ماذا حدث في معركة باب العزيزية عام 1984  

 كيف قاوم الشعب الطغيان ؟

من بين أبيات النشيد الوطني الليبي : وخذي منا وثيقات العهود .. إننا يا ليبيا لن نخذلك

يقول الكثير من الليبيين عن الليبيين بأنهم شعب متكاسل، يرضى بقدره مهما كان، ويتحمّل الذل والهوان، ولا يحارب الجبروت والطغيان، وكان قد تأمر على وطنه مع الطليان؛ ثم بارك وجود قواعد عسكرية للإنجليز والأمريكان، ثم ساند ودعّم إنقلاب الشبّان، وحوّل العقيد القذافي إلى هيلمان، وخلق منه ملكا بصولجان، وكاد أن يرفعه الى مراتب الرحمان.

 ربما يعتبر من جواز القول بأن أعضاء حكومة العهد الملكي، ونواب برلمانه لم يكونوا قد حافظوا على عهدهم الذي كانوا قد قطعوه على أنفسهم بأنهم لن يخذلوا ليبيا، ولن يتركوها لكل معتد أثيم لكي يعبث بها؛ ذلك أنهم كانوا في واقع الأمر قد خذلوها، وتركوها تخضع بسهولة لملازم مغامر حتى تمكّن منها بكيفية مثيرة للإستغراب حقا أمام أعين وأسماع حماة النظام الملكي من ضباط، وضبّاط صف، وجنود القوة المتحرّكه التي كان يقال عنها بأنها كانت أكثر تدريبا وتسليحا من الجيش، وبأن لها صلاحيات لم تكن تتوفر للجيش نفسه؛

ذلك لأن مهمتها الوحيدة كانت حصريا تكمن في حماية النظام الملكي من محاولات الإطاحه به من أية جهة داخلية؛ وكان يفترض في هؤلاء بأن يكونوا على أهبة الإستعداد على مدار الساعه خاصة وأنه عقب حرب عام 1967 كانت ليبيا متهمة من قبل القوميين العرب وعلى رأٍسهم جمال عبد الناصر الذي أشار في أكثر من مناسبه إلى أنه على الشعب الليبي بأن يثور على هذا النظام الخاضع للإستعمار والصهيونيه؛

لكن قوة الملك المتحركة رغم كل ذلك لم تتمكن من التحرك في الوقت المناسب، وبالكيفية المناسبه مع علمها بحدوث تحركات سرية لمدة لاتقل عن 3 أشهر قبل وقوع الإنقلاب العسكري في سبتمبر 1969.

لكنمع كل ذلك؛ يظل الشعب الليبي ـ كغيره من شعوب الأرض ـ يتشكل من خليط من الناس منهم الوطني، ومنهم المصلحي، ومنهم البطل الشجاع، ومنهم بالطبع الخائف الرعديد.. وتلك هي سنة الله في خلقه؛ ولايعتبر الشعب الليبي على الإطلاق شاذّا على هذه القاعد، ولا يمكن إعتباره إستثناء مهما كنا متشائمين، ومهما كانت خيبة أملنا كبيره في هذا الشعب حكما بإستدامة سكوته، وبرضائه بالظلم.

إن المتتبّع الصادق لتاريخ نظال الشعب الليبي يعرف عن يقين بأن الشعب الليبي كغيره من شعوب الأرض كان قد وقف في وجه المستعمر الإيطالي وسطّر في سبيل ذلك أوضح سجلاّت النضال.

 كما سجّل التاريخ وسجّلت ذاكرة الناس أيضا بأن الشعب الليبي كان قد قاوم وجود القواعد الأجنبيه على أرضه في وقت كان فيه حاكم البلاد من أشد المطالبين ببقائها من أجل حمايته.

الشعب الليبي أيضا لم يرض بالظلم والطغيان في عهد القذافي مع أن هذا الشعب بطيبته وطبيعته المسالمه فرح ورحّب بالتغيير الذي حدث في عام 1969 ذلك لأن الشعب الليبي يسعى بجدية الى غد أفضل، ولا يحفل كثيرا بمن بوسعه أن يحدث هذا التغيير طالما أنه يعتبر نابعا من صميم هذا الشعب ومن بين أبنائه.

وبمجرد أن شعر الشعب الليبي بالحاكم الجديد وهو ينحرف بدفّة الحكم متجها بها إلى بيته حتى أعلن هذا الشعب عن عدم مباركته لمثل هذا التفرّد بالسلطه، وتلك النيّة المبيّته للإستحواذ على ثروات البلد وتسخيرها من أجل خدمة فئات معينه ومحدوده من أبناء الشعب الليبي حارما منها السواد الأعظم من هذا الشعب.

بمجرّد أن شعر الشعب بذلك قرر عدم السكوت؛ وكان ذلك قد تمثّل بالآتي:

1) كان ربما أول رد شعبي على تفكير وتصرفات القذافي قد حدث في عام 1970 أثناء ندوة الفكر الثوريحين وقف الطالب حينها علي الريشيوقال للقذافي بالحرف الواحد إنك لم تثر من أجل الليبيين؛ لكنك كنت قد ثرت من أجل نفسكوقد أغاضت هذه العباره العقيد القذافي بشكل ملفت للنظر، وكان بالفعل قد تحسس من مثل ذلك رد الفعل التلقائيمن قبل فرد عادي من أفراد الشعب في وقت كان فيه الظن اليقينبأن كل الشعب الليبي وبدون إستثناء مع الثوره وقائدها“.

2) محاولات الإنقلاب العسكري المتكررة على سلطة العقيد القذافي، والتي بالفعل أحدثت رعبا في كيان السلطة الحاكمه الأمر الذي أدّى بالعقيد القذافي إلى العمل على التقليل من سلطة الجيش بعد أن كانت القوات المسلحة تعتبر جوهرة النظام العسكري الحاكم الذي كثيرا ما تغنّى بأهمية الجيش، وكان الجيش أيضا محور تفكيرالعقيد القذافي في السنوات الأولى للإنقلاب حيث حظي ضباط الجيش الليبي في أول عمر الإنقلاب العسكري بإمتيازات ماليه ومعنوية حولت الكثير من أفراد الجيش الى حضوات في المجتمع الليبي.

بدأ أولا ببناء ما سمي بـ المقاومه الشعبيةوالتي كان قد إعتمد عليها لاحقا في حربه ضد المتمردين على نظام الرئيس الأوغندي السابق عيدي أمين محاولا بذلك إحداث بديلا للجيش الليبي؛ لكن الكوارث التي ألمت بأفراد المقاومه الشعبيه في بحيرات أوغنده، وتحولهم الى مصيده للتماسيح أصاب مشروع القذافي ذلك بالإحباط.

قام بعد ذلك بإستحداث التجنيد العسكري”، ثم بعد فشل تلك الفكره نتيجة لعزوف الشباب من أبناء الشعب الليبي عنها وبالأغلبيه الساحقه تفتّق عقل العقيد القذافي وهو يبحث عن بديل للجيش الليبي عن فكرة الشعب المسلّحبحيث أقحم كل من هب ودب في هذا الشعب المسلّح بما في ذلك شيب وعجائز الشعب الليبي الأمر الذي ميّع وظيفة جيش البلاد ككل، وحولهم إلى مجموعه من العاطلين عن العمل وبدون أية مؤهلات.

بعد فشل كل هذه التغييرات الخادعة في تركيبة الجيش الليبي ، وإستمرار المحاولات الإنقلابيه من بقايا الجيش النظامي والتي كان آخرها محاولة الإنقلاب الكبرى لضباط الجيش في بني وليد عام 1993 والتي أدت في النهاية الى حل الجيش الليبي عن بكرة أبيه وتأسيس كتائب عسكرية مسلّحة تتبع أبناء القذافي، وتدين كلها بالولاء له؛ بحيث لا يوجد لدى هذه الميليشيات أي ولاء لليبيا كبلد، ولليبيين كشعب.

3) حدثت محاولة شعبيه أخرى في عام 1972 في مدينة الزاوية كان من ورائها تنظيم حزب الدعوةالذي كان ينشط بشكل كبير في هذه المدينة والمناطق المحيطه بها من الماية شرقا، وحتى مدينة صبراته غربا مرورا بصرمان وأبي عيسى.

كان خطاب زواره ربما يعتبر كردة فعل من العقيد القذافي بعد إلقاء القبض على أعداد كبيرة من المنتمين لهذا الحزب الإسلامي المتمكّن، وكان أن قامت حمله قوية من قبل طلبة مدرسة الزاوية الثانويه التي كان عدد من مدرسيها ـ من ضمن من تم القبض عليهم ـ وطافت هذه الحملة بالمدارس، والمساجد، وكذلك الأسواق العامه ولكن تحت مسمى الثورة الثقافية“.

4) في 21 ديسمبر 1975، استكمل طلاب جامعة بنغازي انتخاب ممثليهم في رابطة جامعة بنغازي وكانت تلك الانتخابات ضد رغبة القذافي الذي أعلن رفضه للمؤسسات الطلابية المستقلة بسبب صعوبة السيطرة عليها وإحتوائها.

وفي 25 ديسمبر أعلن الطلبة المنتخبين تكوين رابطة جامعة بنغازي المستقلة بالكامل عن اتحاد الطلبة الحكومي.

في يوم 27 ديسمبر 1975 اعلن أمين التنظيم في الإتحاد الإشتراكي العربي الليبي حل الإتحاد العام لطلبة ليبيا، ورابطة جامعة بنغازي؛ بناء على أوامر شخصية من القذافي، وبعد يومين فقط من صدور ذلك القرار نظّم طلبة الجامعة مسيرات سلمية نددوا فيها بقرار الحكومة مطالبين برفع الوصاية على الإتحاد العام لطلبة ليبيا.

بعد ذلك حدثت الكثير من المواجهات بين رجال الأمن وطلبة جامعة بنغازي أدت إلى القبض على عدد من الطلبه وإيداعهم في السجون مما أثار غضب زملائهم؛ فقامت أعداد كبيرة من طلاب جامعة بنغازي بالتظاهر وسط المدينة؛ ولكن بعد ساعات من ذلك حاصرتهم قوات الحرس الجمهوري في ميدان الجامعه بقرب سوق الظلام وأطلقوا عليهم النار مما أدى الى مصرع أحد الطلاب، ولحقه زميله بعد ذلك بأن توفى متأثرا بجراحه وهو في المستشفى.

ما إن إنتشرت الأخبار حول الصدام الذي حدث في بنغازي؛ حتى عمت مظاهرات التنديد في كليات جامعة طرابلس، وبعض المدارس الثانويه والمعاهد في طرابلس والزاوية وذلك في السادس من يناير عام 1976.

بلغ الإحتقان أشده بين الطلبه وعناصر الأمن حتى كان السابع من أبريل المشئوم في عام 1976 الذي تمكّن فيه القذافي من حسم الصراع لصالحه بعد سقوط أعداد كبيرة من طلبة الجامعه في طرابلس، وبنغازي، وبعض الثانويات.

 5) في 8 مايو 1984 قامت الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا بإرسال فدائييها الى معسكر باب العزيزية حيث مقر القذافي؛ لكن تلك المحاولة باءت بالفشل بعد أن إكتشفت أجهزة أمن القذافي أمرهم بسبب وشاية من أحد المؤتمنين على سر الحركه فقامت أجهزة الأمن والجيش بالإنقضاض على مقاتلي الجبهة والفتك بهم بشكل بربري ووحشي لم يسبق مثيله حتى على أيدي الصهاينه.

6) في عام 1995 وإلى عام 1996 قامت الجماعه الليبيه المقاتله بعدة غارات على بعض المواقع في منطقة الجبل الأخضر وفي بنغازي تم على إثرها تصيّد الجماعه من قبل قوات الأمن والجيش مع الإستعانه بعدد كبير من الطيارين الصرب من يوغوسلافيا السابقه وقتلت منهم أعداد كبيره وتم القبض على بقيتهم حيث تم إيداعهم في سجن أبوسليم حتى تمت تصفية 1200 منهم ومن غيرهم بدم بارد في 28 و 29 يونيو عام 1996.

7) مظاهرات بنغازي العارمه في 17 فبراير 2006.

8) إعتصامات ذوي وأصدقاء ضحايا سجن أبوسليم المستمرة في بنغازي.

9) المعارضه الليبيه في الخارج: وهذه كانت من إفرازات الظلم والكبت والتفرّد بالسلطة داخل البلد.

هاجر من إستطاع من الليبيين، أو تم تهجيره إلى حيث رحبت بوجودهم الأرض، وطاب المقام ولو بعد حين للكثير من الليبيين. من الممكن تقسيم هؤلاء المعارضين لنظام القذافي وهو المرادف تماما لمعارضة التسلّط، والكبت، والجبروت، والظلم الذي مارسه النظام على الشعب الليبي بجميع فئاته وطوائفه. كما أنه بطبيعة الحال يشمل معارضة الفساد الإداري والإجتماعي والثقافي الذي عشعش في بلادنا، ونمى وترعرع خلال الأربعة عقود الماضية من تاريخ شعبنا الليبي الطيّب.

يمكن تقسيم هؤلاء الى ثلاثة طوائف:

أـ فصائل المعارضة المنظّمه؛ وتعتبر الجبهة الوطنيه لإنقاذ ليبياربما المثال الجيّد الذي يمكن ذكره في هذا الإطار. كما أنني لا أريد أن أهمل بقية التنظيمات الليبية المعارضة الأخرى من أمثال المؤتمر الوطني للمعارضة الليبيه، وبقية التنظيمات ( راجع كتاب البديل السياسي في ليبيا.. ودولة ما بعد الثورةللدكتور فتحي الفاضلي).

ب ـ المعارضة الحرة المستقلة: وهي تشمل مجموعة المستقلّين من الشباب الليبي؛ وهم في أغلبهم من المثقفين، والكتّاب، والمبدعين، والمهنيين، وآساتذة الجامعات، وكذلك رجال الأعمال، والفنانين.

ج ـ مجموعة الحقوقيون ورجال القانون: وهؤلاء يندمج أغلبهم في منظمات حقوقيه وقانونيه أو يعملون من خلال هذه المنظمات من أمثال: التضامن لحقوق الإنسان، الإتحاد الليبي للمدافعين عن حقوق الإنسان، وغيرها الكثير.

لماذا فشلت المعارضه الليبية؟

هذا السؤال في حد ذاته يعتبر موضوع بحث طويل وشامل؛ لكنني هنا ربما أتعرّض لبعض الأسباب التي أدت إلى فشل المعارضه الليبيه في تغيير نظام حكم العقيد معمر القذافي رغم المظالم التي لحقت بالشعب الليبي نتيجة لتحكّم هذا النظام الديكتاتوري في جميع مناحي الحياة في ليبيا، ورغم كل المصائب التي لحقت بأبناء الشعب الليبي والتي تجاوزت ما سبق أن فعلته أنظمه ديكتاتورية متسلّطه أخرى في مناطق مختلفه من العالم؛

في نفس الوقت الذي تمكنت فيه شعوب أخرى من حولنا من الإنتفاض، وتغيير أنظمة التسلّط الديكتاتوري في بلادها من أمثال الشعب الروماني، الشعب التشيكي، الشعب الألماني الشرقي، الشعب الروسي، الشعب الفليبيني، وأخيرا الشعب القرغيزي، والشعب التايلاندي.

الأسباب بالطبع يمكن النظر إليها من زاويتين:

أولا ـ نظام الحكم:

ليبيا تعتبر بلدا غنيا بثرواتها الطبيعية، وهي أيضا تتمتع بموقع إستراتيجي هام في العالم؛ وبذلك فقد تسابقت دول كثيرة في العالم من أجل وضع قدم لها على الأرض الليبية وتمكنت تلك الدول من تحقيق ذلك عن طريق التقرّب من نظام حكم القذافي ودعمه حيث رأت تلك الدول أن أنسب طريقة عملية لها في سبيل ذلك تتأتي من خلال المصالحة مع حاكم ليبيا؛ وكانت أمريكا وبريطانيا ربما تعتبر من بين الأمثلة لذلك.

كما أن نظام العقيد القذافي بحكم خلقيته العسكرية، وطبيعته العدوانية كان قد إستعان بعملاء لأجهزة مخابرات عالمية مثل السي أي إيه، والكي جي بي، وكذلك جهاز الشتازي في ألمانيا الشرقية السابقه، السيكوريتات في رومانيا، وأجهزة الأمن في تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا السابقتين.

هذه الأجهزة الأمنية وفرت النصيحه والدعم المباشر لنظام القذافي الديكتاتوري الذي يتشابه ـ وإلى حد التطابق ـ مع الأنظمة الشيوعيه السابقة في دول أوروبا الشرقية.

ثانيا: المعارضه الليبية:

يجب علينا القبول بأن المعارضين الليبيين بجميع تنظيماتهم، وتجمعاتهم، وحتى الأفراد كانوا قد أخفقوا في جميع المحاولات التي قاموا بها من أجل التخلّص من هذا النظام الديكتاتوري البغيض والذي نعرف جميعا بأنه يعتبر نظاما مكروها ومنبوذا من قبل كل الليبيين؛ اللهم إلا أولئك المنتفعين، ومعهم طائفة من البشر لاتستطيع العيش إلا تحت جناح الغير وهذا الغير لايهم أولائك على الإطلاق لأن هؤلاء عندهم دائما الغاية تبرر الوسيلة، وهؤلاء لايمكنهم أن يخجلوا من الوسيلة مهما كانت وضيعه ونذيله.

ما هي المجالات التي أخفقت فيها المعارضه الليبية؟ وهل كان بالفعل حصاد كل أعمالها مجرد إخفاقات وهزائم؟.

أنا أعتبر نفسي من بين أولئك الذين يؤمنون بجلد الذات من أجل بلوغ الأحسن، ولكن ليس الى حد تحقير الذات، أو إذلالها؛ فالوسطية يجب أن تكون عنوانا لحياتنا، ومنوالا لتفكيرنا.

شهدت فترة السبعينات قمة التصادم بين الشرق والغرب بحيث إشتدت الحرب البارده بين الشيوعية والرأسماليه بشكل كاد وفي أكثر من مرة أن يشعل شرارة الحرب العالمية الثالثة؛ لكن بدون شك ربنا ستر البشر وجنبهم كارثه كانت ربما ستقضي على البشرية جمعاء نظرا لتوفّر السلاح النووي وتوفر النية لإستخدامه.

كانت فترة السبعينات أيضا مرحلة إشتداد الصراع المسلّح من أجل التحرير، وكذلك تغيير أنظمة الحكم بالإنقلابات العسكرية في بقاع كثيرة من العالم وعلى أخصّها أفريقيا، أمريكا اللاتيتية، وبعض البقاع في أسيا، بل إنها شملت أوروبا أيضا (إسبانيا مثالا).

كانت لغة التعامل في تلك الفترة من الزمن هي لغة الحديد والنار؛ وكانت الأمثلة كثيرة بدءا بالجيش الجمهوري الإيرلندي، وثوار الباسك، وبادر ماينهوف في ألمانيا الغربية، والألوية الحمراء في إيطاليا، وغيرها الكثير من التنظيمات المسلحه في أوروبا التي كانت لاتعرف غير لغة السلاح.

في تلك الأثناء بالطبع تأسست الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وكان طبيعيا أن تكون اللغة الأساسية لهذه الجبهة هي لغة السلاح. يجب التنويه هنا إلى أنه رغم هذه الأجواء الملوّثه بأدخنة البارود، ورائحة التفجيرات؛ إلا أن هذا العقد من الزمان كان أيضا قد شهد حدثا في غاية الأهمية، وهذا الحدث كان قد سلك نهجا مختلفا، وإتخذ مدخلا آخرا للتغيير بعيدا عن جعجعة السلاح.

ذلك الحدث الفريد في وقته كان متمثّلا في ثورة الشعب الإيراني على حكم الشاه الديكتاتور بقيادة الإمام الخميني في فبرايرعام 1979.

لم تكن فترة الثمانينات بأحسن حال من العقد الذي سبقها؛ فقد إستمرت الحركات المسلحة في إستحواذها على مجريات الأمور في دول مختلفه من العالم، وإستمر الصراع بين الشرق والغرب على أشدّه، وتعاضمت الحرب البارده بين الرأسمالية والشيوعية حتى إمتدت إلى أصقاع أفريقيا، ومشارف آسيا؛ بل وإلى أمريكا اللاتيتية أيضا.

الجبهة الوطنيه لإنقاذ ليبيا لم تكن بعيدة عن الأحداث، ولم تشذ عنها في شئ.

ففي 8 مايو من عام 1984 أرسلت الجبهة عدد من مقاتليها الى معسكر باب العزيزية في عملية كانت ولازالت غامضة الأهداف إلى يومنا هذا. كانت عملية باب العزيزيه كارثة بكل معنى الكلمة بالنسبة للجبهة الوطنيه لإنقاذ ليبيا بغض النظر عن ما صدر من أدبيات الجبهة تمجيدا لها، وفرحا بها.

في واقع الأمر ـ من وجهة نظري ـ كانت مضاعفات هزيمة عملية باب العزيزية بالنسبة للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا كمضاعفات هزيمة يونيو عام 1967 بالنسبه للرئيس جمال عبد الناصر. لقد أدت هزيمة عام 1967 إلى تدمير قطار القومية العربية إلى أشلاء متناثرة والتي ظلّت متناثرة ـ بل إنها إتسعت إنتثارا ـ الى يومنا هذا، وكذا.

أدّت هزيمة معركة باب العزيزية إلى تدمير قطار المعارضه الليبية ككل إلى أشلاء متناثره، وهي كذلك ظلّت متناثره ـ بل إنها إزدادت تناثرا وتباعدا ـ إلى يومنا هذا.

وأود في هذه المضمار أن أحيي كل من شارك في تلك العملية من حيث التنفيذ، وإسترحم الله شهداء تلك العملية الأبطال الذين لايشك أحد في صدق نواياهم وتضحياتهم من أجل ليبيا وأهلها؛ لكنني ـ مع حبي وإحترامي للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا كتنظيم، وكقيادة ـ أحسست بأن تلك العملية ما كان يجب أن تحدث على الأقل في ذلك التوقيت، وبتلك الطريقة المبتسرة وإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على محدودية في التفكير الإستراتيجي والبعد الميداني والتخطيطي لقيادة الجبهة سواء في ذلك المدنية أو العسكرية.

لقد أهدت الجبهة الوطنية للقذافي إنتصارا مجانيا بتلك العمليهة لم يكن يحلم بمثله من قبل، ولم يكن بإمكانه أن يحقق مثله لو ترك له زمام المبادرة.

تفككت الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا نتيجة لتلك العملية الفاشلة، وليس نتيجة لإختراق الجبهة من قبل أجهزة أمن القذافي كما يحاول البعض تبرير السقوط الكبير الذي أصاب الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا والذي أدى فعليا إلى كسر عمودها الفقري بذلك الشكل الذي لم تتمكن الجبهة من بعده من الوقوف على رجليها من جديد.

الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا رغم كل شئ تعتبر رائدة المعارضة الليبية ضد نظام حكم القذافي، وهي بكل جلاء تعتبر من أقوى تنظيمات المعارضة الليبية على الإطلاق، وكانت من أكثرها تنظيما وأكثرها تماسكا؛ ومن هنا أدى كسر الجبهة وتفكيكها الى شل بقية التنظيمات وتهميشها وللأسف.

برز خلال فترة الثمانينات ـ والتي كما أسلفت تعتبر جزءا من فترة الحرب الباردة ـ حدثا آخر وهو بدوره شذّ عن ثقافة تلك الفترة ـ أي فترة العنف والتسيّد بإستحدام ألة الفتك والدمار ـ ذلك الحدث العظيم في وقته تمثّل في ثورة الشعب الفليبيني بقيادة كورازون أكينو على الديكتاتور فرديناند ماركوس والتي أسفرت عن إزاحة الديكتاتور وإنتصار الشعب الفليبيني بدون الحاجة إلى إعتماد قوة الحديد والنار من أجل التغيير الى الأحسن.

بدون شك كانت ثورة الشعب الإيراني، ثم ثورة الشعب الفليبيني ضد الأنظمة الديكتاتورية وبدون اللجوء إلى إستحدام السلاح في وقت كان فيه صوت البندقية من أعلى الأصوات طفرة جديدة أضيفت إلى ثقافة التغيير.

تمكن الشعب الإيراني ثم بعد ذلك الشعب الفليبيني من كسر تلك البديهية وإنتصر الشعبان بكل جدارة؛ بل الأكثر إقناعا هو أن تلك الثورتين ضلّتا منتصرتين إلى اليوم ـ أي أن كلتيهما تمكنتا من البقاء وظلتا ممسكتان بزمام الأمور على عكس غيرها من الثورات (الإنقلابات) العسكرية التي إما أنها أخمدت بإنقلابات عسكرية أخرى، أو أنها أنتجت أنظمة حكم ديكتاتورية مقيته عاثت في الأرض فسادا، ونشرت بين الشعوب التي قامت من أجلها رعبا، وقهرا، وعبودية فاقت عشرات المرات ما كان يحدث في الأنظمه الحاكمهة التي سبقت تلك الإنقلابات.

نعم.. إن ذلك ربما يعطينا درسا مهما علينا تدبّره، وربما محاولة هظمه والذي مفاده أن الطغاة لاتزيحهم الإنقلابات؛ بل ثورات الشعوب العارملة.

هذا الدرس تعلمته دول أوروبا الشرقية في تشيكوسلوفاكيا، رومانيا، يلغاريا، يوغوسلافيا، بولندا، ألمانيا الشرقيه، والإتحاد السوفييتي.

وتلك هي الدروس نفسها التي تعلمتها شعوب أخرى بعد ذلك؛ بحيث قامت تلك الشعوب بثوراتها الملّونهفي جورجيا، أوكرانيا، وأخيرا في قرغيزيا، وبعدها تايلاند.

نعم إن ثورات الشعوب هي وحدها التي تغيّر الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة بدون أن تسمح بأن تحل محلها أنظمه أخرى أكثر فسادا تزيد من إستعباد الشعوب، وتدمر إقتصادها كما حدث في العراق، وكما يحدث الآن في أفغانستان.

وختاما..

أريد أن ألخّص أسباب فشل المعارضة الليبية في تغيير نظام حكم الديكتاتور القذافي في النقاط الآتية:

  • غياب الأستراتيجية
  • غياب التخطيط.
  • غياب التعاون.
  • غياب المصداقية.
  • غياب الوطنية الحقيقية.
  • غياب الثقه بين أقطاب المعارضة ( تنظيمات وأفراد).
  • غياب وسيلة التخاطب مع الشعب.. كل الشعب، وليس النخب.
  • غياب القياده الموحّده البديلة“.
  • تغييب الشعب.
  • تغليب الأنا والمصالح الشخصية على مصلحة الوطن.
  • _______________

موقع جواب لكل سؤال