بقلم شكري السنكي
ولد عبد الجليل سيف النصر في القارون بالفيوم في 6 يونيو 1949م، والتحق عبدالجليل بالكتّاب، فدرس القرآن الكريم، ثم درس بالمدرسة الإنجليزية بحي الزمالك بالقاهرة، ومدرسة العروبة بمصر الجديدة، ودرس القانون بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.
ينتمي عبدالجليل إلى عائلة (سيف النًّصر) التي تنتسب إلى قبيلة (أولاد سُليْمان)، وهي العائلة التي عهدت إليها مشيخة قبيلة (أولاد سُليْمان) منذ القرن الثّامن عشر. ويرجع نسب (أولاد سُليْمان) إلى قبيلة (بني سليم)، وهي القبيلة العَربيّة الشهيرة التي كانت تقطن (نجد) في شبة الجزيرة العربيّة.
ارتبطت عائلة (سيف النّصر) بالعائلة (السّنوُسيّة) وحاربت إلى جانبها، وقاومت المحتل الإيطالي تحت قيادة السِّيّد أحمَد الشّريف السّنوُسي أولاً ثم السِّيّد إدْريْس المَهْدِي السّنوُسي ثانياً، وساهمت في بناء دولة ليبَيا الحديثة بعد إعلان الإستقلال. وقد شغل سيف النّصر عبْدالجليل (والد عبدالجليل) منصب رئيس المجلس التنفيذي لولاية فزَّان ونائب الوالي في عهد ولاية السِّيّد أحمَد سيف النّصــر، وفي مرحلة لاحقة وزيراً للدفاع.
تعرف عبدالجليل في فترة شبابه على كل التيارات السياسية، فكان في وقت من الأوقات قريبا من التيار اليساري، وفي مرحلة أخرى اقترب من التيار الناصري والمد القومي، ثم جماعة الإخوان المسلمين، وبعدها استقر على استقلاليته وأخذ موقفا وطنيا مستقلا دون الإنتماء إلى أي تيار سياسي أيديولوجي.
شارك عبدالجليل في النشاط الطلابي الليبي في مصر، وكان أحد الذين شاركوا في نشاطات الطلبة الليبيين في مصر في السبعينيات، بل كان أحد الذين دعوا إلى مفاصلة نظام القذافي بالكامل، وكان ضمن مجموعة وصفوا بـ” الجذريين“. وكان من بين الطلبة الذين اعتصموا في مقر السفارة في مصر في أبريل 1976م، وشارك في تأسيس الاتحاد العام لطلبة ليبيا ـ فرع مصر رسميا في الثمانينيات.
يُعد عبدالجليل من أشهر الشعراء الشعبيين، ومن الشخصيّات الوطنيّة الِلّيبيّة البارزة في دروب السّياسة ودنيا الثقافة والأدب. وشارك في مُلتقيات الِلّيبيّين السّياسيّة والثقافيّة في المهجر، وانعكست خلفيته الثقافيّة العميقة الواسعة على إنتاجه الشعري فلاقت قصائده صداها عند النَّاس، واعتبرها النقاد من روائع إنتاجنا الأدبي الشّعبي.
لم يكن عبْدالجليل سيف النّصر شاعراً فحسب بل كان مناضلاً عنيداً أبى الخضوع لتهديدات السّلطة المستبدة والاستسلام لمخاطر الطريق وضغوطات الحياة.. وشاعراً تميز شعره بروعة الاختيار، وقوة الفكرة، وجمال الصور التعبيرية، فكان في مقدمة معاصريه من الشعراء الشعبيين.
أحب عبْدالجليل الوطن فأفنى عمره مدافعاً عن سيادته وحريته وحقوق مواطنيه. انضم إلى القوى الوطنيّة المعارضة لنظام معمّر القذّافي، ورفع صوته مدوياً في آذان الطغاة وداعمي دولة الجبروت والطغيان. وأراد أن يكون موقفه من دولة الطغيان، لصالح كل الوطنيين وفي خدمتهم جميعاً، فاختار أن يكون مستقلاً، وأن يُسهم الجميع في نقل شعره لكل النَّاس. تناقل النَّاس قصائده، وأقلقت أشعاره منام الطاغية فكان شعره محفزاً للنَّاس لدفع الجور ومقاومة الظلم ثمّ للانفجار في وجه الطاغوت حينما حانت ساعة الخلاص.
وصل إنتاج عبْدالجليل الشعري إلى أربعين قصيدة ، ومن أهم قصائده: (لا هان ترابك لا هنتي)، و(ما يغركم تبديل بعض أحواله)، و(قْريِّب قرِيبْ الرصاص)، و(كُبرت لوكريي)، و(زعم فيك ما زال)، و(أنغر يا شعب بلادي)، و(يا غارقة في الهم يا صبارة)، و(حشاهم من قولة جرذان) وغيرها كثير.
كتب عبْدالجليل الشعر محارباً لنظام القذّافي، ومحرضاً على الثورة ضده، وكان جزءً من نسيج المعارضة الِلّيبيّة دون أن ينضم لأيّ تنظيم حيث أختار أن يكون مستقلاً، وعلى صلة بجميع المعارضين وكل تنظيمات المعارضة.
شارك في المجلس الوطني للجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبََيا بالعراق عام 1985م كضيف، وسجلت له الجبهة عدداً من قصائده تحت إسم مستعار وهو (عبْدالكريم عطية) وبثتها في إذاعتها: (صوت الشّعب الِلّيبي – صوت الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا)
بعد نجاح الإنقلاب العسكري في ليبيا، عام 1969، سعى القذافي للإتصال بعبد الجليل واستمالته إلى صفه، ولكنه لم ينجح في سعيه، بسبب العلاقة التاريخية بين عائلة سيف النصر والعائلة السنوسية، وأيضا بحكم ما صدر عن القذافي من إشارات مبكرة تدل عل حقده الدفين ضد عائلة سيف النصر. اكتشف عبدالجليل حقيقة معمر القذافي الاستبدادية مبكرا، واتخذ موقفا معارضا ضده فكان من أوائل الليبيين المغتربين في مصر الذين عارضوا نظامه.
كانت الأجهزة الأمنيّة تتابع نشاط عبدالجليل وكان القذّافي يتضايق كثيراً من قصائده، ويخشى ممّا قد يترتب عليها، وحاول عبدالله السّنوُسي إسكات صوته عبر حشد الشعراء ضدّه، وبالتهديد تارة، والإغراء بالمال تارة أخرى. وقد اجتمع عبدالله السّنوُسي عديل القذّافي ويده الباطشة بمعارضيه ورئيس الجهاز المكلف بحمايته، بمجموعة من الشعراء الشعبيين في الجنوب الِلّيبي والمنطقة الوسطى ومدينة إجدابيا، وطلب منهم بإلحاح شديد الرد على قصائد عبْدالجليل. ولم تفلح مجهوداته إلاّ مع شاعر واحد من قبيلة القذاذفة، والذي لم يعيره عبْدالجليل أدنى اهتمام، فتكفّل بعض الشعراء بالرد عليه. ولكن عبْدالجليل رد على السّلطة حينما هددته وحاولت تشويهه في قصيدة عنوانها: (مازلت نا هو نا).
لم يكن عبدالله السّنوُسي هو قناة الاتصال الوحيد بالشعراء بل اتصل بهم آخرون من طرف النظام أملاً في حشدهم ضدَّ عبْدالجليل، ولكن الشرفاء من الشعراء الشعبيين تهربوا من النظام بأعذار مختلفة تفادياً من الوقوع في مصيدة الرد على عبْدالجليل البارع في الشعر والصّادِق في قوله وموقفه.
لم يتوقف نظام القذّافي يوماً عن الضغط على عبْدالجليل بوسائل الإغراء تارة والتهديد تارة أخرى، طيلة سنوات هجرته الطويلة، من أجل إقناعه بالتنازل عن موقفه الرافض للسّلطة الحاكمة أو إقناعه ببعض أطروحات القذّافي أو إغرائه بالعودة إلى ليبََيا.
عرضت السّلطة على عبْدالجليل المال والمنصب، واستخدمت في ضغطها عليه كل الوسائل وفي مقدمتها العلاقة التاريخيّة التي جمعت بين قبيلته (أولاد سُليْمان) وقبيلة (القذاذفة) فقد كان القذاذفة تاريخياً موالين على الدوام لأولاد سُليْمان تحت الزّعامة الطويلة والأكيدة لآل سيف النَّصر، ومن صميم عصبتهم.
وقد أرسلت السّلطة لعبدالجليل وسطاء من معارفه، واتصلت به عبر سيّد قذاف الدَّم ثمّ أخيه أحمَد قذف الدّّم ثمّ سيف إبن القذافي، إلاّ أن عبْدالجليل أكد لجميع الوسطاء بأنه لن يرجع إلى ليبَيا والقذّافي حاكماً لها، ولن يساوم وإلى آخر نبض في عروقه، ولن يقبل الإغراءات، ولن يخضع للتهديدات، وأنه سيواصل مشواره وإلى آخر مدى حالماً بوطن حرّ راسخاً في القلوب.
في أحدى زيارات القذافي لمصر في التسعينيات، اتصل وسيط من طرف أحمَد قذاف الدّم بعبدالجليل، وقال له:..”.. طلب مني أحمَد قذاف الدَّم الاتصال بك، وإعلامك بأن معمّر القذّافي يود لقائك !. فما هو رأيك وردّك ؟..”. أجاب عبْدالجليل، قائلاً:..”.. لقد سبق وأن التقيت بأحمَد قذاف الدّم فشرحت له موقفي ووجهة نظري، وقلت له ما يجب أن يقال في حق نظام أهلك الحرث والنسل. وكان يجب على أحمَد، أن ينقل لإبن عمّه ما قلته له، ويبدو أنه خاف على نفسه ولم يفعل ذلك. على أية حال، لا أرى جدوى وفائدة مرجوة من لقائي بالقذّافي. ولكن يمكن أن التقي به بشرط ألا يكون اللقاء في إطار احتفالي بزيارته لمصر، وألا أُجمع مع المداحين والمهللين والطبالين لشخصه. وبشرط أن يحضر أحمَد قذاف الذّم اللقاء، ويعلم بأنني سوف أقول لإبن عمّه ما سبق وأن قلته له بل ربّما أكثر من ذلك بكثير لأن إبن عمّه هو المسئول الاول والاخير عن كل المأسي التي حصلت لنا”.
لم يتصل الوسيط مجدّداً بعبدالجليل، وكانت هذه آخر محاولة من طرف أحمَد قذاف الدّم مع عبْدالجليل حيث أيقن أنه سيُسمع معمّر القذّافي إذا ما قابله كل ما ينوي إسماعه له، عندها ستكون ردة فعل القذّافي تجاهه أيّ (أحمَد قذاف الدّم) أعنف من كل المرَّات السّابقة، وهذا يكفي لإيقاف المحاولات في هذا الاتجاه.
دخل بعد ذلك سيف القذّافي على الخط عبر وسيط من أقارب عبْدالجليل، فتمكن الوسيط من جمع سيف بعبدالجليل في القاهرة، وقد استمع سيف القذّافي باهتمام شديد إلى عبْدالجليل، وقال عبْدالجليل له ما كان ينوي أن يقوله لأبيه، وحينما اعتقدت السّلطة أنها منحت عبْدالجليل الفرص الكافية لمراجعة موقفه المضاد لها، وقدمت كل الضمانات الممكنة والعروض المغرية، نقل وسطائها لعبدالجليل رسائل تهديدية لعله يتراجع عن موقفه ويستجيب لعروضها أو يفهم بأن التهديد الذي وصله هذه المرَّة سينفذ حتماً إن لم تصدر منه إشارة تفيد بالقبول.
بعد إندلاع ثورة 17 فبراير، كان عبْدالجليل سيف النَّصر ضمن أعضاء الجاليّة الِلّيبيّة في القاهرة الذين تظاهروا أمام مقر جامعة الدول العربيّة بغية دفع الجامعة لإدانة نظام القذّافي وأخذ موقفاً يخدم مصالح الشّعب الِلّيبي. نظمت الهيئات التنسيقيّة للناشطين الِلّيبيّين في مصر مجموعة من المظاهرات أمام مقر السفارة في الزمالك ومقر المندوبية في الدقي ثمّ تظاهرت أمام مقر جامعة الدول العربيّة لحث الجامعة لإتخاذ الإجراءات اللازمة لتلبية مطالب الشّعب الِلّيبي في إنهاء دولة الاستبداد وإقامة دولة العدالة والحريّة والديمقراطيّة.
استجابت جامعة الدول العربيّة للضغوطات الشّعبيّة ومطالب النخبة السّياسيّة الِلّيبيّة فقررت في خطوة غير مسبوقة آنئذ، في اجتماعها الطارئ الذي عقدته في القاهرة يوم 22 فبراير 2011م، تجميد عضوية نظام القذّافي بالجامعة كذلك إدانة استخدامه للعنف في قمع المظاهرات السلمية.
كان عبْدالجليل من نشطاء الجاليّة الذين تظاهروا أمام سفارة نظام معمّر القذّافي في الزمالك وأمام مقر المندوبية بحي الدقي، ورفعوا (علم الإستقلال) فوق المندوبية ثمّ السفارة، ومارسوا ضغوطاً مختلفة على أعضاء ِالبعثة الِلّيبيّة لدى جامعة الدول العربيّة وأعضاء السفارة ليستقيلوا وينشقوا عن النظام.
وبعد تدشين قناة (ليبَيا الأحرار)، طار عبْدالجليل سيف النَّصر إلى الدوحة العاصمة القطريّة ليشارك في برامج القناة التي تأسست بهدف إنجاح الثورة، وإيْصال صوت الثوار إلى العالم كافة. وكان ذلك بدعوة من محمود شمّام رئيس القناة، ليسجل عدداً من قصائده الشعبيّة لفضائية الأحرار التي انطلقت يوم 30 مارس2011م.
وفي يونيه 2011م، سافر عبْدالجليل سيف النَّصر براً من القاهرة إلى مدينة بنغازي عاصمة الثورة وحاضنتها، فاستقبلته بنغازي استقبالاً شعبياً حافلاً، وأعتلى خشبة المسرح بساحة محكمة شمال بنغازي، وألقى عدداً من قصائده من بينها قصيدة (حشاهم من قولة جرذان). وتقاطر على مقر إقامته في بنغازي أعداد كبيرة من النَّاس للسلام عليه وتهنئته بالرجوع منتصراً مرفوع الرأس إلى أرض الوطن.
وبدعوة من إتحاد الكتّاب الِلّيبيّين في مدينة بنغازي، حضر عبْدالجليل الأمسية الشعرية التي أقامها الإتحاد يوم 24 يونيه 2011م، والتي خُصِصت لدور الشعر الشعبي في مقاومة نظام القذافي ثمّ ثورة 17 فبراير، وبعدها بأيام استقبلت مدينة درنة الشامخة عبْدالجليل استقبالاً كبيراً يليق بمقامه كمناضل وشاعر فحل، ومنحته العضوية الشرفية لاتحاد الأدباء والكتَّاب والمفكرين الِلّيبيّين فرع درنة، وأقامت له أمسية شعرية أدارها الأستاذ عبْدالحميد بطاو، ووقف هو فيها مردداً أشهر قصائده.
أحب عبدالجليل سيف النصر الوطن، وكان يعذبه البعد عنه، فعبّر في معظم أشعاره عن اشتياقه الجارف للوطن، وكانت شطرة من شطرات قصائده الأكثر تعبيراً عن هذا الحنين والاشتياق، فقال: ( يا وطن الشمس الحراقة يبسنا مِن برد جِفاك).
سكن الوطن بداخل عبدالجليل فتحرك من أجل إنقاذه فأرسل الطاغية له وفوداً لإغرائه تارة، وتهديده تارة أخرى، وبعد فشله في كل مساعيه أراد إسكات صوته حتَّى لو وصل الأمر إلى القتل فأكرمه المولى عز وجل قبل وفاتِه برؤية شعبه يثور ضدَّ سلطة الظلم والطغيان ثمّ بحضور لحظة تحرير طرابلس وقبلها تحرير مدينة بنغازي وكافة المدن بالمنطقة الشرقيّة بعد أيام قليلة من إنطلاق ثورة 17 فبراير 2011م.
وبعد أسابيع قليلة من مغادرة عبْدالجليل ليبَيا، داهمته أزمة قلبيّة في بيته الكائن في مقر عمله بمزرعته بالفيوم، وانتقل إلى جوار ربه فجر يوم الخميس8 سبتمبر2011م. وأقيمت له ليالي العزاء في الفيوم والقاهرة وبنغازي وسبها.
انتقل عبدالجليل سيف النصر إلى جوار ربه تاركاً ورائه تاريخاً حافلاً بالمساهمات النضالية والأشعار الوطنيّة التي ستخلد اسمه .
رحم الله عبْدالجليل سيف النَّصر رحمة واسعة.
____________
نقلا (بتصرف) عن كتاب “ضمير وطن .. سيرة رجال واجهوا الاستبداد وقاوموه” لمؤلفه شكري محمد السنكي (مكتبة الكون)
In this study, index hospitalization referred to a random single hospital admission for the patient; prior admissions were admissions that occurred in the 6 months that preceded the index admission priligy dapoxetine review Lynch syndrome LS accounts for 2 4 of all diagnosed cases of colorectal cancer CRC