فرج الجهاني
كعادة التاريخ الذي لا ينسى أبطاله الذين جاهدوا من أجل عزة الوطن ورفعته والحمد لله الذي شاءت الأقدار أن أكتب سيرة حياة هؤلاء الأبطال… رغم هذا الشرف إلا أني أجد في هذا الحرج الكبير، فكيف لطفل لم يتعلم المشي أن يلحق برمز من رموز وطنه، أيضن أنه ليس إلا اسم ذكر في كتب التاريخ وكلما قرأت عنه أكثر ازداد حرجي هذا وما يجعلني استمر في الكتابة إلا شعوري بالأسى على أبناء وطني الذين لا يذكروا مثل هؤلاء الأبطال في أحاديثهم ولا يعرفونهم حتى وقد أخذت البحث في هذه الشخصية وقتا طويلاً في الكتابة ولكن ليس ذنبي إنني قررت المشي.
الخطوات الأولى
ولد السيد عمر محمد شنيب في مدينة درنة حوالي سنة 1890 ودرس بالمدرسة الرشيدية بدرنة، التي كانت من أحدث المؤسسات التعليمية التي أسست في مدينة درنة في نهاية العهد العثماني الثاني، وكانت لحضرته شخصيته المميزة التي اكتنفها التميز حتى بين أخوته، وعند دراسته في هذه المدرسة لمس فيه معلمه التفوق والنجابة وشعروا بتميزه الذي كان مشمس لكل من يعرفه ويتعامل معه ومنها اكتسب لقبه فائق الذي لقب به في المدرسة الرشيدية تقديراً لعقله وكان هذا اللقب لقب لا يناله إلا المتميزين جداً من أبناء الدولة العثمانية.
بعد نيله للشهادة الرشيدية ولقب الفائقية عين مدير لدائرة الأملاك في مدينة درنة ومن ثم عين مديراً للسلوم 1910 وكانت حينذاك تابعة لقائمقمية درنة التابعة لمتصرفية بنغازي. إلى قدوم الاحتلال الإيطالي إلى البلاد حينها ناداه القدر لكي يأخذ مكانه في مجابهة العدو فباع ما كان لديه من أملاك في مدينة درنة وأتجه إلى أرض في إحدى ضواحي درنة كانت تعود ملكيتها إلى عائلة شنيب وكتب على إحدى شجراتها “أنتي طالق يا درنة طول ما فيك الطليان” وحمل سلاحه وأتجه للقتال إلى جانب المجاهدين.
وبعد اجتماع مع الصادق بم بن المشير ادهم (ياور أنور باشا) طلب منه تسليم منطقة السلوم للمملكة المصرية بمناسبة عودة أنور باشا للأستانة واستئنافه للقتال وحيث أن أمل إعادة ليبيا على الوجود العثماني أمل ضعيف خاصة وأنه لطالما أهمل الصدر الأعظم هذا الجزء البعيد من الممتلكات العثمانية كما سلم عمر شنيب السلوم لمصر “مؤقتاً” عمل على إعادتها فيما بعد عام 1949 أثناء انعقاد الجلسة التي أفضت إلى قرار استقلال ليبيا.
جهاده
وبعد مدة من القتال المرير ضد الطليان أدرك جبهة أخرى نسى الجهاد فيها وأتجه إلى تركيا ومنها عزم على التوجه إلى سوريا… ومن هنا بدأ كفاحه السياسي وعمل منذ أول أيام مكوثه هناك على دعم القضية الليبية على كل الأصعدة الإعلامية لنشر القضية الليبية فكان يعمل على توزيع المنشورات –كتابة المقالات– الكتب عن الفضائع والمذابح التي يرتكبها الاحتلال الإيطالي لفرض هيمنته على الأراضي الليبية فهو شاعر سياسي إداري مخضرم ومجاهد.
في تلك الأثناء في درنة كان الاحتلال الإيطالي يبحث عنه ويحاول إلقاء القبض عليه ويضطهد أهله محاولاً الضغط عليه للاستسلام ومن هناك عمل أحد إخوته على تهريب بعض أفراد العائلة إليه ولجئوا كلهم في منزل لا يحوي إلا غرفتان وأربعة عشر شخصاً في حي الشيخ محي الدين الذي كان يحوي أغلب العائلات الليبية في المهجر.
وأقام مع أسرته وأسر ليبية أخرى في دمشق وهناك قدّرته الحكومة فعينته موظفاً كبيرا بها، وأضحى فيما بعد مديراً للقنيطرة ومن ثم أقيل من ذلك المنصب ليحتل منصباً أخر أقل من ذاك شأناً. ومن هناك عمل مع الشيخ الأخضر العيساوي – فوزي النعاس – عبدالغني الباجقني – عبدالسلام أدهم، ومع مجموعة من أبناء العائلات الليبية في يناير 1925 على رفع الكمامة عن فاه وصرخ صوت أخر الليبيين وكانت المفاجئة فقد تم تأسيس لجنة الدفاع عن طرابلس برقة ووضع بشير السعداوي “لكبر سنه” رئيساً لها واستمرت الجمعية في نشاط سياسي يسوده الكثير من السرية وخاصة عقب الأحداث التي سميت بثورة سوريا الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش.
وقد تكونت في سنة 1928 اللجنة من الجاليات الليبية التي قدمت من ليبيا في أوقات مختلفة من تاريخ الجهاد ضد الغزو الإيطالي، وتولى عمر شنيب فيها منصب أمين سر اللجنة التنفيذية للجاليات الطرابلسية البرقاوية وذلك عقب اجتماع أقيم في منزل فوزي النعاس الذي تولى منصب شؤون النشر والإعلان وقد أصر عمر شنيب على هذه التسمية مصر على إضافة صفة البرقاوية على اسم اللجنة قد يعتبر البعض هذا الإصرار نوع من الإقليمية أو ما إلى ذلك ولكن الحقيقة غير ذلك فلا يهم ماذا كانت تعرف ليبيا آن ذاك ولكن برقة كانت موجودة كتسمية، بإصراره هذا منع تهميش لمنطقة تعرف بهذا الاسم منذ الفتح الإسلامي على الأقل.
1- ومن الكتب التي عمل أعضاء اللجنة عليها كتاب فضائع السود الحمر أو التمدن بالحديد والنار، وقد اشتركت نخبة الكتاب الليبيين في المهجر في كتابته منهم بشير السعداوي وناجي التركي وفوزي النعاس وكامل عياد وعمر شنيب وعبدالغني الباجقني، وعمل المرحوم فوزي النعاس على تجميع الكتابات وتنقيحها ومتابعة طباعتها لدى مطبعة الأيام، ويذكر فيه ما ارتكبته إيطاليا من عام 1911 إلى عام 1931 في كل سنة مذكرين بذلك ما قامت به إيطاليا ليكون العالم على علم ومبعدين بهذه الـ 116 صفحة إدعاءات إيطاليا مساعيها لتمدين ليبيا وقد تمت ترجمة بعض أجزاء الكتاب إلى اللغة الفرنسية ونشرت في بعض المدن الأوروبية وربما أعاد عمر شنيب كتابتها لتكون (للحقيقة والتاريخ).
2- كتاب الأندلس الثانية أو طرابلس برقة، ويرى عليه موسوليني ماداً مخالبه على الوطن العربي وكتب تحت النعش الذي كتب عليه نعش العرب والإسلام هذا البيت: (أيهـا العربي شيع … نعش أندلس جديدة … فانطفأ الإسلام منها… والفصحى غدت طريدة). ويتحدث فيه عمر شنيب بوثائق عن أعمال الحزب الفاشستي الوحشية وتحذرهم من الوقوع في مصيدة الدعاية الفاشستية الداعية لإعادة أمجاد روما في البحر المتوسط على حساب العروبة والإسلام.
ومن كتبه أيضاً (عرين الأسود)، كان من هناك يعمل على تحريك الضمير العربي والعالمي للمطالبة بحقوق الليبيين المغتصبة وقد صدر له فيما بعد حوالي عام 1945م كتاب (ليبيا مهد البطولة) الذي استهله بالبسملة وبيت شعر من أشعاره يقول: (إذا استشفيت من داء بداء … فاقتل ما أعلك ما شفاكا).
في عام 1934 صدر كتاب في مصر باسم (عمر المختار الحلقة الأخيرة من الجهاد الوطني في طرابلس الغرب) فرد عمر شنيب بمقالة أظهر فيها تلك الافتراءات في مجلة الرابطة العربية ووصف فيها الكاتب بــ (باذر بذور التفرقة المؤلف المجهول) وما إن ظهرت حقيقة الكاتب حتى تلقى كتاب من الطاهر الزاوي يلومه فيه على ما كتبه وما وصفه به.
بينما كان يعمل الشيخ الأخضر العيساوي على الربط بين عمر شنيب وبين الأمير إدريس السنوسي ويبقيه على إطلاع بالمجريات العربية والدولية وعلى الاطلاع الدائم بأحوال اللجنة فمثلاً سنة 1937 أرسل عمر شنيب رسالة تحمل الرقم الاشاري 15 ما – ب 927 يخبر فيها الشيخ الأخضر العيساوي عن الأوضاع الأوروبية وفي نفس الرسالة أخبره بالدعاية التي جرفت بعض الشذاذ كما وصفهم وفيها اتهم بشير السعداوي بالخيانة التي ربما كان لها أثراً سلبياً على صورة بشير عند الملك فيما بعد، وقد اكتشفت السيدة حرم عمر شنيب ما كان يقوم به بشير السعداوي من أفعال تخالف المبادئ الوطنية حيث كان يأخذ المال الذي كان يعطيه له عمر شنيب ويطوعه في خدمة أموره الخاصة وظهرت عليه في تلك الأثناء مظاهر الغنى والترف… إلى جانب ذلك عمل عمر شنيب على إبعاد الأشخاص الذين كانوا يعملون على التطفل على الصوت الليبي مدعين عمله للمصلحة الطرابلسية البرقاوية والواقع أنه يعمل لنفسه مضللين بالدعاية الإيطالية.
وفي إحدى الأيام أتى للسيد عمر زائر غير مرحب به وقد كان المندوب السامي الفرنسي لسوريا الذي تقاذفته المصالح العليا لإيطاليا وفرنسا ليكون بباب عمر شنيب في إحدى الحارات الدمشقية البسيطة والتي لا تليق بمحتل غاشم الذي أتاه داعياً له لبيع قضيته وما كان ردة إلا “أنت دخلت من الباب ولولا الأخلاق العربية التي تحتم علينا احترام الزائر لخرجت من النافذة”. ولو أنه قبل غيره لأتاه من الخير ما لا يمكن تخبئته ولكن وفائه لوطنه ولقضيته التي لا تغادر فؤاده كان أقوى من كل الإغراءات والتهديدات… وقد كانت لعائلته أيضاً جزء من هذا المجد فقد شارك أبنه محمد علي في ثورة عزالدين قسام حيث كان يخبئ الأسلحة بمحل عمله في إحدى المصارف.
الحرب العالمية الثانية
وقد أبدى الأمير أكثر من مرة رغبته في التحاق عمر شنيب به في القاهرة منها تلك الرسالة التي أرسلها الأخضر العيساوي لعمر شنيب في 3 شوال 1358 و هي نفس التي دعى فيها جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي سلك مسلك الأخوة في مصر يقصد المجاهدين بعد تأييدهم للأمير ومبايعتهم له 1939 وسرعان ما استجاب عمر شنيب إلى هذه المساعي ليس بدافع الدماء البرقاوية بل من أجل القضية الليبية حيث دعى الجمعية إلى اجتماع طارئ بتاريخ 11 ديسمبر 1939 وعمل من هناك على كتابة مجموعة من الرسائل إلى عدد من الليبيين خارج دمشق لمبايعة الأمير حتى أواخر يوليو من عام 1940 حيث أتجه في ذلك التاريخ إلى القاهرة لمبايعة الأمير خاصة بعد التطورات الجديدة في ساحة الحرب العالمية والتي من أهمها إعلان إيطاليا الحرب على بريطانيا في 10 يوليو 1940 ربما كان عمر شنيب على اطلاع باتصالات الأمير ببريطانيا.
الجمعية بعد الحرب
بينما تجمد عمل الجمعية نظراً للتحالف الألماني الإيطالي بعد احتلال فرنسا على يد الجيش النازي وبهذا بدأت السلطات الفرنسية بتضييق الخناق على الجمعية حتى تقرر في 17 ابريل 1946 من قبل أعضاء الجمعية حل الجمعية وتأسيس هيئة تحرير طرابلس برقة.
واستمر عمر شنيب في الجهاد حتى سمي بمجاهد السلاح والقلم إلى أن أتت الحرب العالمية الثانية التي تنذر بالكثير لليبيا هناك، وفي ذلك التاريخ ألقى الأمير إدريس بيان في المذياع في أغسطس عام 1940 في تلك الفترة العصيبة على الشعوب والشعب الليبي خاصة يحرض فيه زعماء البلاد في كافة الأقطار العربية على يحضروا ليساندوه وليأخذ منهم النصيحة والمشورة التي عرفت دائما عن الأمير إدريس ولم يحضر منهم سوى علي العابدية من الأردن بينما اكتفى الآخرون بإرسال خطابات المبايعة والتأييد كل من البلد المتواجد فيها، وفي طريق العودة مر بقناة السويس التي كانت محلاً يتخذه الإنجليز في هذه الفترة من تاريخ بطلنا غير جهاده من جهاد سياسي من الخارج إلى جهاد على كافة الأصعدة الداخلية، وفي هذا النحو قد عمل حضرته في 9 أغسطس 1940 على تأسيس جيش التحرير السنوسي الذي كان نواة فيما بعد للجيش الليبي بينما كان حتى الحديث عن مثل هذا في ذلك الوقت ضرباً للمستحيل، فكما صرح وزير الخارجية المستر آيدن فيما بعد تحت قبة مجلس النواب البريطاني 7 يناير 1942 ((.. في وقت لم يكن الوضع العسكري في أفريقيا ملائماً لنا على الإطلاق ، فتألف الجيش السنوسي يضم الذين تخلصوا من نير الظلم الإيطالي…)).
وعُين عمر شنيب في مكتب الاتصال في الجيش السنوسي وعُين في ذلك المنصب برتبة رائد ذلك إثر الاجتماع الذي ضم كل من السادة عبدالحميد بك العبار وعبدالجليل بك سيف النصر وعلي بك جعودة وصالح باشا الأطيوش وسعيد جولوع… وغيرهم من الوطنيين الشرفاء وقد كان من النتائج التي خرج بها ذلك الاجتماع تأسيس جبهة سياسية أخرى تضم المغتربين التي حضرها عمر شنيب أيضاً و”أفتتح الأمير مكتباً خاصاً لإدارة دفة الأمور الخاصة بالشئون العسكرية والسياسية”، وعين الأمير عمر شنيب أميناً عاماً لمكتبه هذا، وحرر أكثر كتاباته كما كان الأمير يعتمد عليه في مسائل طلبات الخروج والدخول من وإلى ليبيا، وقد ساهم كعادته في كل النشاطات التي تهدف إلى استقلال البلاد تحت التاج السنوسي.
وقد كان الأمير إدريس يبقي عمر شنيب على إطلاع دائم بأمور الحكم وكان بمثابة المستشار الخاص للأمير إدريس السنوسي حتى أنه في الوقت الذي عرضت عليه المعاهدة البريطانية التي كانت إحدى أهم الاتفاقيات في الحرب العالمية الثانية والتي كانت إحدى أهم القفازات التي نال على إثرها الأجداد استقلال بلادنا أرسل الأمير إدريس طائرة للسيد عمر لكي يحضر توقيع الاتفاقية وربما أهم التساؤلات التي يطرحها الناظر إلى الواقع الليبي في تلك الفترة لماذا تساعد دولة في قوة بريطانيا مجموعة يطالبون باستقلال بلادهم بينما طائرة حربية واحدة كفيلة باحتلال البلاد وفرض سيطرتها عليها ولكن كان لهذه المعاهدة عدة أسباب أهمها:
أولا: أيقنت بريطانيا أنه لن تنفع أي من الأساليب القديمة في إدارة الأزمات السياسية وخاصة بعد ما رأت قوة وبسالة الشعب الليبي عند مجابهته للاحتلال الإيطالي.
ثانيا: إن القوة البريطانية لا تحتمل أبدا عدو جديد، فقد بلغت القوة البريطانية أدناها، وكانت النتيجة أيضاً في مصلحة بريطانيا وهؤلاء الرجال الذين صبروا وصابروا كثيراً حيث إنه صرح فيما بعد المستر آيدن بـ ((.. قام هذا الجيش بمساعدات قيمة أثناء قيامه بتلك العمليات بين شتاءي 1940 و 1941..)).
وقال عمر شنيب في هذا الصدد إجابة على هذا التساؤل “إن الإنجليز عقدوا معنا هذه المعاهدة لأنهم يدركون جيداً إنهم لن يستطيعوا أن يخطوا خطوة واحدة داخل أرضنا دون موافقة منا”… وكانت له مراسلات عدة بخصوص التطورات السياسية مع سليمان باشا الباروني الموجود في الهند الذي كانت له مراسلات أخرى سبقت هذه وذلك في إطار الخلافات التي دارت رحاها بين سليمان باشا الباروني وشكيب أرسلان منها تلك الرسالة التي يخبر فيها سليمان باشا الباروني عمر شنيب بانتهاء القلمية بينه وبين شكيب أرسلان وذلك في عام 1938.
الأربعينيات
انقضت الحرب بفوز الحلفاء التي كانت بريطانيا أهمهم، وهناك برز النشاط السياسي في برقة من خلال المؤتمر الوطني (البرقاوي) الذي أسس على يد الوطنيين في 11 يناير سنة 1948 رغم كل المعوقات التي كان أولها إن بريطانيا عملت على غرار ما وعدت في تلك المعاهدة متحججة بأنه لا يمكن في هذه الأوضاع حكم البلاد، وبدأت من ذلك التاريخ عهد الإدارة البريطانية أي سنة 1943 بعد تلك الحرب التي هزت أركان ليبيا، وما كان يضنه الناس عوز وتخلف لا يقارن بوضعهم السيئ في تلك الفترة وانشقاق الصف الداخلي وخاصة على الصعيد الطرابلسي حيث كان بعض النخب الطرابلسية تقول لـ عمر شنيب “لو ينبت الشعر على الكف ستنال حينها ليبيا الاستقلال” والكل يعرف استحالة ذلك.
قد تباينت الآراء حول مستقبل ليبيا هل ملكية مطلقة أو محددة أكثر والرؤية التي يضعها كل الأطراف لفكرة الوحدة ولكن ما جعل هذا الاختلاف في الآراء شرخ في الصفوف الداخلية هو أن التيارات الطرابلسية التي تزعم الوطنية للأسف أصبحت تغرد خارج السرب الذي لا ينضر إلا لدولة أوضاعها مثل الأوضاع الليبية.
عودة صديق قديم
في ضوء الأوضاع المتذبذبة للأسف بين الشقين البرقاوي والطرابلسي ظهر من القاهرة مؤسسة طال غياب بعض أعضائها عن ساحة المعركة وكانت هيئة تحرير ليبيا بزعامة بشير السعداوي وبتمويل من عبدالرحمن عزام باشا أول سكرتير عام للجامعة العربية والتي كانت تطمح إلى ما لا تطمح إليه التيارات الأخرى فهذا ما كشفته الوقائع فيما بعد وما إن وصل زعيم هذه الهيئة وهو يعمل على تجميع أعضاء الأحزاب الطرابلسية التي ظهر هزلها مع الوقت لينضم لعضوية المؤتمر الوطني الطرابلسي) الذي كان تحت زعامة بشير السعداوي بتاريخ 7 يوليو 1949 ربما يقول البعض أن المؤتمر سبب نوع من الشرخ داخل الساحة الليبية ولكن دون نكران أو تحيز ما قام به المؤتمر كان لمصلحة استقلال ليبيا دون شك.
الوفد البرقاوي الأول
في تلك الظروف العصيبة التي تواجهها الأمة لتحقيق مطالبها رأت القيادة الحكيمة في 13 مارس 1949 أن تحيل هذه القضية إلى الأمم المتحدة وفي هذا الصدد طلب من المؤتمر الوطني وفداً لتمثيله ولرفع شكواه إلى الأمم المتحدة وصدر القرار الذي يقضي يصرف مبلغ وقدره 3000 جنيه وكانت السياسة التي ينتهجها الأمير في ذلك الوقت سياسة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وسياسته في إنقاذ ليبيا كانت تأخذ منحى التدرج في المطالب، وهناك واجه السادة عمر شنيب وعبدالحميد العبار وخليل القلال مخاوفهم وطموحاتهم وقد وصل في نفس ذلك الوقت وفد من القاهرة باسم هيئة التحرير ولكن على عزمهم كانت الآمال معقودة فواجهوا المجلس وتلا عمر بك فائق شنيب على مسامع المجتمعين في lake success) – ليكسكسس).
أمام الأمم
استهل الحديث عن مشروعية وقوفهم هذا وإن الوفد قد حاز على ثقة الأمير إدريس وشكرهم على إنصاتهم للصوت البرقاوي وبدأ بالحديث عن الأوضاع السياسية والاجتماعية لليبيا قبل الاحتلال وتدهور الأوضاع بعده والجرائم التي ارتكبها وأعلن فيها مسئولية إيطاليا على ما قامت به من جرائم في حق الإنسانية، وأنتقل إلى الحديث عن الجرائم التي قام بها في القطر البرقاوي ومن ثم أنتقل للحديث عن التضحيات الجسيمة التي قدمها البرقاويين في الحرب العالمية الثانية ومن ثم أنتقل إلى الهدف التي أتت من أجله هذه البعثة فبعد ذلك الخطاب المطول الذي نحى فيه نحو ذكر بعض التصريحات التي أدلى بها عدد من رجال السياسة الدولية مثل رئيس الوزراء تشرشل و وزير خارجيته وأتجه بعدها إلى إدراك المراد وختم كلامه للسادة الحضور بـ ((…. فإنصافكم أيها السادة هو الضمان الوحيد لإقرار العدل وحقن الدماء وتوطيد أركان السلم في العالم، على أنه أيها السادة ليس ميثاق الأطلنطي وليس اتفاقية سان فرانسيسكو إلا عملاً من أعمالكم تقدمتم به إلى الإنسانية تريدون به إنصافها وتبتغون به لها حياة هادئة في ظل الحق الطبيعي لكل إنسان. فاستنادا على ما ذكرناه نتقدم نحن (وفد برقة) المعبر عن شعور الشعب البرقاوي بأسره مطالبين هيئتكم الموقرة بما يلي: أولا: الاعتراف باستقلال برقة. ثانيا: عدم رجوع إيطاليا لأي جزء من أجزاء ليبيا. وختاماً نكرر شكرنا لهيئتكم الموقرة باسم الشعب البرقاوي وأميره المعظم)).
وثم وجهت مجموعة من الأسئلة كانت موجهة من قبل ممثلي الدول الأخرى وقد قدم السادة عبدالحميد العبار وخليل القلال وعمر فائق شنيب بتاريخ 5 مايو 1949 هذا التقرير بمطالب شعب برقة الذي ذاق الويلات من أجل هذا وعادوا عودة المنتصر بإذن الله، وهناك استقبلهم الشعب البرقاوي بالتهليلات والتصفيقات وأقام على شرفهم الاحتفالات فرحاً بما أفضت إليه الجهود البرقاوية.
استقلال برقة
وما هي إلا أشهر قليلة حتى أعلن الأمير إدريس استقلال برقة الذاتي 1 يونيو 1949. واجتمع المؤتمر الوطني البرقاوي بكامل هيئته في قصر المنار العامر في ذلك التاريخ للاستماع إلى أعمال الوفد البرقاوي وفيها وقف عمر شنيب للإدلاء بما قام به الوفد وللبحث في القضية الليبية. وعين فتحي الكيخيا في 8/9/1949 رئيس لمجلس وزراء برقة بخمس حقائب ثم خلفه في 9/11/1949 عمر باشا الكيخيا والده.
حتى الوفد الثاني
وفي 16 مايو 1949 اجتمع أعضاء مجلس المؤتمر الوطني (البرقاوي) في اجتماع ضم أغلبية الأعضاء دارت فيه بعض المناقشات حول وضع البلاد، وقف في ذلك الاجتماع عمر بك شنيب ليشرح للسادة الأعضاء ما جرى في اجتماع الأمم المتحدة الذي عُقد بتاريخ 5/5/1949 وقدم لهم تقريراً بذلك، وفي ذلك الاجتماع أيضاً قدم بعض الأعضاء مقترحاً يقضي بتولي عمر شنيب رئاسة مجلس الإدارة للمؤتمر.
الوفد الليبي الثاني
وفي غضون الأيام من 13 إلى 14 سبتمبر 1949 جرت مجموعة من المناقشات لإقرار من سيرافق عمر شنيب في المرحلة الثانية من الجهاد في سبيل الوطن ربما لم يصرح هذا ولكن أن تكون جميع المقترحات المقدمة تحوي عمر بك شنيب إذا كان عمر شنيب محل إجماع من قبل صاحب السمو الأمير إدريس ومن المؤتمر الوطني برئاسة الأمير محمد رضا السنوسي، وفي 22 سبتمبر تقرر إرسال الوفد بنفس الميزانية التي تقررت للوفد الأول بعد إضافة مبلغ 1000 لها التي قرر إنها متكونة من السادة خليل بك القلال وعمر فائق شنيب وعبدالرازق شقلوف الذي جاء من بريطانيا حيث محل دراسته ليتولى مهمة الترجمة، وقد كان عبدالرازق قد تعرض لمحاولة تغيير لبعض من أفكاره لتشتيت جهود البعثة الرامية للاستقلال ولكن روح الوطنية التي تسكنه ومحاولات عمر شنيب لتبديد كل تلك المساعي جعلته يعود لجادة الصواب التي حاول البعض زحزحته عنها سامحهم الله وانطلقوا إلى أمريكا حيث تعقد الجلسة وهي بخصوص ليبيا.
صحيح أنهم برقاويين انطلقوا من برقة ولكن ما كان في قلوبهم إلا ليبيا والمصلحة العليا للأقاليم الثلاثة وقد ذهبوا إلى هناك باسم برقة وهناك كانت المفاجئة والصدمة حيث اتضح أن المؤتمر الوطني الطرابلسي برئاسة بشير السعداوي قد أرسل وفداً هو الأخر برئاسة بشير السعداوي وبعضوية د. محمد فؤاد شكري ومختار المنتصر ومصطفى ميزران وقد كان وفداً أخر مكون من شخصين هما سالم المنتصر وعبدالله الشريف وهم أعضاء حزب الاستقلال، وقد أرسل بتمويل إيطالي وللأسف كانوا طرابلسيين وقد وصف م. الطيب الأشهب فيما بعد هذه الحادثة بالمخجلة خاصة وإن هذه الوفود من بلد واحد ويفترض بها العمل من أجل غاية واحدة وكما هو المألوف عن بائعي الذمم يعملوا على إفساد الأمر بالخروج عن صراط الإجماع فرفضوا مطلب الشعب الذي يقضي بإمارة الأمير إدريس للبلاد وهذا ما كان مرفوضا في تلك الفترة من تاريخنا.
وبعد جدال طويل كان من المفترض أن ينتهي قبل أن يبدأ في هذا المكان وهناك ألقى عمر فائق شنيب المراد من كل هذا الاجتماع فصاح على مسامع مجلس الأمم المتحدة المطلب الليبي الذي يقضي باستقلال البلاد تحت التاج السنوسي وتكفل خليل القلال بالإجابة عن الأسئلة الموجهة للوفد وربما كان هناك نوع من الريبة حول موقف الوفد الطرابلسي برئاسة بشير بك السعداوي حتى إن الوفد البرقاوي قد أخر تقديمهم لطلبهم إلى اللجنة السياسية إلى أن يروا ماذا سيقدم بشير السعداوي وهذا ما جعل الوفد البرقاوي يضع في طلبه كل الخيارات لضمان الاستقلال حيث إنه قد أورد بنداً يقضي بالمحافظة على استقلال برقة رغم ما قيل عن الصراع الذي دار بين هذه الوفود إلا أن العلاقات التي كانت بعض الشئ هادئة وطنية تضافرت فيها الجهود من أجل الاستقلال رغم ما كان من خلافات بسيطة بين أعضائها.
وصدر القرار التاريخي الذي يقضي بإمهال الأقاليم الثلاثة الفرصة لنيل استقلالها بتاريخ 21 نوفمبر 1949 في فرصة لم يتوقعها البعض الطرابلسي لفترة أقصاها أول يناير عام 1952 في تلك الأثناء أخد عمر باشا منصور الكيخيا على عاتقه الحكومة لكن الأمر الذي استغربه الوفد البرقاوي إنه عندما عاد الوفد البرقاوي إلى ليبيا بتاريخ 1 ديسمبر 1949 إلى طرابلس قوبل بالإعلام السنوسية الرفرافة وبالهتافات والاحتفالات في كامل إقليم طرابلس ما جعل الوفد يصرح في تقريره الذي قدمه إلى سمو الأمير إدريس السنوسي حيث قال بعد ما رآه من الشعب الطرابلسي ((… حتى أصبحنا نؤمن بأن الشعور العام وأن الوحدة تحت التاج السنوسي هي شعار الأكثرية الساحقة في جميع أنحاء القطر…)) يقصد الطرابلسي بينما لم تظهر من بنغازي والمدن الشرقية مظاهر فرح كبيرة رغم حدوث مظاهرة للاحتفال بمدينة بنغازي تصدرها أعضاء جمعية عمر المختار ولكن الطريف أنه قد حدث ذلك الاحتفال إلا أنها قمعت من قبل رئيس وزراء برقة آن ذاك عمر باشا كيخيا.
مجلس الأمم المتحدة
كلف أدريان بيلت بموجب ذلك القرار كمندوب للأمم المتحدة وقد كان مندوب لدولة هولندا في الأمم المتحدة ووصل أدريان في يناير 1950 وبدأ في العمل بما جاء به القرار، وبدأ مهامه بمقابلة للسيد إدريس وبعد مفاوضات طويلة مع رموز الحركات السياسية ورجال الدولة في كل من طرابلس وبرقة، وبهذه الاجتماعات المتكررة أفضى الأمر إلى تأسيس لجنة الواحد والعشرين والتي عين أعضائها بالتساوي بين أقاليم ليبيا وكان من ضمن أعضائها عن برقة خليل القلال وعمر شنيب.
وقد نشرت مجلة الوطن استقالة عمر شنيب من منصب السكرتير الخاص للأمير بتاريخ 1/7/1950 التي قدمها عقب عودة الوفد عودة المنتصرين وقد تضاربت الآراء عن علاقته مع الإنجليز في حين يذكر بعض الكتاب أنه قد اكتسب ثقة الإنجليز في حين أنه لا يخفي كرهه للإنجليز سادة الموقف وحلفاء الأمير، ويذكر سامي الحكيم في كتابه استقلال ليبيا أن عمر شنيب لم يكن راضياً بالمعاهدة التي وقعت مع الإنجليز حتى امتلأت عيناه بالدموع وقد وقف في وجه محمود المنتصر عندما أراد الاحتفال بذكرى المعاهدة.
الجمعية التأسيسية
بتاريخ 21 نوفمبر 1949 تم بدء العمل من أجل تأسيس الجمعية التأسيسية التي ستعمل على وضع الدستور والتي عين الملك إدريس السنوسي أعضائها بشكل متساوي بين الأقاليم الثلاثة وأصبح لكل إقليم منها نصيب في هذه اللجنة وهو 20 عشرون عضواً ، وبدأت اللجنة أعمالها يوم 25 نوفمبر 1950 وعين عمر شنيب أحد ممثلي إقليم برقة وفي الانعقاد الأول لها تم انتخاب الشيخ أبو الإسعاد العالم رئيسا وأنتخب عمر فائق بك شنيب نائب له وهذه اللجنة لو ننظر إلى أعضائها لوجدنا إنهم ساهموا في حركة الجهاد كل في ميدانه والأمر الآخر إن كل منهم لديه أراء مختلفة عن أراء الآخر ولو كان من نفس الإقليم وكانت تظم خلاصة الأفكار السائدة في المجتمع وفي الأوساط السياسية آن ذاك. واستغرقت الجمعية التأسيسية مدة عشرة أشهر في كتابة الدستور . وقد انتخب عمر رئيساً للجنة الدستور وهي التي عملت على صياغة دستور ليبيا.
وبعد تهاء أعمال هذه اللجنة بتاريخ 6 نوفمبر 1951 وبعد مبايعة الجمعية للملك إدريس بمدينة بنغازي وتسليم الجمعية للدستور الذي اعتبر بعد نشره من أهم الدساتير العربية وأكثرها ديمقراطية كما تمت مبايعة الملك على ملكية ليبيا يوم 2 ديسمبر 1950 وما كانت هذه الديمقراطية إلا لعد التنازلات الكثيرة التي أرادها الملك عند كتابة التأسيسية للدستور. وقد عينت التأسيسية في أبريل سنة 1951 محمود المنتصر ليكون رئيساً للوزراء الوزارة الاتحادية المؤقتة وعُين عمر فائق شنيب في هذه الوزارة وزيراً للدفاع واستمرت في أعمالها حتى مطلع يناير 1952 وهي الوزارة التي عملت على تسلم السلطة من الإدارتين البريطانية والفرنسية.
العلم الليبي
ومن أعمال عمر شنيب في موقعه هذا هو وضع مخطط العلم الليبي وأبلغ الحاضرين أن تصميم هذا العلم كان اختيار الأمير إدريس السنوسي، وقد وافق الأعضاء على تصميم العلم الذي قُدم إليهم ولم يوضح المندوب الأممي أدريان بيلت ما إذا كانت هناك أي تصاميم أخرى في هذا الاعتبار للعلم. وأعلن الملك إدريس من شرفة قصر المنار استقلال ليبيا في 24 ديسمبر من عام 1951.
بعد إعلان الاستقلال
أسس الديوان الملكي الذي يوازي المكتب السابق الذي أسسه الملك وعين عمر رئيساً بهذا الديوان وأقيمت الانتخابات النيابية وصدرت نتيجة الانتخابات وأفتتح البرلمان، وقف عمر فائق شنيب دائماً على الجانب الأيمن من عرض الملك إدريس السنوسي وبقى قلبه يخفق لما يمثله من أمل في بناء ليبيا وقد حاز على احترام الملك وتقديره فلطالما اكتست جلساتهم مظاهر الأخوة والصداقة.
محاولات الإنقاذ من الفقر
وقد وقعت في عهده المعاهدة البريطانية التي كان لها طيب الأثر في بناء ليبيا والتي لولاها لما خطى الوليد الجديد ابن الأمم المتحدة أولى خطواته *** 1953 الزعيم المصري جمال عبدالناصر حيث طلب عمر منه في مقابلة خاصة مع إقراض بعض المال لخزانة الدولة الليبية لكي يسير أموره ولكن رفض الزعيم وعرض عليه إعطائه بعض محاصيل السكر والأرز مقابل التنازل له عن مدينة الجغبوب المكان الذي له الفضل في نهضة الأمة الليبية بعد قدوم الإمام محمد بن علي السنوسي له في بدايات القرن التاسع عشر.
وتوفاه الله سبحانه وتعالى عن عمر يناهز الثلاثة والستين عاما بتاريخ 7 أغسطس 1953 ودفن يوم عيد تأسيس الجيش الليبي 9 أغسطس وشارك في تشييع جثمانه كل فئات الشعب التي شاركت في الاحتفال الحادي عشر لتأسيس الجيش الليبي وحامت حول وفاته بعض القصص حيث قال البعض إنه قتل على يد الاستخبارات البريطانية ولكن أطرفها إن الملك بعد وفاته رفض حلق شنبه حزنا عليه. ومات بقلب لو قيس الفرح الذي عاشه لن يكون سوى تسعة أشهر وهي تلك الفترة التي عاشها حضرته في سماء الوطن الحر المستقل.
أنهي حديثي هذا ولا يزال في قلبي ذلك الحرج والآن أصبحت أخي القارئ أختي القارئة، مدركين لذلك الحرج الذي سيقع فيه كل من يريد الحديث عن رجال الاستقلال الشرفاء.
______________