محمد عبدالرحمن بالروين

هناك شخصيات وأفراد من شعبنا تركوا بصمات وآثارا إيجابية في مجتمعنا، وأعمالاً ومواقف مشرفة لنا جميعا، ووهبوا أرواحهم لخدمة الوطن والمواطن.

والحقيقة أن هؤلاء القامات والرواد، سواء كانوا أساتذة أو مشائخ أو علماء أو أدباء أو شعراء أو إعلاميين، أو فنانين أو رياضيين أو رجال أعمال أو سياسيين، يحق لنا أن نَعرفهم ونفتخر بهم، ونُعلّم سيرتهم ومواقفهم للأجيال الحاضرة والقادمة، ومن هؤلاء: الشيخ علي يحي معمر

في 15 يناير 1980، انتقل إلى رحمة الله الشيخ المناضل علي يحي معمر الذي ولد في قرية تكويت، بمدينة نالوت، في جبل نفوسة الأشم.

لقد كان الشيخ ذكيا في إدراكه وفهمه، أُصوليا في مُعتقداته ومبادئه، حركيا في إحساسه بوقوفه مع القضايا العادلة أينما كانت، ومتميزا بين زملائه ورفاقه، ومحدثا ومجددا في ثقافته الوطنية وحضارته الإسلامية، وكان دائما من المنادين بالعدل والسلام، والأمن والاستقرار، والنهوض والازدهار لكل من يعيش في وطنه.

لقد كان الشيخ من رواد الحركة العلمية العقلانية الإصلاحية، حاملاً شعار: المعرفة، والتعارف، والاعتراف. وقد قضى عمره كله ينادي ويدعو إلى هذه المباديء الثلاثة بين أبناء وطنه وأمته، وخصوصا أصحاب الأفكار والمذاهب والاتجاهات الإسلامية المختلفة.

لقد كان الشيخ دائما رجل الوحدة ضد الفرقة، ورجل التعايش ضد التباغض، ورجل التوافق ضد الغلبة، ورجل السلام ضد الحرب، ورجل الإعمار ضد الدمار.

لقد كان الشيخ مجاهدا، سلاحه القلم، وذخيرته الكلمة الصادقة، وهدفه كل من يريد أن يسمع أو يجادل بالحسني، ولعل من سخافات العسكر المحزنة أن قاموا، في بداية حكمهم بسجنه مع ابنه الأكبر محمد عام 1973، نتيجة لما عُرف أنداك بـ «الثورة الثقافية»، وكانت جريمته الوحيدة هي الأفكار التي كان يدعو لها!

بأوامر من القذافي نفسه تم حلق لحية المرحوم محمد على يحي، لإذلاله والاستخفاف به. لماذا؟ لأن الشيخ الجليل ألقى محاضرة، نُشرت في كتاب صغير الحجم بعنوان «مسلم ولكن يحلق ويدخن».

قد اضطر العسكر إلى إطلاق سراح الشيخ بعد سبعة شهور، وحكموا على ابنه محمد بالإعدام لمجرد أنه كان عضوا في حزب التحرير الإسلامي! واستناداً إلى مقولة القذافي «من تحزب خان». ولعله من المناسب، في قصة إجبار الشيخ على تحليق لحيته، أن نتذكر الطرفة المُحزنة المُبكية التي قالها الدكتور الفيلسوف عبد الرحمن بدوي (رحمة الله وغفر له) أستاذ الفلسفة بجامعة بنغازي في تلك الفترة، عندما رأى طلابه قد تم تحليق رؤوسهم ولحاهم بعد رجوعهم من معسكرات التدريب الإجباري، قال لهم الدكتور: «حصل ايه؟!» فرد عليه احد الطلبة: لقد حلقوا رؤوسنا في المعسكر! فقال لهم مستغرباً ومبتسماً في نفس الوقت: «هم يعتقدوا أن الشعر موش حيقوم مرة ثانية؟!»

لقد كان الشيخ من أسرة محافظة، ترك بعده رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أكبر أبنائه محمد رحمه الله، مات في المهجر غريقا، بعد أن فرّ من سجون القذافي الذي حكم عليه بالإعدام، وكان ابنه خالدأول من استشهد في معركة باب العزيزية العام 1984، عندما جاءت به اللجان الثورية إلى عمارة بوسط طرابلس ورموه بالرصاص أمام المواطنين، ثم استشهد بعده ابنه يحي في نفس المعركة، وسُجن أبناء الشيخ الآخرين وتعرضوا إلى كل أشكال التعذيب والإذلال والمهانة التي لا تخطر على بال.

لقد كان الشيخ استاذا، وفقيها، ومؤرخا، وأديبا، ومسرحيا، ولغوياً، وداعيا للدين والوحدة الوطنية والإسلامية، ويمكن اعتباره أحد فقهاء اللغة العربية بالرغم من أنه من شعبنا الأمازيغي العريق والأصيل.

لقد كان الشيخ كاتبا، ومؤلفا، ولعل من أهم مؤلفاته:
ـ الإباضية مذهب إسلامي معتدل، طُبع عدة مرات في الجزائر وعمان.
ـ الإباضية بين الفرق الإسلامية، طُبع عدة مرات في كل من الجزائر ومصر وعمان.
ـ الإباضية في موكب التاريخ، في أربعة حلقات، طُبع عدة مرات في كل من الجزائر ومصر وعمان.
ـ سمرأسرة مسلمة، (رواية) طُبعت عدة مرات في الجزائر وعمان.

ولكن المؤسف حقا .. أن جُل الليبيين لا يعرفون الكثير عن هذا الشيخ الجليل، ولا عن مجهوداته، ولا عن كتبه ومؤلفاته، والمحزن أكثر أن هذه الكتب والمؤلفات قد تم طبعها، وتوزيعها، وقراءتها في أماكن آخرى، إلا في مسقط راس هذا الشيخ الجليل، الذي كان يعيش في وطنه، ويحب شعبه، ويخاطب ساسته ونخبه في هذه المؤلفات!!! لقد كانت ولا زالت إلى هذا اليوم شُهرته، على سبيل المثال، في دولة عُمان والجزائر كبيرة جدا، ويعتبرون مؤلفاته مرجعا من المراجع الإباضية المعتمدة، إذا لم تكن من أشهرها على الإطلاق.

فهل آن الأوان لشعبنا الليبي الكريم، وخصوصا النخب السياسية والوطنية، أن يتعرفوا على هذه القامة العلمية المجهولة والمطموسة في وطنه، وأن يتعرفوا على غيره من القامات والرواد، وأن تقوم الدولة بتكريمهم والتعريف بأعمالهم وبكل ما قدموه من مجهودات ومحاولات لإصلاح الوطن والمواطن.

وفي هذه المناسبة أدعو كل الشرفاء أن يقرأوا سورة الفاتحة على روح هذا الشيخ الجليل، وعلى أرواح كل روادنا ومشائخنا، وعلمائنا، ومثقفينا، وفنانينا، ورياضيينا، ورجال أعمالنا، وكل الشريفات والشرفاء الذين اشتغلوا في صمت، وأعطوا بدون مقابل، بعيدا عن الأضواء محاولين إصلاح ما يمكن إصلاحة.

كما أدعو كل الخيرين إلى أن يكتبوا، ولو صفحة واحدة، على من يعرفون من هؤلاء الرواد والقامات (نساء أو رجالا) المجهولهن والمنسيين، حتى تتعرف أجيالنا الحاضرة والقادمة على تاريخها الحقيقي المُشرف، وبذلك يستطيعون تكميل مسيرتهم، والاقتداء بهم، والسير نحو المستقبل والبحث عن الأفضل والأجمل، وحتى تعي هذه الأجيال أن الشعوب التي تجهل تاريخها ولا تحترم قاماتها وروادها لا تستحق العيش الكريم، وسيكون مصيرها حتما السير نحو المجهول، ويكون مكانها دائما في مؤخرة التاريخ مع الشعوب المتخلفة.

وفي الختام، هل آن الأوان لأن نبحث عن هذه الكنوز المنسية والمدفونة، وأن نفتخر ونحتفل بالجوانب المضيئة في تاريخنا المُشرق والمُشرف.
أدعو الله أن يتحقق ذلك.

والله المستعان.

___________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *