كريم المرزوقي

على مستوى العملية السياسية وبتجاوز المستجدّ الميداني وصراع القوى على الأرض، تعيش ليبيا حاليًا منحيان سياسيان متوازيان، يتعلّق الأوّل بتركيز المؤسسات الانتقالية وهي الحكومة ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وفق ما حدده اتفاق الصخيرات، فيما يتعلّق الثاني بصياغة دستور البلاد من لجنة الستين.

كلا المنحيان متوازيان متكاملان حسبما تم ضبطه، على الأقل حسب الورقة الأممية، حيث تنحلّ المؤسسات الانتقالية بعد إنفاذ الدستور وسريانه بتنظيم أول انتخابات على ضوئه، ولكنهما يشتركان في تمثّل المحاصصة المناطقية كضابط حسم فيهما.

في ليبيا، هناك بوادر تسليم من الفاعل السياسي والاجتماعي بالمحاصصة المناطقية واقعًا وضرورة لا بديل عنها رغم خطر تقويض دولة المواطنة

تتجلى المحاصصة المناطقية كعنوان تسوية في العلن في المسار الأول، وشعار ترضية في أروقة لجنة الستين في المسار الثاني. والخشية، والتي تتجاوز مستوى التحذير من القادم إلى مستوى التنبيه من الجاري، هو تركيز تقاليد محاصصة مناطقية تنسحب من تمظهرات عملية الانتقال الديمقراطي الجاري، إلى مستوى دعائم دولة ما بعد 17 فبرير، وهذا هو الخطر المبين.

والأنكى هو وجود بوادر تسليم الفاعل السياسي، ومن ورائه أساسًا الفاعل الاجتماعي، بهذه المحاصصة كتسوية لازمة لا بديل عنها في الحاضر وفي المستقبل. وليكون السؤال الأساسي مستقبلًا في ليبيا من أين أنتبدل سؤال من أنتفي تقويض لدولة المواطنة. وهو ما يعني انضمام ليبيا لدول المحاصصة المشرعنةفي المجال العربي على غرار لبنان والعراق، والتي توطّنت فيها المحاصصة كعنوان أساسي للتسوية والحسم من زمن الأزمة إلى زمن الاستقرار في نسف لمشروع الدولة الوطنية وقيم المواطنة.

فمنذ إسقاط نظام القذافي قبل أزيد من 4 سنوات، لم تبرز ملامح المحاصصة المناطقية بشكل واضح كما تبينه المفاوضات الأخيرة، تشكيل المجلس الرئاسي والحكومة، وفق ورقة الصخيرات. وهو ما يعني، بالموازاة، مدى صعود مؤشر التوتر الجغرافي كضابط دفع وحسم في الأزمة الليبية وتحديدًا منذ وجود الثنائية المؤسساتية على المستوى التشريعي والحكومي، أي وجود مجلس وحكومة في الشرق ومجلس وحكومة في الغرب.

والأخطر على النحو الذي تمت الإشارة إليه هو ارتفاع عنصر التوتّر الجغرافي في لجنة الستّين على عكس زمن انتخابها قبل قرابة سنتين، خاصّة مع بوادر تركيز غرفة تشريعية ثانية تقوم على أساس المحاصصة الجغرافية بين الأقاليم الثلاثة، وهو ما دفع إلى تحفظ عدد هامّ من نواب اللجنة واستقالة بعضهم. وخاصة في ظلّ الجدل حول تحديد عاصمة ليبيا، ومنها دعوات لوجود 3 عواصم في ليبيا، عاصمة في كل إقليم.

تصاعد الجدل حول تحديد عاصمة ليبيا مؤخرًا ومنها دعوات لـ3 عواصم في ليبيا، عاصمة في كل إقليم

في هذا السياق، لا يجب تهميش العنصر الجغرافي في الساحة الليبية بل لا يمكن فهم المشهد الليبي وتبيّنه دون هذا العنصر المحوري. حيث لا يمكن تجاوز المعطى التاريخي المتعلّق بوجود التقسيم المناطقي الثلاثي، طرابلس وبرقة وفزان، قبل وجود الدولة الليبية في شكلها الحالي، بحيث أن التقسيم الجغرافي، على مستوى تمثله السياسي، هو أساس نشأة الدولة الحديثة تحت عنوان توحيد الأقاليم الثلاثة.

وفي جانب آخر، لم يكن هذا العنصر الجغرافي بالهامشي في تكوّن نظام القذافي وبقائه لأربعة عقود بل يتأكد هذا العنصر، حيث يتكثف بالضرورة في إطار التحالف القبلي الذي أرساه القذافي.

ولم يكن من قبيل الصدفة أن تندلع أولى تحركات ثورة 17 فبراير من جهة الشرق، التي يرى أهلها أنهم غُبنوا زمن القذافي وسُلبت حقوق إقليمهم خاصة فيما يتعلق بالثروة النفطية، ولتنشأ الدعوات الفيديرالية من الشرق التي لم تلق بالنهاية دعمًا شعبيًا، إضافة إلى دعوات شاذة للانفصام التام عن الدولة.

وبالتالي فإن ارتداد هذا العنصر لساحة النقاش والحوار بين الفرقاء الليبيين هو من طبيعة الأصل، غير أن الخطر يكمن في اعتباره دعامة تأسيس، وليس عنصر توجيه، وتبيّنه كركيزة بناء، وليس مؤشر تأثير.  

كل الخشية أن تصبح المحاصصة المناطقية هي العنوان الأساسي القادم في ليبيا، وتصبح رئاسة الحكومة، أو رئاسة البرلمان، أو وزارة ما، حكرًا على إقليم ما، وتلك هي الصورة السوداء لحلم 17 فبراير.

ولذلك يجب على الليبيين، وأولهم الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، أن يتبيّنوا في هذه اللحظة مخاطر ما يقدمون عليه، وحجم الجريمة التي يقومون بها بحقّ شعبهم ووطنهم وثورتهم، وذلك بأن يقوموا بالتنازلات اللازمة، وبتغليب المصلحة الوطنية الشاملة على المصلحة الجهوية الضيقة، وبصياغة دستور مواطني ينتصر لقيم 17 فبراير. وذلك قبل أن يذهب القطار في سكّة معطوبة منذ بدايتها سوف لن توصل القطار بالنهاية للمحطّة المرجوّة.

شبح ديمقراطية المحاصصة في ليبيا

شرعنت اتفاقية الطائف للمحاصصة بين اللبنانيين حسب ديانتهم وطائفتهم، ثم تمثّلت المحاصصة الطائفية كأرضية للمشهد السياسي في العراق بعد الاحتلال الأمريكي، والخشية أن تكون ليبيا كذلك بصدد الانضمام لمحور ديمقراطية المحاصصة في الوطن العربي عبر محاصصة جهويةقبلية. يذهب البعض لتأطيرها في إطار مفهوم التشاركية وتكريسها كأرضية داعمة للوحدة الوطنية.

ولذلك لعلّ من المهم الإشارة إلى أن المحاصصة ليست عاهة أو شائبة بالضرورة، ذلك أنها ذات أوجه متعددة ولها عناوين مختلفة، فهي تحمل الحسن وغير الحسن، بيد أنها قد تظلّ بابًا مشرعًا لدفن مفهوم المواطنة وتهميش المصلحة الوطنية لحساب مصالح أخرى.

الخشية أن تكون ليبيا بصدد الانضمام لمحور ديمقراطية المحاصصة في الوطن العربي عبر محاصصة جهويةقبلية

وإن كانت المحاصصة في لبنان والعراق نتاج حرب أهلية طائفية، فإن بوادر المحاصصة الليبية، والتي لا يمكن بعد الجزم بغلبة الحسن منها عما دونه أو العكس وفق معيار المصلحة الوطنية وقيم دولة المواطنة، فهي ذات منبت تاريخي أعادتها معركة التأسيس في ليبيا للواجهة.

فالدّولة الليبية هي نتاج توحيد ثلاثة أقاليم هي برقة وطرابلس وفزّان. ولم يقم نظام القذافي لاحقًا على القيم الديمقراطية والمواطنية، حيث انبنى نظامه على شبكة مصالح جهوية وقبلية ومالية متداخلة همّشت ما خرج عن دائرتها.

ولم يكن من قبيل الصّدفة أن تندلع شرارة الثّورة من شرق ليبيا الذي يعتبر ساكنته أنهم ضحية النظام السابق. ولذلك مع إسقاط هذا النظام وانطلاق المسار التأسيسي، عادت للسطح البثور الناتجة عن السياسات السابقة، وهو ما بلغ ذروته تمظهرًا إعلان النظام الفيدرالي في إقليم برقة من جانب واحد.

ولقد ظلّ المنطق الجهويالقبلي مقارنة بالمنطق الوطني الجامع محدودًا عمومًا في البداية مع اعتبار النظام الانتخابي للمؤتمر الوطني سنة 2012 كمؤشر، وهو نظام منح 2/5 من المقاعد للأحزاب والبقية للأفراد مع توزيع للمقاعد وفق الكثافة السكانية، بيد أن المنطق الجهويالقبلي ما فتئ يتصاعد على حساب المنطق الوطني تباعًا مع فشل المؤتمر الوطني في تطبيق خارطة الطريق واندلاع الأزمة السياسية التي انتهت بخارطة طريق جديدة قوامها انتخاب مجلس نواب، وهي الخارطة التي فشلت بدورها لتندلع الحرب المفتوحة بين الفرقاء في صيف 2014.

تم انتخاب لجنة الستين المكلفة بصياغة الدستور وفق محاصصة بين الأقاليم الثلاثة بمعدل 20 مقعد لكلّ إقليم

ولقد مثّلت الثنائية المؤسساتية، حكومتان ومجلسان نيابيان، إثر الانقسام الليبيالليبي بعد انتخابات مجلس النواب عاملاً مساعدًا لتأجج المنطلقات الجهوية والقبلية خاصة بعد انتخاب لجنة الستين المكلفة بصياغة الدستور وفق محاصصة بين الأقاليم الثلاثة بمعدل 20 مقعدًا لكلّ إقليم، ومع الانطلاق في أعمالها.

وإن كان انتخاب لجنة الستين بهذه التركيبة مؤسسًا على منطق تجاوز الغلبة، فإن وجود حكومة في الغرب وأخرى في الشرق عزّز النزعة الجهوية في السنتين الأخيرتين.

وعمل عدم تمثّل كل إقليم جغرافي ككتلة سياسية وعسكرية واحدة على تخفيف حدّة النزعة الجهوية وعدم تصاعدها نحو سيناريو تقسيم الدّولة. فلم تؤيد كل مدن المنطقة الغربية وقبائلها حكومة طرابلس من جهة ولم تؤيد كل مدن المنطقة الشرقية وقبائلها حكومة طبرق من جهة أخرى. كما لعبت المنطقة الجنوبية دور المحكّم أحيانًا عبر مبادرات أعضاء هذه المنطقة لرأب الصّدع في البلاد.

وعمومًا رغم فاعلية الاختراق المذكور وتحجيمه لسيناريو تقسيم الدّولة، فإنه لم يكن بالنهاية خارج المحدد القبلي نفسه وتحديدًا في المنطقة الغربية.

 لعبت المنطقة الجنوبية دور المحكّم أحيانًا عبر مبادرات أعضاء هذه المنطقة لرأب الصّدع في البلاد الليبية

يوجد اليوم مؤشران عمليان لشبح ديمقراطية المحاصصة في ليبيا. يتعلق المؤشر الأول بتركيبة حكومة الوفاق الوطني، التي تشكلت وفق محاصصة جهوية حيث تم توزيع الحقائب وفق الأقاليم والمدن، كمنح حقيبة الدفاع للمنطقة الشرقية، وحقيبة الداخلية للمنطقة الغربية وذلك ضمن تقسيم للوزارات الحاملة للسلاح بين الإقليمين.

ويبقى السؤال حول ما إذا كان هذا التوزيع وقتي أم سيظل قاعدة في المستقبل؟

أما المؤشر الثاني فيتمثل في تركيبة مجلس الشيوخ، الغرفة البرلمانية الثانية، وفق مشروع الدستور حيث يتم انتخاب هذا المجلس بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة. وتتجه الإشارة إلى تنصيص الدستور على انتخاب مجلس النواب، الغرفة البرلمانية الأولى، باعتماد معياري السكان والجغرافيا وهو من المنتظر أن يثير جدلًا على مستوى إعداد القانون الانتخابي.

ويمكن القول إن تركيبة مجلس الشيوخ الذي لا يتولى إلا صلاحيات محدودة قد تجد تأسيسها في الحرص على عدم استحكام منطق الغلبة العددية.

وعليه يظلّ الرهان في ليبيا حول مدى قدرة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين على تحديد منسوب العنصر الجهويالقبلي كعنصر محدد في ضبط التوجهات والسياسات.

إذ لا يمكن تجاوز هذا العنصر بالضرورة ولكن يبقى السؤال حول تأطيره ومدى استحضاره في الفعل السياسي، حيث إن تأبيد توزيع الحقائب الوزارية وفق العنصر الجهويالقبلي سيمثّل ضربة قاضية للمسار الديمقراطي الوليد في ليبيا.

***

كريم المرزوقي ـ باحث من تونس

________________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *