د. الصديق بشير نصر

تقحّم الأستاذُ عليّ حُسنين إثر تخرجه معتركَ الحياة فعمِلَ في أوّل حياته العملية محاسباً بإحدى الشركات التجارية، ثم زاول تدريس العربية، والإنجليزية بالمدارس الإيطالية في طرابلس.

وبعد إعلان استقلال البلاد انخرط في سلك الخدمة المدنية، وتقلّب في شتى الوظائف الإدارية وتدرج في سلّمها إلى أن بلغ أعلاها، ولم يلبث أن انضمَّ إلى السلك الدبلوماسي فَعُين وزيراً مفوَّضاً على رأس إدارة المراسم بوزارة الخارجية، وبعد ترقيته إلى درجة سفير أُوفد إلى لاغوس، عاصمة جمهورية نيجيريا الاتحادية، ثم نقل إلى موسكو عاصمة إتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.

وفي الوقت نفسه عُيّن سفيراً غيرَ مقيم في هلنسكى عاصمة جمهورية فنلندا، وتقلّد في خاتمة المطاف منصبَ وزيرِ الخارجية في وزارة ونيس القذافي.

أحيل على المعاش سنة 1969م بعد الانقلاب العسكري الذى حلّ بالبلاد، وفي سنة 1979 م استُدْعِي إلى الخدمة مديراً عاماً لمعهد الترجمة بدرجة سفير في اللجنة الشعبية العامة للاتصال الخارجي والتعاون، وظل في هذه الوظيفة إلى أن بلغ سنَّ التقاعد.

ومن مآثره أنه كان عضواً في لجنة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإيطالية إلى جانب الأساتذة الفضلاء: فؤاد الكعبازي، ومحمد عراب، والسيدة مريم الشركسي وهي سيدة إيطالية مسلمة، والشيخ إبراهيم ارفيدة الذي كان دوره توجيه الترجمة إلى الدلالات الصحيحة لمعاني الألفاظ والجمل.

وقد تولى منصبَ نائبِ رئيس مجمع اللغة العربية إبان رئاسة المرحوم الدكتور علي فهمي خشيم، ثم عُهِد إليه القيامُ بمسؤولية القائم بأعمال الرئيس بعد وفاة الدكتور خشيم. وقد أحسن المجمع صنعاً بتكريم هذا الأستاذ الفاضل بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية في 22 ديسمبر 2016.

اشتغلَ الأستاذُ علي حسنين في حقل الترجمة، فترك آثاراً عديدة تشهد له بطول الباع، فترجم في عام 1972 من الإيطالية كتاب (المعمار الإسلامى في ليبيا)، تأليف الدكتور المهندس ـ غاسبري ميسانا ، وترجم في سنة 1984 كتاب (حرب الإبادة في ليبيا) وهو من تأليف الصحفي د. إيريك ساليرنو .

وفي عام 2000 حرّر الفصل الثانى من الكتاب التوثيقي (مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية بمدينة طرابلس في مائة عام 18981998).

كما قام بترجمة أجزاء من سلسلة أنظر واكتشف حيوانات وهو من تأليف نخبة من العلماء المتخصصين، وهي:

المنزل والبستان ـ الجزء الأول.

الحقل والمزرعة ـ الجزء الثانى.

الأحراج والغابات ـ الجزء الثالث.

النهر والمستنقع ـ الجزء الرابع.

البحيرة والبركة ـ الجزء الخامس.

حياة الحيوان في الجبال والأودية ـ الجزء السادس (نُسِبَ خطأ إلى د. أحمد طلعت سليمان).

حيوانات السهول القطبية وجبال الجليد ـ (نسب خطأ إلى جوزيف سفر) وقد تولت نشرها الشركة المتوسطة للنشر المحدودة .

كما قام بترجمة كتاب (أيام شارع الشط) للمؤلف باولو فاليرا، وهو من منشورات لافولا بميلانو سنة 1911م.

وقام بترجمة كتاب (العقلية الفاشستية القديمة واختفاؤها تماماً). وهو من تأليف أوغو ماركيتي، ومطبوع في طرابلس 1937م.

وترجم عن الإيطالية كتاب (الفنون الإسلامية) للعالم الأمريكي موريوس ديماند سنسوني 1972م وترجم من الإنجليزية الكتاب الذى لا يزال هو الآخر مخطوطاً: الـنظـام الجـديد، بقـلم الكـاتب الـمجـرى الأصل الأمـريـكـي الجـنسـيـة ماثـيـو زوفاني، وقد أعارني الأستاذُ نسخةً من المخطوط لقراءتها وحكى لي أنه أخفق في نشره، وحدثته يومها أنّ الكتاب لن يُنشرَ لأن يدعو العالم إلى نظام جديد وهي الدعوة عينُها التي بدأ آنذاك القذافي يدعو إليها، وإن كان ذلك من منظورين مختلفين. وللكتاب قيمةٌ علميةٌ كبيرةٌ أرجو أن تظهر ترجمته إلى الوجود.

والأستاذ علي حُسنين حريصٌ كلَّ الحِرْصِ على أن يطبعَ مقالاتِه بنفسه على الآلة الطابعة قبل أن تشيعَ الحواسيبُ والطابعاتُ الإلكترونية، وكان يطبع من كلّ صفحةٍ نسختين أو ثلاثاً بوضع ما كان يُعرف بالكارت بلو بين الصفحة والأخرى.

كانت آلة الطباعة القديمة شبه محرّمة في عهد القذافي لدواعٍ أمنية، والحصول على الإذن بذلك دونه خرط القتاد. ومن كان يقتني واحدةً فبطرقٍ غير قانونية، واذكر من هؤلاء صديق العمر المهندس عبد السلام قرقوم. و

كان صديقنا العزيز نور الدين النمر يحدثنا أنه عندما ذهب إلى جامعة بنغازي في السبعينيات من القرن المنصرم دخل أستاذ الفلسفة الإسلامية إلى المدرج وهو يحمل معه حقيبةً في يده، فإذا بها آلةٌ طابعةٌ وكان الوحيد الذي يطبع محاضراته على تلك الآلة فوق ورق الإستنسل.

وكان ذلك هو البروفيسور ألبير نصري نادر أحد أشهر الشخصيات العلمية التي درّست في جامعة بنغازي، وهو صاحب كتاب (فلسفة المعتزلة)، و(مدخل إلى الفرق الإسلامية السياسية والكلامية)، و(التصوف الإسلامي)، والتحقيقات العلمية لكتاب (فصل المقال) لابن رشد، وكتاب (الجمع بين الحكيمين) للفارابي، وترجمة كتاب (مونادولوجيا) للفيلسوف الألماني فلهلم لايبنتس.

وقد ضويق هذا الأستاذ في الجامعة من بعض الطلبة الغوغاء، فلم يقم في الجامعة طويلاً بسبب ذلك ورحل عنها غير آسفٍ لذلك.

وله قصة مع هؤلاء خير من يحكيها هو د. نور الدين النمر. ولعلّه يتفضّل ويحكي لنا عن معاناة الأساتذة الكبار في جامعة بنغازي بعد أن تحوّل اسمُها إلى جامعة قار يونس من أمثال: عبد الرحمن بدوي، وألبير نصري نادر، وعيسى عبده، وعبد الهادي أبو ريدة، وآخرين أذكر منهم الفقيه الكبير وهبة الزحيلي، وقد اجتمعت بهذا الشيخ الجليل رحمه الله مرتين: الأولى في بيتي، والثانية في بيته بدمشق.

كانت للأستاذ علي حُسنين صِلاتٌ وثيقةٌ بمؤسساتٍ علميةٍ، خارجية ومحليّة، مثل: الجمعية التاريخية الإيطالية، وهو عضو بالمجلس العلمي والثقافي للأكاديمية الليبية الإيطالية بمدينة روما. وله مشاركاتٌ علميةٌ مع المركز الثقافي الإيطالي بطرابلس الذي ألقى فيه بعض المحاضرات، ومركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، وجامعة (ناصر) حيث كان يُعلّم اللغة الإيطالية. وقد قام بتدريس اللغة العربية في الدورات المسائية التي كان ينظمها المركز الثقافي الإيطالي بطرابلس.

وبمناسبة الحديث عن المركز الثقافي الإيطالي، اتصل بي الأستاذ علي وأخبرني بأنّ ثمة ندوةً علميةً بالمركز بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب المستشرق الإيطالي ميكيل آماري (تاريخ المسلمين في صقلية )، وهو يقع في عدد من المجلدات، ويجب أن أحضرَ هذه المناسبة من أجل أن يحدّثَ مديرَ المركز للحصول على نسخةٍ لي، وكان الأمر كما رتّب له.

والكتاب بحق من أهم ما أُلّف في موضوعه وهو ذخيرةٌ تاريخية لا تقدّر بثمن، ولا يوجد له نظيرٌ في اللغة العربية للأسف.

وكلّ ما هنالك دراساتٌ متواضعة للدكتور أمين توفيق الطيبي وعزيز أحمد وغيرهما. وأنا سعيدٌ بحق لاقتنائي هذا الكتاب المحدود التوزيع للأسف، وكلما نظرتُ فيه دعوتُ لأستاذنا علي حسنين.

وكان الأستاذ علي حسنين يتلطف عليَّ فيهديني من حين إلى آخر أعداداً من مجلة (الشرق) التي تصدر باللغة الإيطالية وملخص للبحوث بالعربية، وهي مجلة حديثة غير مجلة (المشرق) التي كان يصدرها لويس شيخو، وكان الأستاذُ عليّ حريصاً على أن يمهرَ تلك النسخ بخاتمه الخاص، وحسناً فعل لأنه مع طول الزمن يذكرني بمن أهداني تلك النسخ. كما أهداني نسخةً من كتاب (خرز ملون) يتضمن سبعاً وعشرين قصةً قصيرةً مترجمةً إلى العربية لكاتباتٍ إيطالياتٍ، وهي أيضاً ممهورةٌ بذلك الخاتم، ولولاه ما عرفتُ من أين جاءتني هذه النسخة.

وأذكر أنني سرتُ ذات صباح مع الأستاذ علي نطوف أزقةَ المدينة القديمة، وهو يحدثني: هذا بيتُ فلان، وهذه دارُ فلان، وهذا مخبزُ فلان، وذاك نول فلان النّوال (النسّاج)، وهذه مدرسة درغوث، وتلك مدرسة عثمان باشا، وفيها خلوة للشيخ الفلاني، وكان يسكنها قبله الشيخ العلاني، وكأن الأستاذ يستعرض من ذاكرته شريطاً وثائقياً.

لم يكتفِ بذكر المباني من دورٍ وحوانيت، بل كان يحدثني عن ساكنيها من مُلاكٍ ومستأجرين، ومَن كان من سكانها الأصلاء أو من الوافدين. أو من كان منهم من أهل العلم أو كان من التجار أو من أصحاب الحِرفِ والصناعات التقليدية الخفيفة.

وكان يتذكر أنّ فلاناً كان من المهرة في صناعة المراوح أو الطواقي، أو المنسوجات الحريرية، أو البدلات العربية التي جاءت مع الأتراك، كالفرملة والزبون (الكاط) الذي تظهر عليه مهارات التطريز، وما اشتُهِرت به بعضُ البيوت من صناعاتٍ نسائية كالفرملة النسائية، والقمجّة المطرّزة بالفضة، والتلّيك.

وكم كان حديثه ممتعاً عن مداخل المدينة القديمة وأسواقها: سوق المشير، وسوق الذهب، وسوق الرباع، وسوق اللفّة، وسوق القصدارة، وهو ممر يضم دكاكين صغيرة يأتيها الناس لطلاء الأواني النحاسية والطناجر بالقصدير، أو لشراء الأهلّة لوضعها فوق قِباب المساجد.

ثم حدّثني عن تاريخ ساعة الميدان التي نُصِبت فوق برج يُعرف ببرج الساعة والتي كانت تُرى من وسط المدينة قبل ازدحامها بالمباني، ولكنّ حديثه عنها لم يتبقّ منه شيء في ذاكرتي للأسف.

يتبع

_____________

المصدر: أرشيف منتدى ليبيا للتنمية البشرية والسياسية

مقالات