عمر الكدي 

الدولة الرعوية تتكون من قطيع وراعٍ ومجموعة من الكلاب.

عندما يصل الراعي بقطيعه إلى المرعى، يجلس على أعلى هضبة ليشرف على القطيع، وإذا لاحظ أن أي فرد من القطيع ابتعد قليلا، يصفر إلى أحد الكلاب فيعيده إلى القطيع، وإذا اقترب أحد الذئاب من القطيع، تشمه الكلاب وتبدأ في النباح بشكل هستيري، فيتحسس الراعي سلاحه ويسرع نحو الجهة التي تنظر نحوها الكلاب.

وفي الأثناء يتجمع القطيع بعيدا عن الخطر، في انتظار ما ستسفر عنه المعركة، والتي غالبا ما تنتهي بهروب الذئب، وفي الليل يجمع الراعي القطيع في حظيرة مسورة بشوك شجر السدر، ويوقد نارا كبيرة ويترك للكلاب مهمة الحراسة طوال الليل.

مقابل هذا التفاني تفوز الكلاب ببعض اللحم، وكل العظام التي يلقيها الراعي بعد أن يأكل معظم اللحم، ولكن الراعي دائما في حاجة إلى الذئب ليخيف به القطيع، فإذا اختفى الذئب لن يكون هناك حاجة إلى الكلاب، وإذا اختفت الكلاب سيتمرد القطيع.

يحسب الراعي الربح والخسارة في كل الأحوال، بحيث لا يموت الذئب ولا يفنى القطيع، وبهذا التوازن يفوز الجميع الراعي والكلاب والذئب، كما يطمئن القطيع أن الراعي سيقوده إلى مرعى به ما يكفي من الكلأ، وبئر به ما يكفي من ماء، دون أن يدرك أن الذئب الحقيقي هو الراعي، فهو يذبح من الخراف أضعاف ما يفترسه الذئب، كما أنه يأخذ كل الحليب باستثناء ما يتركه في الضروع لترضعه المواشي الصغيرة، وما يعطيه للكلاب، كما يأخذ من فوق ظهورها الصوف والشعر والوبر.

لا فرق بين الدولة الرعوية والدولة الريعية، باستثناء أن الدولة الرعوية تعتمد على المطر والكلأ، بينما تعتمد الدولة الريعية على الخراج في الماضي، وعلى النفط والغاز في العصر الحديث، فكل دولة ريعية هي دولة رعوية.

لا حق للقطيع في التفكير والتدبير في أي شأن من شؤون الدولة، أنه حق يحتكره الراعي حصرا، ولذلك يقفل الحاكم كل مصادر الرزق، ويؤمم كل شيء تحت شعار الاشتراكية، فهو يؤمن أن الماء والكلأ والنار مشاع للجميع، ولكن نمط إنتاجه يجبره على بيع الخراف ليشتري ما يلزمه ليكمل دورته الاقتصادية.

جماهيرية القذافي العظمى هي مثال لهذه الدولة.

جلس القذافي تحت خيمته في أعلى هضبة، وترك الكلاب تدير كل شيء، ولكنه على عكس غيره من الرعاة ادعى أنه سلم السلطة للقطيع.

القطيع نفسه لم يصدق ذلك، وهو يرى الكلاب نفسها وهي تحاصره من كل مكان، وتنهش لحم كل من يصدق أنه أصبح سيد نفسه.

كل ما في الأمر أن هذا الراعي أعفى نفسه من الذهاب إلى الانتخابات كل خمس أو ست سنوات، والذي واظب عليه بقية الرعاة الذين فازوا في الانتخابات بنسبة 99 %، ولو تصورنا أن القذافي ذهب إلى الانتخابات لما رضى بالفوز بأقل من نسبة 100 %، وإذا فاز بنسبة 99 % فستبحث الكلاب عن الواحد في المائة الذي فضل مرشحا آخر إن وجد.

القذافي بدوي قح على عكس الرعاة الآخرين، يتبرم بالحسابات المعقدة ولهذا ادعى أنه سلم السلطة والثروة والسلاح للقطيع وأراح نفسه، ولكن عندما ثار القطيع خرج من خيمته، وأطل من مكان عال ليصرخ في القطيع «من أنتم؟».

دولة القذافي دولة بسيطة لا يحتاج فيها لعقد اجتماعي بينه وبين القطيع، ولا وجود لأحزاب «من تحزب خان»، ولا يعرف القطيع من خان من، ولكن الكلاب تتعلم كيف تختلس بعض اللحم، ولهذا ينظم الراعي حملات تقودها لجان التطهير، ترفع شعار «من أين لك هذا؟»، وحملات أخرى تقوم بها اللجان الرعوية، واللجان القطعانية فاللجان في كل مكان، وهي تهتف «نصفيهم بالدم سير ولا تهتم».

الأمر الذي يجعل بعض الكلاب تهرب وتلتحق بالذئاب، وعندها توصم بأنها «كلاب ضالة»، ولأن الراعي دائما في حاجة إلى الذئاب ليخيف بها القطيع، توصم الكلاب الضالة بالعمالة للرجعية، والاستعمار والصهيونية والإمبريالية والزندقة والإرهاب، ومن يقبض عليه يشنقه القطيع وسط المرعى، وهو يهتف «تبي وإلا ما تبيش من غير الراعي ما فيش».

لا يأخذ الراعي شيئا من القطيع، فالكلأ وفير يخرج من تحت الأرض أسود قبل أن يتحول إلى اللون الأخضر، الذي يوفره لقطيعه بالمجان، على عكس الرعاة الآخرين الذين يفرضون ضرائب على القطيع، ولهذا يتنازلون على بعض امتيازاتهم، فيسمحون بتأسيس الأحزاب والصحف الخاصة، بل يسمحون للقطيع بتأسيس نقابات بشرط أن تسيطر عليها الكلاب.

في المراعي المجاورة يدعي الرعاة بأنهم أنظمة رعوقراطية، ولهذا يخرج الرعاة للانتخابات كل خمس أو ست سنوات، ولديهم مجالس منتخبة لنواب القطيع، وعقد اجتماعي ينص على أن الراعي مدى الحياة وقد يورث المرعى لأحد أبناءه، ولأن هذه الأنظمة أكثر تعقيدا من نظام القذافي، لجأت إلى توظيف الحمير، فهي التي تقود القطيع إلى المرعى، وهي من تعود بالقطيع إلى الحظيرة، وحتى يتبع القطيع الحمار، استحدث مهنة جديدة تسمى «المرياع».

في نظام القذافي يسمى أمين المؤتمر، أو أمين اللجنة الشعبية، حيث يختار الراعي أحد الخرفان ويربيه إلى جانب الحمار حتى يتعودان على بعض، بل أن الخروف يعتقد أن الحمار أمه، وحتى يصبح مؤهلا لمهنته كمرياع، يخصي الراعي هذا الخروف، فترتفع في جسمه هرمونات الأنوثة وتنخفض هرمونات الذكورة، فيختفي صوته الأجش ويظهر صوته الرفيع الذي يميزه عن بقية الخراف.

كما يقطع الراعي مقدمة قرنيه المدببين، فيصبح غير أهل للصراع مع بقية الخراف، ويعلق في عنقه جرسا فكلما سمع القطيع الجرس يتبع المرياع، الذي يتبع الحمار لأنه يعتقد أنه يتبع أمه، وعندها يطمئن الراعي فينام قرير العين في خيمته، تاركا الكلاب لتحرس القطيع من الذئاب والكلاب الضالة، ولكن لأنه نظام رعوقراطي، يختار بعض الكلاب لتنتقد بقية الكلاب بالنباح فقط، مدعيا أن مرعاه به حرية نباح، بل ويسمح لها بتأسيس أحزاب معارضة، ويكلف أبنه بتأسيس حزب المرعى الحاكم، الذي يفوز في كل الانتخابات من دون منافسة تذكر.

إذا حدثت انتفاضة ضد الراعي وطالب القطيع بتنحي الراعي، تضغط الكلاب والحمير فيختفي الراعي ويحل محله راعٍ جديد، وهو في الحقيقة نفس الراعي بعد أن يتنكر قليلا فيظهر بمظهر جديد.

يقيل على الفور كل الكلاب والحمير التي كانت في السلطة، ويختار كلابا وحميرا جدد، فالذي خدع القطيع بالمرياع وجعله يتبع الحمار يستطيع خداع القطيع مرة أخرى، بينما يسقط النظام الرعوي البسيط مثل نظام القذافي وبشار الأسد، لأن النظامين لا يملكان مرياع ولا حمير، فيضطر الراعي إلى الهروب بينما تتبعه الخراف والنعاج والتيوس والماعز والكلاب، فإذا هرب خارج المرعى ينجو بحياته، وإذا بقى داخل المرعى يحاصره القطيع وينطحه بقرونه الحادة في كل مكان في جسده حتى يصبح جثة هامدة.

ولكن سرعان ما يعود المرعى إلى حياته السابقة، إلا أن اختفاء الراعي يجعل من المرعى يتحول إلى مرعقراطي، فينتخب القطيع مجلسا من الحمير والبغال والكلاب، الذين يستحوذون على كل شيء فيجوع القطيع ويندم على انتفاضته ويحن إلى الراعي القديم، الذي كان يقدم الكلأ والماء مجانا.

فهذا القطيع منذ أن يستيقظ في الصباح لا يبحث عن الحرية والكرامة وحقوق القطيع، وإنما يصعد إلى الهضاب ويهبط إلى الوديان باحثا فقط عن الكلأ، فإذا خرج كلب أو حمار يتمكن من الاستحواذ على جزء من المرعى، يلتفت إليه كل القطيع خاصة إذا تبعه المرياع بصوته الجميل وجرسه الذي لا تخطئه أذان القطيع.

فيعتقد أن الراعي القديم الذي نطحته الخراف والتيوس حتى الموت، بعث من قبره وعاد إلى الحياة من جديد، ويدخل المرعى والقطيع في حلقة جهنمية.

فالكلاب والحمير لا تتفق أبدا، والانتخابات التي كانت متاحة أيام الراعي السابق في المراعيقراطية تصبح مستحيلة.

وهكذا ينقسم المرعى إلى مرعيين، كل مرعى يحكمه كلب أو حمار، وفي كل مرعى مرياع يتبع الحمار وجرسه يرن فيتبعه القطيع.

وهذه صفحات من كتاب كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع نجت من الحرق بأوامر من الراعي العباسي نصره الله.

_________________

مقالات