع قد عمدا إلى الاستعانة بأطراف خارجية (المرتزقة، الناتو)، في سعي كل طرف لحسم الصراع لصالحه.
– أنه على عكس الحالتين التونسية والمصرية التي أسفرت عن تداعي رموز النظام والدخول في مرحلة البحث عن صيغة جديدة لمرحلة ما بعد النظم التي كانت قائمة شهدت الحالة الليبية جمودا في أرض الواقع في ظل عجز كل طرف عن حسم الموقف لصالحة.
– أنه على حين اتسم الحوار على شبكة المعلومات في التجربتين التونسية والمصرية بالجدل النظري والنقاش الفكري (لم يخل من تبادل السباب والشتائم بأقذع الألفاظ) فإن الحالة الليبية شهدت غلبة لغة التهديد بالقتل والتصفية في الحوارات التي دارت بين مؤيدي ومعارضي النظام على شاشات الفيس بوك، ومواقع التواصل الاجتماعي، على نحو يبدو معه أن المعركة الدموية قد بدأت على شاشات شبكة المعلومات قبل أن تنتقل إلى أرض الواقع، كما تشير من طرف إلى درجة المفاصلة بين أطراف الصراع، الأمر الذي ستكون له انعكاساته على مساعي التسوية والحل فيما بعد في ظل تعقد أسباب الصراع.
الأسباب الاقتصادية والاجتماعية
على عكس ما يرى البعض، تكشف مؤشرات تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة عن أن ليبيا تعتبر من الدول العربية التي أحرزت تقدما في دليل التنمية البشرية, فبعد أن كانت تحتل المرتبة رقم (64) على المستوى العالمي في التنمية البشرية سنة2000م، تقـدمت إلى المركز رقم (61) في تقرير سنة2001، ثم المركز (55) في تقرير عام 2009م.
فالمركز (52) في تقرير عام 2010م، مع احتفاظها عبر السنوات الثلاث الأخيرة بالمركز الأول على المستوى الأفريقي في التنمية البشرية.
فمن ناحية ارتفع العمر المتوقع عند الميلاد للذكور من 46 سنة في عام1970 م إلى 77 سنة في العام 2001م وارتفع عند الإناث من 48 ســنة إلى 80 سنة عن نفــس الفترة. وبلغ معدل نصيب الفرد من الدخل القومي عام 2007 نحو 7290 دولارا أمريكيا.
وعلى الصعيد التعليمي بلغت نسب من يعرف القراءة والكتابة من البالغين (15 سنة فأكثر) نحو 88.31% كما ارتفعت نسبة استيعاب الطلاب الليبيين في المراحل التعليمية المختلفة.
وكذلك وجود 15 جامعة منتشرة في أنحاء البلاد (مع مراعاة أن الخدمات التعليمية المقدمة بتلك الجامعات أقل بكثير من البنية التحتية المــتوفرة بها).
وعلى صعيد الأمن الاجتماعي تمتعت ليبيا بدرجة كبيرة من الأمن الاجتماعي، بفضل سياسات الدعم السلعي والتأمين الصحي، وكذا الأمن الجنائي في ظل القبضة الأمنية للنظام، وذلك رغم تنامي معدلات الجريمة في العقدين الأخيرين، وهو ما عزاه البعض لتدفق المهاجرين الأفارقة على ليبيا تمهيدا للهجرة إلى أوروبا أو للاستقرار فيها.
وفي تقرير نُشر في عام 2007م، أشاد صندوق النقد الدولي بالسلطات الليبية لإنجازاتها في مجال التنويع الاقتصادي, مشيرا الى النمو السريع في النشاط غير النفطي (7.5٪) والنمو القوي في انتاج النفط (4.7٪) في عام 2006.
وفي المقابل ارتفعت معدلات التضخم السنوي إلى حد كبير من مستويات متدنية في النصف الأول من عام 2007 إلى حوالي 11٪ في الربع الثالث من هذا العام بسبب الزيادة في الأجور العامة وكنتاج لزيادة أسعار الواردات لاســيما الأغذية.
وعلى الرغم من تلك المؤشرات، فإن الكثيرين من داخل ليبيا وخارجها يرون أنه منذ استيلاء القذافي على السلطة بانقلاب عسكري ضد الملك إدريس عام 1969، فقدت ليبيا فرصا عديدة لنهضة شعبها وتقدمه.
فالحكم الشخصي الذي اعتمد على عائلة القذافي ودائرة ضيقة من المقربين والأتباع، أدى إلى حرمان الجماهير العريضة من عوائد الثروة في بلادهم.بل واستخدام تلك الثروة في شراء الأنصار، وترويض المعارضة أو قمعها.
فرغم الثراء النسبي للشعب الليبي مقارنة بشعوب عربية أخرى، (تقدر أرصدة النظام الليبي بما يزيد عن 200 مليار دولار من الفوائض المالية النفطية، علاوة على خمسين مليار دولار تدخل الخزينة الليبية سنويا)، فإنه توجد حالات تفاوت كبير في توزيع الثروة، فبدلا من التوزيع العادل لمليارات الدولارات من العوائد النفطية على الشعب الليبي، استأثرت بها دائرة ضيقة تلتف حول القذافي وعائلته.
ويبدو أن الوصف الدقيق لهذه العقود الأربعة التي هيمن عليها “الأخ العقيد” هو: تبديد أرصدة الثروة والقوة في المجتمع الليبي(8). علاوة على ما بدده “القذافي“ وأولاده من ثروة المجتمع الليبي على شراء الأسلحة، وتكديس ثرواتهم المالية في الغرب.
مستفيدين في ذلك من الحصار الذي فُرض على ليبيا لعقود طويلة استطاع النظام خلالها تبرير إخفاقاته بذلك الحصار، وقد شهدت الفترة ذاتها تنامي شبكات التهريب وغسيل الأموال التي تورط فيها بعض كبار موظفي الدولة.
ويمكن القول، أن الانفتاح على الغرب وتدفق الاستثمارات والشركات الأجنبية منذ عام 2003م للمشاركة في مشروعات البنية التحتية الطموحة للنظام، والتي قٌدرت تكلفتها ببلايين الدولارات (150 بليون دولار)، لم يحمل كثير تغيير في معادلة السلطة والثروة والفساد.
بل زاد من تفاقم الوضع ما تزامن مع ذلك الانفتاح من حديث عن مشروعات لبيع الممتلكات العامة للقطاع الخاص، حمل معه مخاوف كثيرة للطبقات العمالية والفئات الاجتماعية المتوسطة والدنيا، بفعل تسارع وتيرة الانفتاح وتفشي الغلاء على الرغم من محاولات النظام ملاحقه الغلاء بزيادة الرواتب والأجور.
إلا أن ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد حال دون نجاح تلك الزيادات، أو الوعود بتوزيع عوائد البترول على الشعب، في الحد من آثار السياسات الاقتصادية الرأسمالية السلبية على قطاعات عريضة من المجتمع.
وهو ما دفع الليبيين للخروج في عمليات احتجاجية تفاوتت قوة وضعفا عبر الزمن وصولا إلى الصدام المفتوح مع النظام وأنصاره في منتصف فبراير 2011م، بفعل شعورهم بعدم العدالة في توزيع الثروات، وأن خيرات بلادهم يتم نهبها دون أن يحصلوا منها إلا على الفتات.
تلك الاحتجاجات إضافة إلى تعارض برامج الإصلاح التي قادها رئيس الوزراء شكري غانم (2003-2006) مدعومة من سيف القذافي، مع مصالح بعض قيادات الحرس القديم من اللجان الثورية، ورجال الأعمال الذين تضررت مصالحهم بفك الحصار عن ليبيا والانفتاح على الغرب، قادت إلى استقالة شكري غانم وتولي نائبه البغدادي المحمودي ذي التوجه المحافظ.
علاوة على ما سبق يمكن الإشارة إلى عامل آخر ساهم في تصاعد الاحتجاجات ضد النظام وهو التغير الديموجرافي وازدياد شريحة الشباب العمرية، وانفتاحهم على العالم الخارجي، فالشباب الليبي الذي يشكل حوالي 52% من مجموع السكان (تحت سن 25 عاما) لم يكن مستعدا أن يقبل التناقضات بين الشعارات والسياسات التي تربى عليها ونشأ في إطارها والتي تؤكد على قيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وملكية الشعب وبين واقع يناقض ذلك تماما في ظل سياسات الانفتاح والخصخصة، التي هددت قطاعات كبيرة من هؤلاء الشباب، بل وهددت مصالح بعض أنصار النظام، الأمر الذي خلق شعورا بعدم الرضا تجاه تلك السياسات.
وقد عبرت مجموعات ليبية على شاشات الـ “فيس بوك” عن أن “بلادهم رغم أنها تأتي في مقدمة البلاد العربية الغنية بالنفط، فإنها تأتي في مؤخرة البلاد العربية تقدما وتطورا“، بل إنها “تبدو مثل دول العالم الثالث الفقيرة، بل والفقيرة جداً“.
وعلى صعيد البعد القبلي يمكن القول إن العقيد القذافي وإن كان –في بداية حكمه– قد جعل إلغاء نظام القبلية واحدًا من المبادئ الأساسية لثورته، إلا أنه بعد نحو ربع قرن من الحكم وتحديدا في عام 1994م.
ورغبة في ضخ مزيد من الحيوية والمشاركة الشعبية في مؤسساته الشعبية، قام بإنشاء لجان شعبية للقيادات الاجتماعية، قوامها الأساسي القيادات القبلية. وهو ما ترسخ وازداد وضوحا عام 1997م مع توقيع قادة القبائل على ما عرف بـ“وثيقة الشرف“ التي تعهدوا بمقتضاها بالولاء للنظام الثوري، والتكاتف ضد أي عشيرة أو قبيلة تقوم بأي معارضـة مسلحة للنظام.
أكثر من ذلك فإنه كثيرًا ما استغل الخصومات الداخلية بين القبائل من أجل إحكام قبضته على السلطة. و طوال فترة حكمه الاثنين وأربعين عامًا كوّن العقيد “القذافي” شبكة من المؤسسات المتناحرة، يتلاعب بهم في مقابل بعضهم البعض لمنع ظهور أي منافس له.
الأسباب التاريخية السياسية
علاوة على الأسباب الاقتصادية الاجتماعية فإن الثورة القائمة في ليبيا تعود لاعتبارات وعوامل تاريخية وسياسية أيضا.
فتاريخيا كان هناك تنافس ضمني بين ولايات شرق ليبيا وغربها على المكانة والسيادة, واقتصاراً على حقبة حكم العقيد القذافي، يمكن القول أنه وإن كانت الولايات الشرقية وبخاصة بنغازي أكثر المدن الليبية التي ساندت حركة الانقلاب التي قادها “القذافي” عام 1969 في سنواتها الأولى ضد النظام الملكي، فإن تحول تلك المدن إلى معقل للمعارضة الإسلامية وغير الإسلامية، ومصدراً للاضطرابات والمحاولات الانقلابية ضد نظام “القذافي” منذ السبعينيات من القرن العشرين وما بعدها، قاد إلى مواجهات عنيفة بين الطرفين وموجة من هجرة الكفاءات والمهنيين إلى الخارج قدرها البعض في الثمانينيات بنحو ثلاثين ألف مهاجر اتجه معظمهم إلى أوروبا.
ذلك ما رسخ حالة القطيعة بين “القذافي” ونظامه وتلك المدن، في ظـل فجـوة عــدم الثقة بين الطرفين، ومحدثا حلقة مفرغة عناصرها: الإقصاء والقمع الذي يقود إلى الاحتجاج والتمرد، فيقود بدوره لمزيد من القمع والإقصاء وهكذا.
وعلى الصعيد السياسي، يمكن القول إنه عبر عقود حكم القذافي تآكلت أسس شرعية النظام الليبي، والتي تمثلت في أربع ركائز أساسية: أولها: الثورية القومية، وثانيها: المساواة والعدالة الاجتماعية، والركيزة الثالثة: شرعية الكرامة والهوية الوطنية، وأخيرا القيمة الرمزية للقذافي كمناضل ضد (الإمبريالية الدولية).
فمن المعلوم أن أحد الركائز الأساسية للنظام الليبي والتي أكد عليها مرارا العقيد القذافي، هي أنه يمثل امتدادا للثورة الناصرية المصرية، وأنه أمين الوحدة العربية بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وهو أمر كانت له انعكاساته على التوجهات الداخلية والخارجية للسياسة الليبية، أدت بدورها إلى سلسلة من المغامرات على الساحتين الإقليمية العربية والأفريقية وعلى الساحة الدولية.
أحداث 11 سبتمبر 2001م والتي قادت من بين ما قادت إلى تخلي ليبيا عما لديها من أسلحة أو مشروعات أسلحة دمار شامل وقبولها دفع تعويضات باهظة لضحايا حادثتي “لوكيربي“، والطائرة الفرنسية.
فتقلبات السياسة الخارجية الليبية بين السعي للوحدة العربية تارة، والأفريقية تارة أخرى، وما بين مشاريع وحدوية ثنائية حينا، ومشروعات اتحادية جماعية حينا آخر، ومغامرات النظام في دعم ومساندة العديد من منظمات وحركات التمرد في أركــان المعمورة المختلفة, رسخت شعورا بالمرارة لدى قطاعات كبيرة من المواطنين الليبيين بسبب تبديد ثروات بلادهم في تلك المغامرات والسياسات والتعويضات في حين يعاني الكثيرون منهم من الفقر والحرمان النسبي في مجالات التعليم والصحة والمرافق العامة والبنية التحتية، على الرغم من ثراء بلدهم.
وعليه فإنه، مثلما كانت حركة ضباط يوليو 1952م ملهمة لانقلاب 1969م في ليبيا، كانت ثورة 25 يناير2011م، في مصر، ملهمة لشباب 17 فبراير في ليبيا، بالثورة والتمرد على النظام الليبي.
وعليه فليس غريبا أن تنطلق الشرارة الأولى للانتفاضة الليبية من مدينة بنغازي، التي تأثرت على مر العصور بما يجري في مصر، وكانت الأقرب لها، وأبناؤها الأكثر قومية وتأثراً بالثقافة والسياسة المصريتين.
***
د. محمد عاشور مهدي ـ أستاذ العلوم السياسية المساعد، معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة
____________