خالد عصام الإسلامبولي
المرحلة الثالثة: الاستقلال والحكم الملكي الدستوري (1951 – 1969):
أصدرت الأمم المتحدة قراراً في نوفمبر/تشرين الثاني 1949 نُص فيه على ضرورة أن تكون ليبيا دولة مستقلة قبل يناير/كانون الثاني 1952، وكذلك وضع دستور للدولة الجديدة، يتم إقراره عن طريق جمعية تأسيسية وطنية، تضم ممثلين عن الأقاليم الثلاثة (طرابلس، وبرقة، وفزان)، بالتشاور فيما بينها كهيئة واحدة، وكذلك تعيين مفوض خاص من الأمم المتحدة، للمساعدة في صياغة الدستور، وإنشاء حكومة مستقلة.
ومن الملاحظ أنه قد ثار جدل شديد أثناء مناقشة الجمعية الوطنية التأسيسية حول شكل الدولة، وما إذا كانت دولة بسيطة أم دولة اتحادية فيدرالية، فقد تخوف البعض من فكرة الفيدرالية لأسباب عديدة، كان أبرزها أن حالة البلاد الاقتصادية في زمن التأسيس لا تسمح لكل إقليم من الأقاليم المكونة للاتحاد، بأن يكون وحدة كاملة قائمة بذاتها، وأنه لا بُد من إيجاد حكومة واحدة لها، وقد انتهت مناقشات الجمعية، بأن الوضع الفيدرالي لليبيا، سيكون طارئاً مؤقتاً، ومن ثم وافقت الجمعية على مبدأ اتحادية الدستور الليبي.
وقد نصت المادة الثانية من ذلك الدستور على أن “ليبيا دولة ملكية وراثية شكلها اتحادي ونظامها نيابي وتسمى المملكة الليبية المتحدة“. وتم الانتهاء من ذلك الدستور بعد إقراره من الجمعية الوطنية الليبية في أكتوبر/تشرين الأول 1951، وأعلنت ليبيا استقلالها في ديسمبر/كانون الأول 1951 تحت اسم المملكة الليبية المتحدة بنظام ملكي دستوري وراثي. وبهذا أصبح لليبيا دستور حقيقي مكتمل الأركان.
وأثناء سريان الدستور، كشف التطبيق العملي عن عيوب النظام الفيدرالي، وعدم ملاءمته للوضع الليبي، خاصة في المسائل المالية، وتنازع الاختصاص بين الحكومة المركزية الاتحادية، وحكومات الولايات.
ومن ثم قام (الملك إدريس الأول السنوسي) بتعديل الدستور 1963 وبموجبه تم إلغاء مبدأ الاتحادية الفيدرالية من الدستور، وتم إلغاء حكومات الأقاليم لاسيما المجالس التشريعية لها، وتم تعديل الاسم الرسمي للدولة بحذف كلمة المتحدة منه ليصبح “المملكة الليبية“، وقد استمر العمل بذلك الدستور المُعدل حتى نهاية أغسطس/آب 1969.
المرحلة الرابعة: الجمهورية والجماهيرية (1969-2011):
قامت مجموعة من شباب الضباط بالقوات المسلحة الليبية بإنشاء (تنظيم الضباط الوحدويين الأحرار) بقيادة (العقيد معمر القذافي) وقامت بحركة في سبتمبر/أيلول 1969 وأطلق عليها (انقلاب/ثورة الفاتح من سبتمبر 1969)، وكان أحد الأسباب المباشرة في قيامها، استمرار وجود الكثير من القواعد الأجنبية على الأراضي الليبية، أخصها قاعدة (وايليس الجوية) المذكورة آنفاً، وقد أطاح نظام القذافي بالنظام الملكي الليبي، وألغى دستور 1951 المُعدل، وأعلن قيام الجمهورية العربية الليبية، وأصدر إعلاناً دستورياً مؤقتاً في ديسمبر 1969، والذي نص فيه على أن “مجلس قيادة الثورة هو أعلى سلطة في الجمهورية العربية الليبية“، وقد ظل هذا الإعلان الدستوري قائماً من 1969 حتى 1977.
إلا أن التحول الأكبر في هذه المرحلة كان في مارس/آذار 1977، حين صدر (إعلان قيام سلطة الشعب)، وبموجبه أعلن تحول الجمهورية العربية الليبية إلى (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى)، استناداً إلى ما سماه (النظرية العالمية الثالثة) والواردة بعدة وثائق مؤسسة لها وهي (البيان الأول لثورة 1969- خطاب الثورة الثقافية بمدينة زوارة بالمولد النبوي الشريف 1973- الكتاب الأخضر 1975- وأخيراً الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عصر الجماهير 1988). وقد أعلن القذافي استقالته من منصبه كرئيس للجمهورية بعد هذا الإعلان، واحتفظ لنفسه بلقب شرفي (الأخ قائد الثورة).
بعد توقيع اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، انتهت ولاية حكومة الإنقاذ الوطني، والتي حلت محلها “حكومة الوفاق الوطني” في بداية 2016، وكذلك تم تأسيس “المجلس الأعلى للدولة“
قام نظام الجماهيرية على عدة أفكار مفادها أن “الديمقراطية النيابية القائمة على التمثيل النيابي، ما هي إلا حكم غيابي ودجل وأنها تزييف للديمقراطية– وأن الحزبية خيانة وأنها تجهض الديمقراطية– وأنه لا ديمقراطية حقيقية من دون ديمقراطية مباشرة بالمؤتمرات الشعبية– وأن يمارس الشعب حكم نفسه بنفسه عن طريق اللجان الشعبية“.
وكانت هذه محاولة بائسة لمحاكاة “نظام الجمعية الدستوري” المتبع بسويسرا فقط، والذي يُشترط لتحققه ممارسة الديمقراطية المباشرة، بحيث يقوم الشعب بمباشرة الحكم بنفسه لنفسه مباشرة، وقد فشل تطبيق هذا النظام في أغلب الدول الأوروبية، ونجح في سويسرا بسبب تقسيمها إلى كانتونات أو مقاطعات صغيرة المساحة، علاوة على قلة عدد السكان فيها حيث لا يتجاوز 9 ملايين نسمة، وارتفاع مستوى المعيشة والثقافة والتعليم والوعي الشعبي، ويفترض بداءة تداولا سلميا للسلطة، وكانت نتائج محاولة تطبيق هذا النظام في ليبيا كارثية مُشوهة.
وقد أعلن القذافي نفسه 1993 ضرورة وضع دستور دائم لليبيا، إلا أن هذا لم يتحقق على أرض الواقع، كذلك ما اقترحه المهندس سيف الإسلام القذافي، (نجل معمر القذافي) 2006 و2009 من الحاجة لوجود دستور ليبي دائم، وقد تم إعداد مشروع دستور 2009، إلا أنه لم ير النور.
المرحلة الخامسة: ثورة/انتفاضة فبراير 2011 والحروب الأهلية الليبية وما بعدها (2011- حتى الآن):
بعد الإطاحة بنظام القذافي بعد اندلاع ثورة/انتفاضة فبراير/شباط 2011، كان الموقف في ليبيا– ولا يزال– يتميز بالفوضى وشدة التعقيد، حيث تشكل “المجلس الوطني الانتقالي المؤقت الليبي” والذي تم الاعتراف به من أغلب دول العالم، والذي أصدر “الإعلان الدستوري الليبي المؤقت في أغسطس 2011″، لحين كتابة دستور دائم للبلاد يصادق عليه باستفتاء شعبي، حيث كان ذلك في أوج “الحرب الأهلية الليبية الأولى” (فبراير 2011- أكتوبر 2012)، وأجريت “الانتخابات المحلية الليبية” ثم “الانتخابات البلدية الليبية” بين 2011-2013، ثم إجراء “انتخابات المؤتمر الوطني العام” في يوليو/تموز 2012 وانتهت ولايته في أغسطس/آب 2014، وذلك بعد انتخاب “مجلس النواب الليبي” في يونيو 2014، ومن قبله “انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور” أو “لجنة الستين” في فبراير/شباط 2014.
إلا أن “الحرب الأهلية الليبية الثانية” (فبراير 2014– يونيو 2020) اندلعت بعد اشتعال الصراع بين “الحكومة الليبية” ومقرها مدينة بنغازي، والمُشكلة من مجلس النواب، ومقره مدينة طبرق، والمنتخب ديمقراطياً 2014، و“حكومة الإنقاذ الوطني أو حكومة فجر ليبيا” ومقرها مدينة طرابلس، والمسيطر عليها من قبل التيارات الإسلامية، والتي أسسها المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته، ورفض تسليم السلطة بعد خسارته الانتخابات 2014.
بعد توقيع اتفاق الصخيرات في ديسمبر/كانون الأول 2015، انتهت ولاية حكومة الإنقاذ الوطني، والتي حلت محلها “حكومة الوفاق الوطني” في بداية 2016، وكذلك تم تأسيس “المجلس الأعلى للدولة“، إلا أنه في يونيو 2016، تجدد الصراع مرة أخرى، إذ ألغى المجلس “اتفاق الصخيرات“، وسحب اعترافه بـ“حكومة الوفاق الوطني“، واستمرت الحرب قائمة، ووصل النزاع المسلح قمته بين عامي 2018 و2019، حتى توقف القتال في يونيو 2020.
وقد أنهت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور أعمالها 2016، وأصدرت “مشروع الدستور الليبي الدائم في يوليو 2017″، وأحالته لمجلس النواب لإصدار قانون الاستفتاء، وطرحه على الشعب للاستفتاء عليه، ثم أصدر مجلس النواب قانون الاستفتاء في يناير/كانون الثاني 2018، إلا أن المشروع لم يطرح للاستفتاء حتى الآن بسبب ظروف الحرب.
يرى البعض أن عودة الملكية ستكون بمثابة ضامن لوحدة البلاد، وإرساء لاستقرارها، ومخرج لليبيا من أزماتها الراهنة، فهل ستعود الملكية بدستور 1951 الاتحادي قبل تعديله، أم بنسخته بعد تعديل 1963 الذي ألغى الفيدرالية؟
دعت الأمم المتحدة في فبراير/شباط 2021 لعقد اجتماعات “منتدى الحوار السياسي الليبي“، بين “الحكومة الليبية” ببنغازي المدعومة من مجلس النواب، و“حكومة الوفاق الوطني” بهدف الاتفاق على توحيد الحكومتين المتنافستين، والاتفاق كذلك على طرح مشروع الدستور للاستفتاء قبل الانتخابات العامة، والتي كان محدداً لها نهاية 2021، وفي مارس 2021 تشكلت “حكومة الوحدة الوطنية الليبية الانتقالية“، برئاسة عبدالحميد الدبيبة.
إلا أن مجلس النواب الليبي سحب الثقة منه في سبتمبر 2021، وعين (فتحي باشاغا) خلفاً له في رئاسة الحكومة في فبراير 2022، وهو ما أعاد الأزمة الليبية إلى المربع صفر، مع وجود حكومتين، واحدة في بنغازي، والأخرى في طرابلس، واستمرار حالة الشلل، لا سيما أنه حتى الآن، لم يتم الاستفتاء على مشروع الدستور على الرغم من الانتهاء منه في 2017.
مستقبل ليبيا الدستوري
من الممكن استشراف السيناريوهات المحتملة لمستقبل ليبيا الدستوري، ويعتمد ذلك على عدة عوامل داخلية وخارجية تشمل المشهد السياسي، والتدخلات الدولية، وحالة المجتمع الليبي:
نجاح الحوار الوطني، وإعادة التعاون بين مجلس النواب، وحكومة الوحدة الوطنية: ويترتب على ذلك التصويت على مشروع الدستور، الذي تم إعداده أو تعديله أو صياغة دستور جديد بالكامل، بما يتناسب مع الظروف الحالية، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة تحت رقابة دولية، وتوحيد المؤسسات العسكرية والمالية تحت قيادة حكومة موحدة.
استمرار حالة الشلل والجمود السياسي، حال فشل الحوار الوطني وتزايد الخلافات: فقد يستمر الوضع الحالي مع استمرار الانقسامات، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات، مثل ضعف الدولة، وانهيار مؤسساتها نتيجة زيادة الانقسام المؤسسي، واستنزاف الموارد الاقتصادية، وتصاعد العنف بين الميليشيات المسلحة، لا سيما في حالة حدوث تدخل أوسع للقوى الإقليمية، بل من الممكن أن يؤدي هذا إلى انهيار المسار السياسي تماماً، وعودة النزاع المسلح على نطاق واسع، يؤدي إلى انقسام البلاد إلى مناطق نفوذ دائمة، مع زيادة احتمال تدخل الأطراف الخارجية عسكرياً.
عودة أحد طرفي الماضي: والواقع أن هذا السيناريو مركب يتكون من احتمالين، تحقق أحدهما نهاية للآخر، أولهما عودة الملكية في ليبيا: وهو احتمال أصبح مطروحا وبشدة، خلال الفترة الأخيرة بشكل جدي، ولا يمكن الاستخفاف به، لاسيما بعد دعوة (الأمير محمد الرضا الحسن السنوسي) نجل آخر ولي عهد للملك إدريس الأول السنوسي، للعودة إلى ليبيا من قبل حكومة الوحدة الوطنية.
ويرى البعض أن عودة الملكية ستكون بمثابة ضامن لوحدة البلاد، وإرساء لاستقرارها، ومخرج لليبيا من أزماتها الراهنة، بل إن المناقشات تخطت هذه المرحلة إلى مرحلة هل ستعود الملكية بدستور 1951 الاتحادي قبل تعديله، أم بنسخته بعد تعديل 1963 الذي ألغى الفيدرالية.
وثانيهما عودة أحد رجال الدولة في عهد معمر القذافي: وهو احتمال آخر غير مستبعد الحدوث، وقد تأكد هذا خلال الانتخابات الرئاسية 2021، حين استطاع سيف القذافي، تقديم أوراق ترشحه للانتخابات وقبلتها اللجنة المختصة، وقد لاقى خبر ترشحه قبولاً شعبياً ليس بالقليل، ودفع ذلك القبول الحكومة الانتقالية إلى تجميد الانتخابات الرئاسية، إلى أجل غير مسمى، خوفاً من احتمالية فوزه وحدوث اضطراب شعبي، نتيجة لذلك بين مؤيدٍ ومعارضٍ.
***
خالد عصام الإسلامبولي ـ قاض بمجلس الدولة المصري، حاصل على ماجيستير القانون الدولي والمقارن من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة، وباحث دكتوراه في القانون الدستوري المقارن.
_______________