من السلاح والمواجهة .. الى سلاح الكلمة والاشتباك
من العمل المسلح … الي الاشتباك بالكلمة
عاشور الشامس
الحمـاس؟ نـعم… ولكـن !!
وجد الحماس للعمل العسكري ووجدت المبرارات النظرية، ولكن الارضية والاستعدادت اللوجستية كانت دائما متواضعة ومحدودة.
والضغوط الداخلية والخارجية هي التي سرعت بالعمليات العسكرية قبل أن يحين أوانها ويكون الأفراد مستعدين. لذلك مني العمل العسكري بانتكاسات كبيرة تكبد فيها خسائر أكبر بكثير من قدرته على التحمل، من أول امتحان له على أرض الواقع.
ففقد العمل العسكري خيرة عناصره وأهم شخصياته، وفي مقدمتهم ذلك الرجل الكبير في تواضعه، المتواضع في قوة شخصيته، المتجرد في عمله، الشهيد أحمد أحواس، في اول اشتباك له وتراجع بشكل كبير في مايو 1984. لقد كان لرحيلهم ـ وخاصة الشهيد أحمد ـ المبكر أشد أثر على مستقبل الجبهة، وهو أكبر خسارة منيت بها في تاريخها كله. وبعد تلك الأحداث المروعة لم تقم للعمل العسكري قائمة تذكر.
وفي عام 1985 (وهي السنة التي انتخبت فيها رئيسا للمجلس الوطني للجبهة في دورة انعقاده الثانية في بغداد) جاءت التجربة العسكرية الثانية، وهي ما عرف بـ “مشروع الجزائر“. حيث توفرت للجبهة فرصة تدريب وإعداد مجموعة من الشباب في الجزائر وادخالهم من هناك الى ليبيا للمشاركة في عملية استيلاء على السلطة.
كانت الخطة مبتسرة ومغبشة في كثير من جوانبها. وسارعت الجبهة، مع فقدانها لقيادتها العسكرية في عام 1984، الى الانخراط في هذا المشروع الجديد بكثير من الحماس، وصبت فيه كل امكانياتها وطاقاتها، بشيء من التسرع وقبل أن تكون قد استوعبت التجربة السابقة والاتعاظ بدروسها. وتجاوب أعضاء الجبهة بدافع مالديهم من واعر وطني ومن ثقة في قيادتها.
ولكن ما هي الا شهور قليلة حتي تبخر المشروع الى لا شيء من الناحية العسكرية، فاضطرت الجبهة الى تفكيكه والاقلاع عنه قبل أن تشرع في تنفيذه. ووجدت الجبهة نفسها تعاني الكثير لمحو آثار هذا المشروع الذي كاد يقسم ظهرها.
وكان لهذه التجربة انعكاساتها الخطيرة والمدمرة داخل التنظيم. حيث أصيب عدد كبير من شباب الجبهة بخيبة أمل شديدة وانتكاسة مؤلمة، وتكررت التراجعات والانسحابات الفردية، والاستقالات الجماعية لأول مرة.
وتزعزعت ثقة الافراد في قيادة الجبهة. وأخد الهمس واللمز يدور داخل الجبهة في أمريكا وبريطانيا ومصر وغيرها. ولم يعد من الممكن لنا الدفاع عن سياسات الجبهة أمام أعضائها الذين بلغت بهم خيبة الأمل مبلغها.
* * * *
وجاءت التـجربة الثالـثة
وفي منتصف عام 1987 خاضت الجبهة تجربة ثالثة في العمل العسكري. والذي شجعنا علي المضي فيها هذه المرة هو توفر قيادة عسكرية جديدة تتمثل في ضباط وجنود من الجيش الليبي الذي وقعوا في الأسر في تشاد جراء حربها مع ليبيا ذلك العام.
ومن منطلقات وطنية بحت أبدوا أولئك الضباط والجنود استعدادهم للتعاون مع الجبهة ضد النظام في ليبيا الذي دفع بهم الى حرب خاسرة مع دولة جارة. وكنا نحن من طرفنا نعول عليهم الكثير.
ودون الخوض في التفاصيل هنا أقول أن مشروع تشاد كان في حقيقة الأمر هو نهاية المشوار: إما أن ينجح وتحقق من خلاله الجبهة ما كانت تصبو اليه، وإما أن يخفق ويكون هو نهاية الطريق بالنسبة لعملها العسكري بأكمله.
لقد بُذل في ذلك المشروع مجهود هائل من الاتصلات والاجتماعات والتدريب والتأهيل… وبعد سنتين كاملتين ظل المشروع في النقطة نفسها التي بدأ منها، دون أن يخطو أي خطوات تذكر الى الأمام. وكانت نهايته مع نهاية حكم حسين هبري في تشاد إثر انقلاب عسكري في نوفمبر 1990، فاضطرت الجبهة الى مغادرة تشاد وتوزع اعضاؤها في بلدان عدة، بما فيها ليبيا، وكفى الله المؤمين القتال. ودفعت الجبهة ثمن ذلك المشروع من رصيدها كله.
تلك النهاية المؤلمة للعمل العسكري اذنت بنهاية للجبهة ككل بشكل أو بآخر. لم يعد المرء مقتنعا بما يعمله ولا تبريره للآخرين. انها عملية تراكمية بدأت من 1984 واستمرت في تعاظم، ولكن كان من بيننا من اجتهد في مواصلة المسير على كل الأحوال. لم يعد ممكنا تغطية الهزيمة بهزائم اخري أشد وأنكي. لقد فقدنا السيطرة على الاحداث فأصبحت هي التي تقودنا ولم تعد تقودنا قرارتنا التي نتخذها… كما أن المصير لم يعد معروفا.
في اواخر عام 1989 كان واضحا أن مشروع الجبهة من تشاد قد استهلك كل طاقته ووصل الى اقصى ما يمكن أن يصل اليه. الجبهة لم تعد قادرة على المضي في ذلك المشروع لأسباب كثيرة لعل من أهمها انكشافه للنظام في ليبيا، وأنه أصبح عاملا منفرا للناس من الجبهة في داخل ليبيا وحاجزا بينها وبينهم.
واتضح ذلك بعزوفهم واعراضهم عن الاتصال بها أو المشاركة في نشاطها. وكان من الأولى ومن الأمانة أن تصارح قيادة الجبهة أعضاءها بذلك، وأن تتوقف عن التظاهر بالسير في اتجاه يوحي باستمرار المشروع وهي في الحقيقة تبحث ـ في محاولات يائسة ـ عن طريقة لتتخلى عنه لتطوي بها تلك الحقبة.
لقد اصبح العمل العسكري مسؤولية في أعناقنا امام الله وامام الناس. العمل العسكري بالنسبة لنا في الجبهة يحتاج امكانيات دولة، وأين هي الدولة التي كانت مستعدة للدخول في مثل تلك المشاريع. فالدول لا تتحرك ولا يغريها الا ما يخدم مصالحها وأجنداتها، أو إلا أن توعز لها دول أخرى بالتحرك، وتعطيها الضوء الأخضر لوجود أجندة خاصة برقعة أكبر.
فلم يعد أمام الجبهة إلا أن تغامر وتصبح بندا من البنود في أجندة لا سيطرة لك عليها، مصمَمة أصلا للضغط على القذافي وابتزازه، وإما أن تتوقف وتقول كفانا جريا وراء السراب ولا بد من وقفة شجاعة لتقدير الأمور من جديد. لقد اصبحت الاحداث هي التي تجرنا وليست قراراتنا..
وفقدت قيادة الجبهة القدرة على معرفة اللحظة التي ينبغي أن تتوقف عندها. فبدلا من أن تكون ـ كما كانت يوما ما ـ مشروعا أو وسيلة توفض بنا الى مشاريع اخري تخدم الليبيين داخل الوطن وتحقق أمالهم في التخلص من النظام الاستبدادي، أصبحت غاية في حد ذاتها ومخلوقا متمردا يلتهم كل ما لدينا من إمكانيات وطاقات بدون مردود. لقد اصبح اسم الجبهة صنوانا للفشل حيثما ذكرت.
الانسحاب من الجبهة
شاء الله أن يتواصل عملي دون انقطاع داخل اطار الجبهة حتي أواخر عام 1989. وكانت هي بلا شك اغني فترة عمل خضتها في حياتي. لقد بلغت أعلى مستويات المسؤولية في الجبهة، التي كان عملها خليطا من العمل السياسي، على أعلى مستوياته، والعمل التنظيمي والعمل الاجتماعي والعمل الاعلامي والعمل العسكري.
انسحبت من الجبهة مختارا أن يكون انسحابي في صمت وهدوء وبدون اي ضجة، أسوة بمن سبقني من زملائي من المؤسسين: علي أبوزعكوك ومحمود الناكوع. لقد كان عملية بتر أليمة بدأت بتزعزع عامل الثقة بين أضيق حلقة من حلقات القيادة في الجبهة.
لقد تركت الجبهة وأنا مدين لها بتلك التجربة الغنية الهائلة، ولكنني كنت مصرا على ضرورة قطم الحبل السرّيّ بيني وبينها وعدم السماح لها بأن تتملكني.
كانت تتنازعني مشاعر عدة.
هل من الممكن الاستمرار في عمل لا يرى الانسان له مبررات؟
هل من الممكن تغطية الأخطاء بأخطاء أكبر؟
الى متي نظل نخدع انفسنا بأننا قادرون على العمل العسكري مع افتقادنا للجنود المقاتلين وقلة عددنا وعدتنا، ونحن نواجه دولة بجيشها وامكانياتها وعلاقاتها التي تفوق امكانياتنا؟
هل ينبغي علينا الاعتراف بالهزيمة ومواجهة اعضاء الجبهة بالحقيقة، أو الاستمرار في تغطية الأخطاء بأخطاء أخري والاستمرار في الانحدار ككرة الثلج التي لا تزداد بدحرجتها إلا ضخامة؟
هل تخلينا عن الجبهة الآن هو خيانة للوطن وابناء الوطن الذي شاركوا معنا في هذا العمل؟
…
يتبع
_____________