علي محمد عكعك

    معظمنا يعرف أن العمر المتبقي للنفط الليبي لا يتعدى الثلاثون عاما في أحسن الأحوال وقد يكون خمسون عاما بالنسبة للنفط العالمي تقريبا.

هكذا تشير معظم التقارير والدراسات العلمية والعالمية. وعليه ينبغي أن نبني سياسة ليبيا الجديدة على أساس هذه الحقيقة المرة, ونفكر ونتصرف من الآن في الاستفادة من هذا المورد في إنشاء مصادر بديلة للدخل تحتل مكانه تدريجيا حتى إذا اقترب موعد رحيل النفط تكون البدائل قد أثمرة وحان أكلها .

نحن كما الأسرة التي وجدت نفسها تعيش في جزيرة نائية في عرض المحيط ولا تمتلك سوى كمية من حبوب الشعير, فإن هي زرعت جزءا منها في الوقت المناسب والمكان المناسب قبل انتهائها تمكنت من الحصول على كمية جديدة لاستمرار حياتها, وإلا فستجد نفسها مهددة بالجوع وربما الفناء.

والأسئلة التي تطرح نفسها الآن وقد امتلكنا زمام أمرنا هي:

1-   ما هي المصادر البديلة الواعدة التي ينبغي ان نستثمر فيها جزءا مهما من دخل النفط الحالي.

2-   ما هي الاستراتجيات التي ينبغي أن نتبناها في أعادة الأعمار وبناء الدولة الحديثة

 حسب رأيي الخاص فإن الإجابة عن السؤال الأول تتمحور حول ستة مصادر رئيسية معظمها باق ما بقى الإنسان على وجه الأرض وهي كما يلي:-

أ‌–       الإنسان الليبي

 وعلى الأخص الأطفال والشباب دون السن الخامسة والعشرون ودون إهمال لبقية الشرائح. فالمثل القائل لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف اصطادهو خير دليل يقودنا إلى الاتجاه الصحيح. ولعل ماضي  وحاضر بعض المجتمعات المتقدمة والناجحة جدا من الدول الصديقة مثل ماليزيا والدول العدوة مثل ما يسمى بإسرائيل, هو خير دليل على نجاح هذا التوجه.

الإنسان المتعلم والمبني أخلاقيا وأكاديميا وتقنيا وثقافيا وصحيا واجتماعيا, هو القادر على بناء دولته والمحافظة عليها والاستمرار الدائم في تطويرها بحيث تتأقلم مع جميع المعطيات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والجيوسياسية.

 لقد استطاع الإنسان الألماني والإنسان الياباني, على سبيل المثال, أن يعيدا بناء دولتيهما بعد الدمار الشامل الذي لحق بهما في الحرب العالمية الثانية وأن يصنعا دول حديثة متقدمة صناعيا واقتصاديا وعلميا بالرغم من نقص الموارد الاقتصادية وخاصة المواد الخام.

ب‌–   الطاقة الشمسية

فهي مصدر دائم ومتوفر بكثرة بليبيا وشمال أفريقيا على وجه العموم. وهو رخيص جدا لتوليد الطاقة الكهربائية, وغير ملوث ومربح جدا من حيث علاقة المبالغ المستثمره بالدخل المتوقع, علاوة على وجود الزبون المتشوق والدائم المتمثل في الجارة أوروبا

وما يميز ليبيا في هذا الشأن هو المساحة الشاسعة المتوفرة وتوفر الشعاع الشمسي طيلة أيام العام تقريبا وبقدر كافي لتوليد الطاقة الكهربائية المستديمة, ثم الموقع الجغرافي المتميز على البحر البيض المتوسط والقريب جدا من أوروبا.

بالإضافة إلى أن التقنية اللازمة لاستغلال هذا المورد بشكل مثمر اقتصاديا هي متوفرة في الوقت الحاضر ولا ينقصها إلا القليل من البحث والتطوير لتكون أكثر فعالية وموائمة للمناخ الليبي بحيث تعطي ثمارها على أكمل وجه.

ت‌–  الثروة البحرية 

هي أيضا من المصادر الدائمة أو شبه الدائمة على الأقل. فالشريط الساحلي الليبي الذي يمتد لأكثر من ألف وستمائة كيلوا مترا, والموقع الجغرافي الطبيعي المتميز لهذا الساحل والتيارات البحرية المتناسقة مع المناخ المعتدل كلها عوامل تساعد وتشجع على استغلال هذا المورد والاستثمار في المزارع السمكية وطرق الصيد الحديثة مع تطوير السبل التقنية اللازمة لحماية هذه الشواطئ من سوء الاستغلال سواء كان ذلك من طرف الليبيين أنفسهم أو من أطراف خارجية تخترق حدود مياهنا الدولية وتسرق ثروتنا السمكية بل وتعرض بعض الأنواع منها إلى الانقراض دون أي اعتبار للقوانين الدولية بهذا الخصوص.

ث‌تجارة العبور

وهي تجارة عاش منها أجدادنا مئات السنين من قبل. وقد يكون العبور جوي وبري وبحري. فالموقع الجغرافي المتميز الذي تمتلكه ليبيا بالقرب من أوروبا ووجود الأراضي المنبسطة الشاسعة القريبة من الساحل مع توفر المناخ المعتدل والخالي تقريبا من التقلبات الجوية والعواصف الممطرة الشديدة التي تعرقل حركة الملاحة الجوية علاوة على بعدنا كل البعد من البراكين المسببة للغبار الخطر على محركات الطائرات وعدم وجود الاضطرابات العمالية, تلك كلها تساعد وتشجع على أن نجعل من مطارات ليبيا محطات عبور للطائرات القادمة من الأمريكتين والقاصدة أوروبا وأفريقيا والعكس.

كذلك الشأن بالنسبة للعبور البري البيني لبضائع دول شمال في أفريقيا علاوة على عبورها من أوروبا إلى أفريقيا والعكس, والعبور البحري من والى أفريقيا من جميع قارات العالم.

وإذا قارنا ليبيا مع دولة الأمارات من حيث الموقع والمناخ وعدد المواني والفرص المتاحة فنجد أن الكفة ترجّح بشدة ألجانب الليبي وهو ما يشجعنا على التفكير في هذا الأمر. ولعله جدير بالذكر أن التجارة تعتبر من الأنشطة الاقتصادية التي نجح فيها الليبيون على مر الأزمان ولولا الضربة القاسمة التي وجهها النظام السابق إلى التجارة واعتبارها ظاهرة استغلاليةفي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي لكانت ليبيا في وضع تجاري متميز ومتفوق بكثير على شقيقاتها من الدول العربية الأخرى بل وعلى بعض الدول الأوروبية كذلك.

لقد كان التاجر الليبي في الستينات وحتى منتصف السبعينات, ورغم تعليمه المحدود,  ناجح بامتياز ومتفوق بأخلاقه ومصداقيته وحسن تصرفه وفطنته وذكائه التجاري الذي أكسبه سمعة طيبة وثقة عالية مع جميع التجار والمصدرين في العالم.

ج‌–   السياحة الشرعية

والمقصود بالشرعية هو خلو المشاريع السياحية من جميع المحرمات التي تنص عليها الشريعة الإسلامية. سوف لن يتقدم المجتمع الليبي المسلم بأموال الحرام, ولن يتقدم أبدا بالسماح للسواح بممارسة الحرام على أرضه وأمام عينيه. وليس من الضروري أن تكون السياحة مصحوبة بالخمر والخلاعة, وربما الميسر والدعارة في بعض الأحوال لكي تنجح.

لقد كان الساعدي ألقذافي يتحدث ويخطط لبناء مدينة سياحية بالقرب من مدينة زوارة تباح فيها جميع المحرمات الشرعية والقانونية ظنا منه أنها ستكون نواة لسياحة متطورة وناجحةفي ليبيا.

وعلى العكس من ذلك تماما, فأنا على قناعة تامة بأن خصوصية السياحة الشرعية وندرتها في العالم, بما في ذلك العربي والإسلامي, قد يجعل منها وسيلة نجاح ممتازة لصناعة سياحية متطورة تذر الدخل المادي الحلال وتوفر مواطن الشغل الشرعية دون المساس بالقيم والأخلاق والنسيج الاجتماعي للشعب الليبي.

ويمكن أن نذكر هنا بمقومات السياحة الناجحة المتوفرة بليبيا من حيث تنوع الأماكن السياحية مثل المدن الأثرية المتكاملة الفريدة من نوعها في العالم, والسياحة الصحراوية ورياضة التزلج على الرمال, وسياحة الشواطئ البحرية الجميلة بالطقس المعتدل المنعش, وغيرها.

والذي ينقصنا هنا هو توفير الخدمات السياحية الراقية من حيث الإمكانيات ومن حيث الإنسان الليبي المتخصص والواعي بأهمية الدور الذي تقوم به السياحة الناجحة في إنعاش الاقتصاد الوطني.

ح‌–   استكشاف الموارد الطبيعية

لقد حبانا الله بالثروة النفطية والغاز في العقود الخمسة الخيرة, وهي نعمة كبيرة جدا لم يحسن النظام السابق استغلالها على مر العقود الأربعة التي حكم فيها البلاد, ولكن لسوء حظنا فلقد تم إهدار القسم الأكبر منها فيما لم ينفع البلاد ولا العباد. وعلينا الآن استثمار جزء مما تبقى من هذه الثروة في الكشف عن موارد طبيعية أخرى دفينة في أعماق أراضينا الشاسعة مثل خام الحديد واليورانيوم وربما خامات أخرى لم تكن في الحسبان تعود على الأجيال القادمة بالنفع والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

أما الإجابة عن السؤال الثاني بخصوص الاستراتجيات التي ينبغي أن نتبناها في أعادة الأعمار وبناء الدولة الحديثة فأنها تتلخص فيما يلي:-

أولا:  لابد أن نأخذ في الاعتبار تخصيص جزء مهم من الدخل المتوقع  للاستثمار في المصادر الخمسة التي وردة سابقا في إجابة السؤال الأول كإستراتيجية متوسطة وبعيدة المدى.

ثانيا:  قبل التورط في صرف المبالغ الطائلة على إعادة الأعمار, يجب إجراء دراسة شاملة وسريعة للمناطق المتفرقة في ليبيا, وخاصة القزمية منها لتحديد عما إذا كان بالإمكان توفير سبل الحياة وأولها مصادر دخل إنتاجية للسكان وثانيها ضروريات الحياة الأخرى مثل الماء والكهرباء وطرق المواصلات الاقتصادية التي تربط هذه المناطق بالمراكز الرئيسية في البلد.

برأيي الخاص, فأن الصرف على البنية التحتية لمناطق جغرافية قزمية متناثرة على مساحة الأرض الليبية الشاسعة وبكثافة سكانية محدودة جدا رغم عدم وجود مقومات للحياة, فان هذا سيعتبر إسراف وتبذير عبثي لموارد محدودة نحن في أمس الحاجة إليها في مواقع أخرى ولن تفيد الأجيال القادمة بشيء يذكر, بل هي لن تفيد أهل هذه المناطق الموجودين الآن سوى البقاء المؤقت في أرض الأجداد تلبية للعواطف وبعض المشاعر القبلية  التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

الأرض باقية في مكانها ولا أحد يستطيع أن يحولها وبإمكان أهلها زيارتها والتمتع بأطلالها وتاريخها القديم متى يشاءون ولكن ليس البقاء الدائم الذي يتطلب إنفاقا كبيرا على البنية التحتية المنهارة على حساب الموارد الاقتصادية للدولة الليبية الحديثة.

أن ظاهرة اقتناء بعض المواطنين على مقرين للسكن إحداهما في مكان العمل والعيش الاعتيادي والثاني في الموطن الأصلي,”ارض الأجدادلقضاء عطلة أسبوعية أو شهرية وربما سنوية, لا اعتراض عليها اذا كانت من الماضي وقاومت الدمار الذي ألحقتها بها الآلة العسكرية للنظام السابق. أما أن يتم استهدافها بإعادة الأعمار والأنفاق عليها من الموارد المحدودة والمهمة لبناء هذا الوطن الجريح فهو غير مجدي وغير صحيح من الناحية الاقتصادية والعملية وعلينا جميعا أن نضحي بأنانيتنا وأن نضع مستقبل ليبيا والأجيال القادمة فوق كل اعتبار.

ثالثا: ينبغي أن تبنى سياسة إعادة الأعمار على مبدأ المراكز السكانية المتكاملة التي تشمل المواصلات العامة كوسيلة أساسية للتنقل والخدمات الصحية الجيدة والمدارس المتطورة والحدائق والأماكن الترفيهية المناسبة والأسواق التجارية المتنوعه التي يتناسب حجمها مع الكثافة السكانية لهذه المراكز.

وقبل البدء في بناء أي مركز سكاني جديد لابد من التفكير في فرص العمل المتوفرة للسكان الجدد وكم تبعد أماكن هذه الفرص عن محيط المركز وما هي وسائل المواصلات العامة والسريعة التي ستتوفر للوصول الى أماكن العمل.

 إن إستراتيجية التخطيط والتنفيذ يجب أن تبنى على النظرة الثاقبة والصحيحة للمستقبل البعيد والمتوسط والقريب. و سوف لن توفر العمارات الشاهقة أو القصور الراقية ولا الشوارع الواسعة المرصوفة الطعام والشراب والحياة الكريمة لأبنائنا وأحفادنا عندما ينتهي النفط والغاز بعد انقضاء العمر القصير المتوقع.

 إن ما يضمن الحياة الكريمة للأجيال القادمة هي مصادر الدخل الدائمة بإذن الله السابق ذكرها حسب اجتهادي الشخصي المنبعث من خبرة أستاذ جامعي قارب على سن التقاعد وقد تخرج من أحد أرقى الجامعات في العالم المتقدم

نحن جيل اليوم أودع الله عندنا كنز وهو  أمانة في عهدتنا تخصنا وتخص الأجيال القادمة وعلينا أن نتق الله في استغلالها الاستغلال الأمثل الذي يكفل حقوق الجميع.

***

علي محمد عكعك ـ أستاذ مساعد بكلية الهندسة طرابلس

____________

نشر هذا المقال بجريدة مال و أعمال بتاريخ 18-10-2011م

      

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *