د. محمد المفتي
وكان البوري من جانب آخر، قد أمضى الربع الثالث من عمره تقريبا، في خدمة الدولة الليبية كأحد مؤسسي إداراتها وخاصة في وزارة الخارجية. وقد لعب ذلك الدور كإداري “محترف” يحدوه حرصه على كفاءة آداء ما أوكل إليه من مهام ومناصب، بعيدا عن “أجواء السياسة” وما يرتبط بها من تنافس وصراعات ومناورات وغيرة ومكائد.
لكن فترة التكوين في حياة ووعي البوري هي ما شدني شخصيا للرجل، الذي، لحسن الحظ، كان بيته على بعد خطوات من بيت المرحوم والدي وبيتي. تلك الفترة في حياة البوري لم تخلو من مغامرة وإثارة. فالبوري كان أحد أبناء شريحة صغيرة من الشباب الليبيين الذين تلقوا تعليمهم في المدارس الإيطالية، التي فتحت أذهانهم على حضارة العصر. وبالطبع كانت للسلطة الإيطالية أهدافها، لإعداد ليبيين للعمل في إدارتها. إعداد جيل يتحدث الإيطالية، ومتشرب للثقافة الأوروبية. ويعتمد عليه كوسيط بين السلطة الاستعمارية والليبيين.
وحقق الطليان نجاحا بتطعيم إداراتهم في مجالات كثيرة منها إدارات البلديات، والإعلام سواء في إذاعة طرابلس العربية أو في مجال الصحافة وأهمها صحف بريد برقة ومجلة ليبيا المصورة. كما أعدت مدرسين للغة العربية.
لكن معظم أبناء ذلك الجيل المبكر، سرعان ما أفصحوا عن ولائهم لوطنهم وثقافتهم العربية، بدرجات متفاوتة من الوضوح والصراحة. وكان البوري أحد أولئك، كما نلمس في كتاباته المبكرة على صفحات ليبيا المصورة. فنشر قصصه القصيرة، ودبج المقالات، وأدخل لعبة الكلمات المتقاطعة بالعربية. وكتب أول تحقيق صحفي ( عن مظاهر الحياة في شهر رمضان في بنغازي)
وفي هذا المقال الذي أنشره من باب التأبين والرثاء، سأتناول تفاصيل مجهولة عن حياة فقيدنا الدكتور وهبي. كما سمعتها منه شخصيا. تفاصيل تلقي الكثير من الضوء على سيرته وعلى تلك الحقبة وما رافقها من تقلبات.
ثم عرفته كصديق أزوره بانتظام، وتأكد لي أن الدكتور وهبي ينصت أغلب الوقت. ويفضل الإجابة عن أسئلة مباشرة عن حياته وتجاربه ومغامراته. فلن يستطرد مثلا من قصة أو إسم يذكره آخر، كما هي عادة أغلبنا إذا ذكر أحد الجالسين إسم شخص ما، فيستطردُ: “. آه والله أذكر، حين. كذا.”. ولن ينعطف إلى تعليق عند ذكر آحدهم لواقعةٍ أو حكاية، ولن يقحم في الحديث أي شيء من ذكرياته الشخصية. البوري ليس بالمجادل أو حتى الميال للدردشة، لكنك إذا سألته أجابك وبكل ما يعلم وبصدق، لا يتوقف إلا عندما يريد أن يقول لا أعرف، أو لم أكن موجودا إبان ذلك الحدث!
ثمة وجهان لشخصية البوري: الدبلوماسي والمبدع. وفي الحالتين يميل للصمت أمام الآخرين.
البوري لا ينافق ولا يتملق، بل يعرف الصحيح وينحاز له. لكنه ينطق فقط إذا سئل عن رأيه وطلبت مشورته. وفي كل الأحوال يترك تيار الأحداث والآراء يجري أمام ناظريه، دون محاولة أو رغبة في التدخل. على عكس الإنسان السياسي مثلا.
كلنا قد نصمت حذرا أو تعبا، أو من باب الخوف، فمن صمَت سلِم ! لكن الصمت وما يترتب عليه من كتمان، هو موهبة الدبلوماسي الأولى في ما يبدو لي. إضافة إلى الذكاء وحِدّة البصيرة ورجاحة العقل. أن تراقب ولا تبادر، وتتمعن وتحتفظ برأيك الشخصي. وأن توظف قدراتك لخدمة الحاكم والدولة والسلطة. بنزاهة وأمانة. وأن الدبلوماسي بهذه المواصفات، فصيلة نادرة.
المفارقة الأخرى واللازمة هي أن حياة الدبلوماسي، تمسي بهذا المعنى، خصوصية وغير مثيرة، إلا إذا سجلها في كتاب مثلا أو في عصرنا الحديث في صور فوتوغرافية مع الرؤساء والملوك والمشاهير. تكتظ بها جدران منزله. وحتى مذكرات الدبلوماسيين قلما تحوي المهم، إلا إذا قدمت سندا أو شهادة على واقعة أو شاركت في قرار ذي شأن. وبالتقاعد تنتهي عادة حياة الدبلوماسي. فتنساه الدولة وينساه الناس. وربما قضى بقية عمره يكرر قصصا ونوادر تفقد طعمها مع الوقت.
أين المثير والشيق والمتميز في حياة الدبلوماسي الاستثنائي؟
إنك تجده في عطائه خارج مجال هذا التخصص المهني الغريب، كما نرى في حالة ابن خلدون الذي ألف مقدمته وهو مبعد من عمله السياسي، وكذلك ألف ميكيافيللي كتاب الأمير حين تقاعد. وفي حالة الدكتور البوري، كان عطاؤه الإبداعي في مجال القصة والتأليف، قبل دخول السلك الدبلوماسي وبعد أن غادره. ففي أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين كتب القصة القصيرة، وكان أول من تصدى لهذا النوع الأدبي في تاريخنا الثقافي الليبي. كما نشر المقالات والتحقيقات الصحفية، في مجلة النخبة الليبية الوليدة آنذاك : مجلة ليبيا المصوّرة .
وبعد أن تقاعد، عاد إلى حبه الأول: القصة والكتابة. فأعيد طبع مجموعته القصصية الرائدة ، ونشر كتبا عن تاريخ بنغازي ودور بنك روما في التمهيد للغزو الإيطالي، وترجم كتاب الكفرة الغامضة عن غزو الطليان للواحة في يناير سنة 1930.
أما ما أريد أن أقدمه للقارئ هنا، فهو صورة قلمية بلسانه هو ما أمكن، كما سمعتها منه مجزأة. وهي صورة لحقبة من حياته، قرابة ست سنوات، فريدة بقدر ما هي غريبة. رحلة سندبادية محفوفة بالمخاطر بقدر ما كانت مغامرة جميلة. خط متعرج نحو استرداد الهوية، رحلة شكلتها ظروف لم يقررها أحد. وهبي الشاب الليبي المتعلم الذكي يدخل متدربا في السلك الدبلوماسي الإيطالي، ثم يعمل في إذاعة عربية بروما، ومن هناك يلتحق بمفتي فلسطين المناضل الذي قادته معادلات ذلك الزمن إلى التحالف مع ألمانيا النازية المشتبكة في حرب مع بريطانيا التي كانت ترعي التوغل الصهيوني في فلسطين. وبعد نهاية الحرب يلتحق البوري بالليبيين الموجودين في القاهرة، والحالمين بدولة وطنية بعد اندحار ايطاليا!
هذه السنوات من سيرة الدكتور وهبي البوري، مثيرة، ليس فقط بأحداثها شبه السينمائية، ولكن لأنها تضئ لنا بعض جوانب السنوات الأخيرة من العهد الإيطالي، بفضل تقاطع حياة الرجل مع أحداث وأشخاص لعبوا أدوارهم على مسرح الحياة السياسية. قصة من نسج الأقدار.
كان بالبو شخصية مركبة من عناصر متناقضة، لكنه سعى إلى توصيل قيم الحداثة إلى الأجيال الصغيرة من الليبيين بالتوسع في تعليمهم، وإلى دمج الليبيين في بنية الثقافة الإيطالية. وبلغ توجهه هذا ذروته في استصدار قانون منح الجنسية الإيطالية للأعيان وللشريحة المتعلمة. ولاشك أن سياسات بالبو تستحق الدراسة والتأمل، لكن المجال يضيق عن ذلك هنا، وقد تطرقت له في بعض كتبي عن الهوية الليبية والتاريخ الاجتماعي كما في كتاب “الأيام الطرابلسية”.
وبغض النظر عن حكمنا عليها، فقد اضطلعت تلك النخبة الليبية الشابة التي تعلمت في المدارس الإيطالية وعملت في الإدارات الإيطالية. ومنهم كان محمود المنتصر أول رئيس وزراء بعد الاستقلال، وعلي الجربي (أول وزير خارجية للمملكة الليبية) وسليمان الجربي وعلي نور الدين العنيزي (محافظ بنك ليبيا) وعبد الرازق شقلوف (وكيل وزارة المالية) وحسين مازق (والي برقة) ومصطفى السراج (وزير الزراعة) وفؤاد الكع وزيرا للخارجية بازي (وزير البترول) وعبد السلام بسيكري (وزير المعارف الذي تأسست الجامعة الليبية في عهده). وغيرهم كثيرون.
في تلك الفترة أيضا برز عمر فخري المحيشي، كصحفي وكأحد مستشاري الدولة الموثوق بهم والذين عاملتهم الدولة الإيطالية باحترام. وألقى عمر فخري، العملاق البنية، بظل وارف على الساحة الثقافية. مانحا الشباب الجديد فرص المشاركة والتألق، وراسما في الأفق أبعاد الهوية الوطنية التي كانت تداعب خيال الجميع، رغم خضوعهم الظاهري للاستعمار الإيطالي. وقد وصفه لي الدكتور وهبي في هذه العبارات:
“عمر فخري. راجل مثقف ثقافة عالية، وطيب لأقصى الحدود، ومخلص لبلاده، ومحب للخير، وكل الصفات الطيبة فيه. رحمة الله عليه، مات صغير، كان يتمنى يشوف ايطاليا خارج ليبيا. كنا نسهر عنده. ومرة جا محمد المجريسي. شكا له، قال: اليوم كنت راكب في الأتوبوس في الدرجة الأولى. كان فيه ضابط إيطالي، قال لي أطلع من هنا. فوقفت. قال لي أرجا، اضرب تحية. ضربت له تحية، ونزلت وهذي الحالة يا بيْ. فرد عمر : الله يزيدكم من ها الحالة، لو كان الطليان ما يعاملوكم هكي. تنهبلوا وراهم. كان عمر فخري وفتحي عمر الكيخيا وعلى أسعد الجربي، ما لهمش مثيل”.
هذه الأسماء، جزء من جيل من الشباب الليبي المتعلم كان بداية النخبة الإدارية الحديثة في ليبيا.
“سنة 1936 اشتغلت في الولاية. بعدين دخلنا الامتحان في بنغازي وطرابلس. قرروا إن الأول والثاني ياخذوهم للتدريب في الخارجية، فبعثوا يوسف بن كاطو إلى جدة وأنا إلى طنجة. يوسف بعدين رد الى بنغازي، مرض، كان عنده القلب مسكين. كان ممتاز. عين وزير مالية في حكومة برقة. البقية عينوا في مناصب مختلفة. لكن ما عينوهم وبدوا يشتغلوا نين ناضت الدنيا وبدأت الحرب العالمية الثانية “.
في طنجة عمل وهبي البوري في القنصلية الإيطالية. كما عمل أيضا مدرسا للغة العربية بالمدرسة الإيطالية هناك.
عند اندلاع الحرب، تقرر تسفير رعايا ايطاليا من طنجة، وأحدهم وهبي البوري، وبالفعل أقلعت بهم سفينة إيطالية نقلتهم إلى نابولي. ومنها ذهب البوري إلى روما حيث التقى بأحد أعز أصدقائه: “. رشيد الكيخيا، وكان منفيا في مدينة سينا حيث كان يقيم بجوار أخيه عمر منصور المنفي أيضا هناك. وكانت تهمة رشيد هي تعاونه مع الإنجليز عند دخولهم إلى بنغازي، بمحاولة تكوين فرقة من الأهالي للمحافظة على الأمن بالمدينة.”.
أثناء الحرب العالمية الثانية. قررت إيطاليا فتح إذاعة عربية بإسم إذاعة باري العربية. فاستدعت عددا من موظفيها الليبيين إلى هناك. وجاء إلى روما سليمان الجربي وكان يعمل في القنصلية الإيطالية في السلوم. ومصطفي الشركسي من قنصلية الاسكندرية. بعد الحرب عمل محرر عقود في بنغازي. ومن طرابلس جاء راسم كدري وابراهيم البكباك. وآخرين.
“عملنا كمترجمين بالإذاعة. أما المذيعين فكانوا عربا من سوريا وفلسطين، كما كان معنا الشيخ يوسف الخازن وهو صحافي كبير آنذاك، وكان يلقي محاضرات وأحاديث عبر الإذاعة. واستمرت الإذاعة إلى نهاية الحرب”.
وقرب نهاية الحرب العالمية، انتقل البوري إلى فلك قريب. إلى دائرة مفتي فلسطين.
بعد الحرب العالمية الأولى، واحتلال الإنجليز لفلسطين، كوّن الشيخ أمين مع مجموعة من الأصدقاء “النادي العربي”. وبعد تسلمه منصب الإفتاء أنشأ “المجلس الإسلامي الأعلى” الذي أصبح على مرّ الأيام قوة سياسية فاعلة. في أواخر يوليو/تموز 1929 اندلعت أول صدامات كبري بين الفلسطينيين واليهود وكانت عاملا في انعقاد المؤتمر الإسلامي في القدس ( 7/12/1931 ). ومع تدفق الهجرة اليهودية على فلسطين، وقيام اليهود بتشكيل عصابات مسلحة، تنظمت فرق مسلحة من الشباب الوطني الفلسطيني.
وعلى الصعيد السياسي تشكلت اللجنة العربية العليا لتنسيق نشاط مختلف الأحزاب والتنظيمات، ونظمت اللجنة الإضراب العام لدعوة الحكومة البريطانية إيقاف الهجرة اليهودية، ومنع انتقال ملكية الأراضي لليهود. وجاء رد الحكومة البريطانية لم بتقسيم البلاد.وفي سنة 1937، غادر الشيخ أمين فلسطين إلى العراق. وهناك قامت حركة رشيد عالي الكيلاني في أبريل/أيار عام 1941، المناوئة للإنجليز، والتي لم يكتب لها النجاح. وانتهى الحسيني والكيلاني إلى اللجوء إلى ألمانيا النازية.
أخبرني المرحوم وهبي البوري: “ولمّا بدأ الحلفاء بالزحف على الأراضي الألمانية عام 1945 انتقل المفتي إلى فرنسا أولا حيث وضع تحت شئ شبيه بالإقامة الجبرية. لكنه هرب بجواز سفر معروف الدواليبي (رئيس وزراء سوريا في ما بعد) الذي كانت له لحية تشبه لحية الشيخ الأمين. هرب إلى مصر حيث شكل الهيئة العربية العليا لفلسطين وأعاد تنظيم جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني. وجاء إلى مصر كثير من الفلسطينيين ومعهم فلوس لشراء أسلحة. وكان كثير من السلاح يأتي من صحراءنا. يهربه البدو ووصلت البندقية إلى إثنين جنيه”.
عبد القادر الحسيني، خريج كلية العلوم بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وأستاذ الرياضيات في الكلية العسكرية ببغداد، قام ورفاقه، إثر إصدار الأمم المتحدة لقرارها بتقسيم فلسطين عام 1947، بإعادة تشكيل قوات الجهاد المقدس، التي خاضت معارك بطولية ضد القوات البريطانية والجماعات الصهيونية. ولكنهم خذلوا من قبل الدول العربية وأمين جامعتها عبد الرحمن عزام الذي كان قد وعدهم بالكثير. واستشهد عبد القادر في معركة القسطل يوم 8/4/1948.
وفي 1948 أيضا، تشكلت حكومة عموم فلسطين في غزة برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي التي سرعان ما حوصرت وانتقلت إلى مصر. كما ضيق الخناق على الهيئة العربية العليا، وأغلقت في وجهها الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة. وأوكل للجامعة العربية بمتابعة القضية الفلسطينية. وبعد سنين من العلاقات القلقة مع حكومة الثورة المصرية، اضطر المفتي وأنصاره مغادرة القاهرة إلى لبنان عام 1959، حيث توفي.
إبان الحرب العالمية الثانية، دخلت الدنيا في حالة فقدان وزن وكانت جيوش القوى الكبرى تطارد بعضها البعض، كرا وفرا، وفي تلك الفترة عاش البوري إحدى مغامرته الكبرى:
“سنة 1944 تركت الإذاعة، والتحقت بالشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين الذي كان منحازا للألمان ومقيم في برلين. وهناك وجدته محاطا بعدد كبير من الشباب العربي، الذين وصل معظمهم بعد الحرب إلى مراكز مرموقة في بلدانهم. منهم السوري معروف الدواليبي، والتونسي الحبيب تامر.
في البداية أرسل منا مجموعة لتأسيس إذاعة عربية تبث من يوغسلافيا. كنا ثلاثة : أنا وكامل مروّه صاحب جريدة الحياة في ما بعد، وسليم الحسيني. وكان إسمها صوت العرب الأحرار. بعد ذلك مباشرة وبعد عودته إلى لبنان في عام 1946 أسس كامل مروه صحيفة الحياة، واغتيل في مكتبه عام 1966.
ذهبنا إلى يوغسلافيا، لكن الأمور كانت غير مستقرة، تيتو يقود المقاومة. ولذلك عملنا في كهف خارج العاصمة. ما كانش معانا فنيين، يربطونا بهوائيات البث وخلاص، كان معانا راهب مستشرق ألماني يساعد فينا في الترجمة. الاذاعة استمرت 6 شهور.
بعدين احتل الروس بلغاريا. وكان كامل مروه هناك، وعمل تلفون وقال لنا اهربوا لأن الروس يتقدمون. وفعلا سافرنا إلى فيينا، وكان لنا فيها أصدقاء. وبدأت الغارات عليها. فلم نبق طويلا. أيام. وتوجهنا إلى برلين”.
“من بلغراد مشينا إلى برلين. نهاية الحرب كانت الأبواب، لكن المفتي كان مصرّ على استمرار صوتنا. فكلم الألمان. مشينا. أذعنا ثلاثة أو أربع مرات. محطة برلين مدينة تحت الأرض. كانت الحرب على وشك الانتهاء. تطلع من بيتك، في الليل ترجع تجد البيت اختفى والعمارة طارت. كنا نمشو لمحطات الأنفاق للنوم في الليل. نطلعوا في الصبح لا نلقوا خبزة ولا حليب. نمشوا لمحطة الإذاعة نفطروا وناكلوا.
لما أصبح البقاء في برلين مستحيل، الشيخ أمين قرر السفر إلى الجنوب، إلى سالزبورج. وقال لنا انتشروا، كل واحد يمشي إلى المكان الذي يأمن له. وأنا قال لي يا بوري خوذ معاك جماعة دخلهم إلى ايطاليا.
انتهينا إلى داخل الحدود الإيطالية، وجاءت الأخبار بأن الأمريكان في طريقهم فقررنا أن نتوزع”.
يمضي البوري في سرده: “وصلت ميلانو. ونزلت في هوتيل ديانا. كان مليان ألمان. وبعد كم يوم قررت مغادرته. كنت خائف.
في الصباح سمعت تبادل إطلاق نار، الهوتيل محاصر من البارتيزان قوات الحزبيين المناهضين للفاشية. جيت نبي نطلع، وإذا إثنين من البارتيزان يشهران علي السلاح. أنقذني موظف الاستقبال. تقدم ووضع يديه بيني وبينهم. وقال لهم هذا لا دخل له. اتضح أنه كان معهم، جاسوس لمراقبة الهوتيل. وكنت أتردد عليه وأحكي معه، وسبق أن قلت له أنني ليبي وأنني أريد أن أعود إلى بلادي.
ذهبت إلى غرفة ساعدني بعض أصحابي الطليان بالمدينة على الحصول عليها. وبقيت ستة أشهر في ميلانو. من ميلانو مشيت إلى روما. ومن هناك اتصلت يالجامعة العربية في القاهرة لترتيب تأشيرة. ما صار شي. فسافرت إلى نابولي”.
“. في سنة 1946، الحرب انتهت بانتصار الحلفاء. وجدت في نابولي سفينة متجهة إلى بورسعيد. خفت أن أقدم جوازي للإنجليز. وساعدني ضابط شرطة طلياني كنت أعرف أسرته. ساعدني في صعود السفينة. جئنا، وأمر الشاويش عند أسفل السلم أن يسمح لي بالصعود. وركبت. نزلت دغري لقسم الدرجة الثالثة. ورقدت في مقصورة. وبعد ما تحركت السفينة بمسافة. طلعت فوق. فوجئ الطاقم. كيف؟ وما كيف؟. قلت لهم عندي تذكرة. وين التأشيرة؟ بعدين ساهل”.
“وصلنا بورسعيد. الضابط المصري رفض يسمح لي بالنزول. بعد وقت تلاقيت مع شاب مصري يبيع في العملة. حكيت له وطلبت منه أن يبعث لي برقية إلى عبد الرحمن عزام باشا. وفعلا دارها. وبعد العصر بدأت الاستعدادات لتحرك السفينة. وإذ بضابط مصري جا. ونادي عليْ. وين البوري؟ وين البوري؟ ونزلت. وأعطوني تأشيرة لدخول مصر طبعا بضمانة عزام. وذهبت إلى القاهرة. أهي كانت مغامرات شباب”.
“الشيخ الأمين الحسيني، مفتي فلسطين، كان شخصية فذة، زعيم أحق بقيادة الوطن العربي. قعدت معاه من 1943 إلى 1947 درنا محطة في بلغراد، وأذعنا من برلين. لما انتقلوا إلى مصر اشتغلت معاهم، مسكت مكتب الأنباء الفلسطيني. إعلام، لم أبق طويلا. أقل من عام.
لكن لما الشيخ أمين جاء للقاهرة، وبدا ينظم في المقاومة الفلسطينية، ومعاه عبد القادر الحسيني، بدأ اليهود يخافوا منه. جوه المصريين وقالوا له ما يجب تدّخل في مسألة فلسطين. وكان عنده سلاح يوزع فيه على المجاهدين، سحبوا منه السلاح، هذا كان سنة 1946، وقالوا له أنه لا يجب أن يطمع أن يكون رئيس حكومة فلسطين لأنه سبق أن تعاون مع الألمان وهتلر. وجاه عزام باشا وقال له أن الجامعة العربية ستتولى أمر فلسطين. وبعد ذلك انسحب واستقر في بيروت وهناك توفي.
كلمني الأمير إدريس. رجعت للمفتي واستشرته قال لي أرجع لبلادك. اخدم بلادك أحسن”.
ومضى يحدثني: “في مصر. وجدت الدنيا كلها هناك. زعامات الليبيين. على الجربي، شقلوف، محمود المنتصر. وطبعا الأمير إدريس. كل شخصيات ليبيا.
رجعت إلى بنغازي في سنة 1947. وبعد رجوعي أول منصب لي في الدولة الليبية كان وكيل الديوان الأميري، مع عمرباشا الكيخيا. وبعدين عينّي الملك رئيس التشريفات الملكية.
أعلن الاستقلال الذاتي لبرقة فى 1/ 6/ 1949. وكان نتيجة مطالبة الأمير إدريس الذي كان يلح عليهم بالوفاء بالوعد اللي أعلنه وزير خارجية بريطانيا ايدن في مجلس العموم بأن السنوسيين، أي برقة، لن يعودوا تحت حكم أحد. مشى لبريطانيا واتفق معاهم، وتقرر إعلان استقلال برقة، لكن لم يدم طويلا، لأن الأمم المتحدة قررت منح ليبيا استقلالها”.
وهكذا خلع البوري بدلة المغامر والفدائي، ليظهر في صورة رجل البلاط الأرستقراطي الأنيق جدًا، الناعم والودود، الهادئ والخلوق، القابع تحت طربوشه ووراء نظارته الطبية الداكنة.
قبيل الاستقلال. أوفد الدكتور وهبي إلى الخارجية الفرنسية في باريس للتدرب. وبعد أن عاد تولى مختلف المناصب. رئيسا للديوان الملكي، سفيرا، وزيرا، مديرًا لمؤسسة البترول، وزيرا للخارجية، مندوبا في الأمم المتحدة. وحيث ما حلّ، خدم الدولة ووطنه بهدوء وعقل والتزام. كما تفرضه ثقافته الواسعة، واهتماماته الفكرية، وخبرته مع الدول والبشر. دون معارك شخصية ودون طموح سياسي !
رحم الله الدكتور وهبي.
_______________
المصدر: موقع جيل الثقافى.