يوسف عبد الهادي

ليس خافيا كيف تسلط المؤتمر الوطني –مستعينا بالأموال المتدفقة نحوه من جهة الحكومة المصرية وجامعتها العزّامية– على المشهد في إقليم طرابلس، ورأينا أيضًا ما قام به المؤتمر وزعيمه من تصرفات غير مُقدِرة للعواقب كادت أن تُفشِل خطوات البلاد نحو الاستقلال وأن تضع الوطن الوليد في مهب الريح!.
وفي هذه المقالة سنطّلع وبشكل موجز على عينة أخرى من عينات التآمر التي حاقت بدولة ليبيا الوليدة منذ سعيها لنيل استقلالها وحتى سقوط الملكيّة فيها، تلك المؤامرات التي انجرت إليها –بلا وعي– فئة من أبناء البلاد ممن يعتبرون في نظر الشعب حتى هذه اللحظة أبطالا قوميين, ولا زالت أسماءهم تُستدعى كأدوات لتحقير رجال ودولة الاستقلال!.
ولنبدأ حديثنا من تقرير مخابراتي مصري خطير وصادم تحصلت رئاسة الامن في العهد الملكي على نسخة منه، وتجدونه كاملًا في كتاب (حقيقة إدريس)، وقد حُرِر هذا التقرير الذي تجاوز العشر صفحات في سبتمبر من سنة 1954, ورُفِع إلى أعلى منصب في مصر “الجمهورية” آنذاك.
يتناول هذا التقرير الوضع السياسي الليبي، وقد اجتهد كاتبه أيما اجتهاد في محاولة رسم صورة سوداوية وقاتمة للعهد الملكي في ليبيا، وهو في نفس الوقت الذي يوصم فيه كل المسؤولين ورجال الدولة الليبيّة بالعمالة والجوسسة لصالح الاستعمار؛ فإنه يعيب على السياسة المصرية سيرها في اتجاه مماشاة الأمر الواقع ومسايرتها للعناصر الحاكمة في ليبيا، ويضيف:
“إن أخشى ما تخشاه مصر هو أن تضيع الفرصة عليها في مستقبل ليبيا وتفقد الزمام من “يدها“, ثم ينصح بفعل “ما يُمكن أن يُحقق كسب الوضع القائم في ليبيا ومستقبلها“. !
ليس هذا فحسب!, فبعد أن يمضي هذا التقرير التحريضي في استعراض تاريخي عن نشأة الأحزاب والمؤتمر الوطني في طرابلس وجمعية عمر المختار في برقة, وبعد أن يتهم الملك وعهده بالقضاء عليها, فهو يحاول أن يعزو حالة الهدوء والاستقرار التي بدأت تتمتع بها ليبيا في ذلك الوقت إلى قوة الضغط والإرهاب البوليسي لا غير!
كما يعلن بكل وضوح عن دور مصر في الكفاح الليبي الجديد!, ويخلص –بكل وقاحة– إلى العناصر الهامة التي تُمكّن مصر من السيطرة على ليبيا وتؤمن بها حدودها الغربية؛ ليُلخصها في طريقة إيجاد (مقاومة) ليبية سرية عن طريق التعاون مع الأحرار الليبيين؛ وهي العناصر التي ستتجه إليها مصر في تنفيذ السياسة الجديدة لصنع مستقبل ليبيا وتحريرها – حسب قوله – وذلك بما يلي:
“- الاتصال بزعماء الأحزاب الوطنية (المنحلة) لتأليف مقاومة ليبية وطنية سرية تحتضنها مصر وتسهل مساعدتها ماديا وأدبيا.
– الاتصال بزعماء الطلبة الليبيين في مصر لتوجيههم وإعدادهم للقيام بالدور.
– مساعدة كل الأحرار والمضطهدين ورفع معنوياتهم ولو عن طريق سري“.
ثم يختم كاتب التقرير تقريره بالقول:
“إذا تم كل ذلك نستطيع أن نؤكد أن انقلابا سياسيا قريبا سيحدث في ليبيا، وأن نتائج حسنة مضمونة بالنسبة لمصر ستتم في مدى قريب جدًا، ولتسهيل تنفيذ هذه البرامج –على حد تعبيره– يبين الكاتب للمسؤولين المصريين استعداده لتقديم الشخصيات الليبية التي يمكن الاعتماد عليها“.
(انتهى)!.
وعليه، واستكمالا للصورة ولما ورد في هذا التقرير الخطير دعونا ننتقل إلى حديث المرحوم (بشير المغيربي) في كتابه: (وثائق جمعية عمر المختار)، ونقرأ ما كتبه عن علاقة أعضاء الجمعية بدولة مصر في تلك الفترة تحديدًا فيقول:
“في سنة 1955 قال لي السيد “أحمد بن بيلا” إن مسؤولين في رئاسة الجمهورية المصرية يودون الاجتماع بمن يمثّل جمعية عمر المختار للتعارف وتبادل وجهات النظر، فأبلغت ذلك للأستاذ “مصطفى بن عامر” الذي كلفني بأن أسافر مع بن بيلا إلى مصر لنعرف ما يريدون، وكان هذا أول لقاء في مصر مع مسؤولين في الرئاسة، ثم تعددت اللقاءات مع رجال الثورة المصرية حتى تشرفت بلقاء الرئيس جمال عبد الناصر، وتكررت اللقاءات معه بدعوة من الرئيس وبحضور مدير مكتبه“.
(انتهى)!
إذًا المسألة لم تكن مجرد حبر على ورق!، وأن كلام المغيربي هذا لم يخرج عن الخطة التي رسمها ذلك التقرير حرفيًا، وأن التنفيذ بدأ فعلاً بعد تقديم التقرير ببضعة شهور لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة !!.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد!، حيث نقرأ ما سطّره سكرتير بشير السعداوي “أحمد زارم” في كتابه (حتى لا يضيع التاريخ) إذ يقول:
“في شهر نوفمبر من سنة 1956 أو قبله بقليل وصلتني رسالة من المغفور له بشير السعداوي يطلب مني الالتحاق به لأعمال هامة …. أقمت في القاهرة عشرة أيام اتصلت خلالها بالدكتور “محمد فؤاد شكري” ومنه علمت أن السعداوي انتقل الى سوريا فعولت على الالتحاق به هناك.
وفي خلال الأيام العشرة رأيت ألّا أسافر دون الاتصال بالجهات المصرية، فقابلت “الرئيس جمال عبد الناصر” ولم تكن مقابلتي هذه إلّا لحظة للسلام ثم قابلت “علي صبري” وكان إذ ذاك شابا يبدو أنه وديع قليل الكلام، وبعد محادثة غير طويلة أحالني إلى “فتحي الديب“.
وأقول الحق أنني لم أستطع التفاهم معه، وخرجت من مكتبه في حالة نفسية غير التي دخلت بها. وبعد هذه المقابلات ركبت الطائرة من القاهرة الى دمشق, وفيها اتصلت بالمرحوم “السعداوي” فوجدت عنده تدابير وبرامج واستعدادات لحركة وطنية ليبية, وبعد أيام من وصولي كتبنا مذكرة الى الرئيس جمال عبدالناصر أُرسلت عن طريق السفارة المصرية بدمشق, وبينما نحن في انتظار الرد على المذكرة أصيب السعداوي بألم في إحدى رجليه تسبب له في ملازمة الفراش, وعلم شقيقه نوري السعداوي فجاءه من بيروت وبعد أن أقام معه أياما وأجرى له عدة كشوف طبيّة قرّرَت أن لا معالجة مفيدة إلا ببتر الرجل, فرفض أخوه ذلك ونقله الى بيروت, وبعد ثلاثة أيام أعلنت إذاعة لبنان انتقاله الى رحمة الله يوم 17 يناير 1957.
وفي أوائل فبراير عدت من دمشق الى القاهرة وقابلت مرة أخرى “علي صبري” وبعد عشرة أيام في القاهرة عدت بالطائرة الى تونس“.
(انتهى)!
…
يتبع
________________