سالم الكبتي 

»أنا قد غمست حروفي.. بكل عروق الحياه … وبين ضلوعي لهيب إله.. وسر إله»  عبدالباسط الصوفي

اقترب خليفة التكبالي خلال دراسته في الكلية من الشعر. لم يكن شاعراً في تكوينه الأدبي والثقافي. أفرغ كل موهبته الفكرية في كتابته للقصة القصيرة وأضحى أحد روادها في ليبيا.

لكن الشعر استفزه وحركه ودعاه لأن يجرب ويبوح بما في نفسه القلقة. كان على الدوام، كما أشرنا، عنواناً للقلق والتمرد. والشعر وسيلة أو فرصة إنسانية لترجمة الكثير من المعاني التي تسكن العقل والقلب معاً.

فلماذا لا يخوض هذه التجربة. لعل الأجواء العسكرية وحالة معايشتها بالكامل طوال الأيام صرفته بطريقة أو بأخرى عن إبداعه القصصي.

صيف 1964 تمتع الطلبة بالإجازة السنوية بعد انتهاء المعسكر الخارجي في طلميثة شرق بنغازي. كان الطلبة يقضون أياماً تقارب الشهر هناك ويحتويهم ذلك المعسكر تحت ذرى الجبال والتلال ويقومون خلاله بالتمرينات العملية والرماية عبر فرضيات حربية تتوخى صد هجوم متوقع على ليبيا.

كان الطلبة يوزعون على مجموعات أو زمر لا تتعدى في الغالب الخمسة من الأفراد. وفي هذا التدريب وكذا في السنة التي تليه 1965 لم يكن التكبالي ضمن الزمرة التي تجمعه بالقذافي في أي من التدريبين العمليين.

رجع الطلبة بعد المعسكر ومعاناته إلى أسرهم. التكبالي كان في طرابلس. التقى بأصدقائه المحدودين. وكان معه مشروع قصيدة في جيبه وصلت معه إلى المدينة. أعاد كتابتها وتنقيحها بين البيت والمقهى. عرضها على بعض صحابه. وجدت ترحيباً منهم. بعضهم رأى أن هذه المحاولة أو التجربة الشعرية ستسرقه من القصة.

وفي كل الأحوال بحكم معرفته بالمهتمين في الوسط الأدبي بموهبته ونتاجه نشرت القصيدة في مجلة الإذاعة الليبية في أحد أعدادها ذلك الصيف.

جعل التكبالي (المويجات الولهى) عنواناً للقصيدة. كانت من النوع الحر. قصيرة ومكثفة. إشارات تغمرها بفقد وفراغ نفسي يعتريه. البحر ومويجاته في طلميثة حيث مشروع المعسكر الخارجي ثم عند شاطئ طرابلس كان لوحة شاملة لإطار القصيدة الوحيدة له حتى الآن.

قد يكون ترك مثلها لدى الصحاب في طرابلس أو رفاق الكلية ولم تجد طريقاً للنشر. القصيدة تحكي عن جو خاص عاشه التكبالي هرب منه إلى التعبير شعراً وليس قصة. غطاه بما يفعم أعماقه الساخنة المتدفقة. يقول التكبالي في صورته الشعرية هذه:

(والبحر يمتد بساطا من العشب أخضر اللون .. يداعبه النسيم فيزهو .. وتمسح النسمات وجهه الصافي فتطفو على سطحه الرقراق.. مختلف الأحاسيس .. مويجات صغيرة تعدو إلى الشاطئ البعيد.. تمضي وتمضي ثم تحنو. تقبل الصخرة.. تعانق الرمل تشدو .. أنشودة الحب والحنين والوجد .. بخريرها الرائق العذب. وداعا رفيقي لن يطول بنا البعد .. سأعود يحرقني الحنين ويعلو هامتي الزبد ..فيحني الصخر هامته ويتشبت بزبدها الأمل . عطشان.. لا تذهبي لكنها تنسل في رفق ..وفي خريرها ألم… وبين جوانحها كمد)

هل أراد التكبالي الهروب إلى الشعر من القصة؟ الأجواء خلالها فيها الوسط الذي يحياه. هذا البحر وهذه المويجات والصخور والرمل والرفاق وتذكر أيامه الماضيات في ألمانيا وغيرها من صور قديمة أو جديدة لا تخرج عن آفاق معسكر طلميثة وحنين التكبالي إلى شيء بعيد.

هل كان ممكناً أن يصير التكبالي شاعراً. هل كان سينجح في المهمة الفنية أكثر من عطائه في القصة. كان الشعر الحر الحديث تلك الأيام يقرع الأبواب ويدق النوافذ في ليبيا ويخلق حركة متنامية في الجيل الجديد الذي تأثر كثيراً بالرواد في بيروت ودمشق والقاهرة..

الملائكة والسياب والبياتي وقباني وحجازي والصوفي وعبدالصبور والفيتوري.. وغيرهم. كان يومها علي الرقيعي من أبرز فرسان تلك الحركة الجديدة عبر حنينه الظامئ وأشواقه الصغيرة. بعد خمسة أشهر من رحيل التكبالي في يونيو 1966 سيرحل هذا الشاعر الرائد نتيجة لحادث سيارة في إحدى ليالي نوفمبر.

الموت يطفئ التجربة وتوهجها. جيل ينفرط خيطه ويغيب. التكبالي والقصة والموت يوقفه عن الشعر ثم الرقيعي ينقله الغياب بعيداً عن النثر والشعر في وقت واحد. كانا من أصحاب العمر القصير.

فيما يشرع الصادق النيهوم في تجربته بدراسة الكلمة والصورة والحديث عن المرأة والديانات ويطل أيضاً يوسف الشريف وأنيس السنفاز وخليفة الفاخري وأحمد إبراهيم الفقيه.. وغيرهم. آفاق الستينيات ومرحلة مشرقة ترفد التاريخ الأدبي الجديد بنوافذ مفتوحة على الضياء والنور.

رغم المعاناة في الحياة العسكرية أيام الدراسة كان التكبالي يتنفس حرية داخل نفسه. ثمة لحظات إنسانية لا تفوته أو تفارقه. حين النزول إلى بنغازي في العطلة الأسبوعية إذا لم يكن ثمة حرمان يشمله من ذلك..

يمضي وبطريقة حذرة عند المساء وقبل أواخر الليل نحو ملاذ يجمعهم بعيداً عن الأعين والترصد في صالة أولمبيا أمام المدرسة الثانوية أو فندق لوكس عند شاطئ البحر قرب الميناء. كأس وحكايات وشعور بالوجود.

ظل التكبالي بعيداً عن مفاتحة القذافي له بالمشاركة في التنظيم الخاص بالوحدويين الأحرار. قد يكون علم بطريقة أو بأخرى بما يجري لكنه حمل استخفافاً أو رفضاً وحفظ السر في جوفه أو لعله كان لديه مشروع آخر لم يبح به لأحد أو جمعه تنظيم آخر كما سيتضح في سطور قادمات.

بعض الرفاق من زملاء الكلية كانوا قريبين من التكبالي.. محمد نجم على سبيل المثال. لكن الزميل الآخر محمد السنوسي بن طاهر كان أكثر قرباً خلال فترة الدراسة. بعد تخرجه صيف 1965 عين ملازماً بالمخابرة في معسكر قاريونس. كان القذافي معه في التعيين وآخرون.

ذلك الصيف التقى بعض الضباط الجدد في رحلة إلى بحر قاريونس القريب.. وهناك رحل بن طاهر غرقاً وغاب في أمواجه المتحركة قبل رحيل رفيقه التكبالي.

ليالي الكلية ستوحد التكبالي وبن طاهر في مواجهة حادة مع القذافي. عراك وصوت عال. اجلود يسير بهما إلى ضابط الخفر بإصرار من القذافي. الأسباب تحددت في تمسك القذافي بمذياعه الصغير والاستماع إلى صوت العرب. وتشبث التكبالي ورفيقه بالإذاعات التي تذيع الأغاني الأجنبية والألحان الراقصة.

نقيضان لم يلتقيا على الإطلاق. تلك الليلة حدث المزيد من التقاطع.. المزيد من الاستخفاف بين الطرفين. فماذا يذكر اجلود عن واقعة صوت العرب والرقص.. بالتفصيل؟

وبماذا أشار اجلود والقذافي للتكبالي بمشاعرهما وهو يتذكر عيد مولده في مايو 1964؟

شيء ظهر لاحقاً بعد رحيل التكبالي بسنوات. لم يتعد حدود المجاملة التي تختلف عن الواقع المنظور داخل أسوار الكلية.

________________

مقالات