حسين بن مادي
عملية اغتيال البكوش الفاشلة:
حصلت المخابرات المصرية ومباحث امن الدولة في أحد الأيام على معلومات من عناصرها داخل ليبيا، تفيد بأن المخابرات الليبية تخطط لاغتيال السيد عبد الحميد البكوش أحد رؤساء الوزراء السابقين في عهد الملك ادريس السنوسي.
وذلك تنفيذا للنداء الذي كان قد وجهه معمر القذافي بإحدى جلسات مؤتمر الشعب العام في منتصف أكتوبر من عام 1984 بتصفية “الكلب الضال عبد الحميد البكوش وأمثاله” على حد المفردات المعتادة لقائد “المدينة الفاضلة” و ”الفردوس الأرضي”.
ولتنفيذ هذه المهمة، وبتكليف من معمر القذافي مباشرة، تفاوض مندوبه بالعاصمة المالطية ڤالـِتـّا علي محمد ناجم مع كل من البريطانيين أنتوني وليام جيل (48 سنة تاجر قطع غيار سيارات وغارق إلى أدنيه في الديون) وشريكه جودفري تشاينر(47 سنة)، والمالطيين روميو نيكولاوس تشكامباري – صاحب خمارة – (42 سنة)، وادجار كاسيا– نصاب مشهور في فاليتا (40 سنة)، ووصل إلى اتفاق معهم على تصفية السيد عبد الحميد البكوش والذي كان مقيما بالقاهرة هربا من القمع، مقابل خمسة مليون دولار. كذلك تم الاتفاق على الاستعانة بمحترفين مصريين في حالة الضرورة.
لم تكن علاقة الليبيين بالبريطانيين جديدة. فلقد تمكن تشاينر بطائرته الخاصة، في شهر يناير من نفس العام من تهريب محمد الشبلي –أحد أعوان معمر القذافي– من بريطانيا، هاربا من إحدى المحاكم والذي كان يجب أن يمتثل أمامها بتهمة حيازة المخدرات وتهم أخرى.
أما البريطاني الآخر جيل فلقد اجتمع مع الإرهابي العالمي كارلوس بطرابلس عدة مرات للتنسيق معه لتصفية عدد من المعارضين الليبيين بالخارج.
بدأت العملية عندما وصل “فريق الاغتيالات أو كما أسماها الأعلام الجماهيري، إحدى المفارز الثورية” إلى القاهرة، حيث كانت المخابرات المصرية ومباحث امن الدولة في انتظارهم. وبسرعة نجحت في احتوائهم وذلك بتسريب عناصرها داخل الفرقة، والتي تمكنت بدورها بإقناع قائد الفرقة البريطاني جيل بقدرتها الفائقة بتنفيذ أي مهمة إجرامية.
وحُدد موعد تنفيذ الجريمة. وكانت الاتصالات الهاتفية ساخنة بين الفريق الضالع في تنفيذ الجريمة: البريطاني جيل وناجم والقذافي وأعضاء غرفة العمليات التابع لمكتب الاتصال باللجان الثورية بطرابلس، وكانت المخابرات المصرية وشركائها على علم بكل كبيرة وصغيرة. وفي يوم 16 نوفمبر وهو اليوم الذي حدد لتنفيذ الجريمة، نقلت عناصر المخابرات المصرية السيد عبد الحميد البكوش إلى مقابر الغفير بشرق القاهرة.
وقام “استوديو مصر” المختص في مكياج ممثلي وممثلات السينما المصرية بتنفيذ عمله، حيث لوثت ملابس السيد عبد الحميد البكوش ووجهه بالدماء باستخدام أكياس الدم، وتم توسيع عيني “الضحية” باستعمال قطرات البيلادونا (أتروبين). ثم التقطت صورة له والتي يبدو فيها وكأن السيد عبد الحميد البكوش جثة هامدة.
نقل “المتعاونون” الصورة إلى فرقة الاغتيالات، إلا أنهم أصروا على معاينة الجثة. وفي مقابر الغفير تأكدوا من أن الصورة تطابق الأصل، فدفع قائد المجموعة البريطاني جيل لكل متعاون مبلغ 30 ألف دولار، على أن يدفع باقي المبلغ المتفق عليه في ما بعد. وفي اللحظات الحاسمة قبيل ردم “الجثة” كانت الصفاد تحيط بمعاصمهم، حينها عرفوا بأنهم وقعوا في المصيدة التي لا مفر منها.
بعدها مباشرة أستقل أحد ضباط المخابرات المصرية الطائرة متجها إلى العاصمة المالطية ڤالـِتـّا، وفي جيب سترته دليل التصفية. وهناك سلم الصورة إلى مندوب القذافي علي ناجم بعد أن حوَل الأخير بتعليمات من البريطاني المعتقل جيل المبلغ المتبقي وهو أربعة ملايين ونصف مليون دولار إلى حسابه.
بعد انتهاء مراسم التسلم والتسليم استقل ناجم طائرة خاصة متجها إلى جزيرة كريت حيث كان القذافي في زيارة رسمية لليونان. وعند وصوله هناك كان معمر القذافي يهم بتناول طعام الغذاء مع الرئيس الفرنسي الراحل ميتران ورئيس الوزراء اليوناني الراحل باباندريو.
وكان ينتظر الصورة الموعودة بفارغ الصبر. وقد لاحظ من كان معه على المائدة المستديرة انفراج أساريره فجأة عندما دخل عليهم مندوبه علي ناجم، حيث ناوله ظرف كان يحمله معه. وازدادت أساريره انفراجا وهو يلقي نظرة على محتوياته. لم يحتفظ القذافي بالصورة، وإنما قام بإرجاعها إلى مندوبة ناجم بعد أن همس له ببعض الكلمات.
وأختفى المندوب فجأة كما وصل، لتجد الصورة طريقها بواسطة طائرة خاصة إلى مكتب الاتصال باللجان الثورية تم إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون بطرابلس، “لتبشر” العالم بإحدى إنجازات الفاتح العظيمة.
لقد سمعت في ذلك اليوم الخبر الذي بثه “صوت الوطن العربي” من طرابلس، وكان المذيع يصر على إظهار استمتاعه المطلق بقراءة الخبر، وأذكر أنه جاء على هذا النمط: “قامت اليوم مفارز اللجان الثورية بتصفية ال……. وأن ذراع اللجان الثورية طويلة وستصل لكل من……. أينما كان……. ووو إلخ”.
أما محطة تلفزيون النظام فقد روى من شاهدها حرص المخرج بعرض وجه “الضحية” على كامل مساحة الشاشة والذي كانت مخضبة بالدماء.
كان كل شيء يبدو عاديا. فقبل هذه العملية سقط العشرات من الليبيين قتلى نتيجة التحريض المستمر لمعمر القذافي بتصفية كل من يرفض الرجوع إلى فردوسه الأرضي، كانت ضحايا الاغتيالات تتساقط في روما وميلانو ولندن وبون وبرلين وأثينا وفاليتا ومكة، وكان عبد السلام جلود يصرح بعد كل جريمة، بأن هذه من أعمال اللجان الثورية وبأن العقيد القذافي ليس له أي سلطة أو سلطان عليها.
ولهذا تلقى العالم نباء “مقتل” السيد عبد الحميد البكوش على أنه إحدى هذه الحالات، وبات إلى حين إشعار آخر في عالم الأموات. إلا أن المفاجأة الصاعقة أتت مباشرة في اليوم التالي (17 نوفمبر) من السيد أحمد رشدي وزير داخلية مصر آنذاك، عندما خاطب ممثلي الصحافة العالمية المحتشدة في مؤتمر صحفي طارئ بقوله:
“سيداتي سادتي.. أنني أرحب بالسيد عبد الحميد البكوش” والذي دخل الصالة مبتسما وسط ذهول الحاضرين. وقد علق مراسل مجلة دير اشبيجل الألمانية على تلك اللحظات بأنه قد فقد وعيه لثوان، بعدها شعر بالغثيان عندما علم عن دور معمر القذافي شخصيا في التخطيط لهذه الجريمة.
عند سماع القذافي هذا الخبر مباشرة غادر وبصورة مفاجئة جزيرة كريت متوجها إلى مالطا والتي لم تكن ضمن برنامج زيارته الرسمية، تاركا ورائه راهباته الثوريات هناك والذي يحرص دائما على مصاحبتهن له. وقد وصف من شاهد حالته بأنه كان هائجا. وفي فاليتا تولى شخصيا إجراء التحقيقات لمعرفة الثغرات التي تمكنت من خلالها المخابرات المصرية من اختراق أجهزته.
لقد كانت فضيحة من العيار الثقيل لشخص يرى نفسه “مؤلف إنجيل العصر، والأممي والمفكر والفيلسوف”، حيث استطاعت المخابرات المصرية أن تثبت بالدليل القاطع، وأمام العالم أجمع بأن معمر القذافي متورط شخصيا في عمليات اغتيال المواطنين الليبيين بالخارج.
فصورة “القتيل” سُلمت إلى علي ناجم شخصيا، والذي سلمها بدوره إلى معمر القذافي باليد، ولم يكن يعلمان أنهما كانا تحت المراقبة الدقيقة لحركاتهما واتصالاتهما. وقد علق الرئيس الفرنسي الراحل ميتران على الفضيحة بقوله “إن مجرد تصور الجلوس على مائدة المافيا، لهو شيئا مقزز”.
بعد تحسن العلاقات الليبية المصرية:
ما حدث مع عبد الحميد البكوش بعد عودة العلاقات الليبية المصرية في أواخر الثمانيات وتوثيق العلاقات الأخوية بين مبارك والقذافي. حيث جرى التضييق على المعارضين الليبيين المقيمين في مصر. مما اضطر معظمهم إلى الرحيل عن مصر حفاظا على حياتهم وأمنهم.
بقي البكوش مقيما فيها رغم الشروط الجديدة التي وضعت ووافق عليها والتي منعته من مزاولة نشاطه السياسي أو الكتابة الناقدة لنظام القذافي حتى وصل الأمر إلى الطلب منه صراحة إلى مغادرة مصر.
فاضطر الرجل بعد نحو ربع قرن من الإقامة في مصر إلى مغادرتها في العام 2001 م واللجوء إلى الإمارات التي قبلت بإقامته فيها بشرط التوقف عن الكتابة في الشأن الليبي وعن ممارسة أي نشاط سياسي.
بعد أن أصيب بمرض عضال في الكبد أدخله منذ حوالي الشهر في غيبوبة لم يتمكن من الخروج منها حتى وافته المنية في إحدى مستشفيات الإمارات العربية في أبو ظبي، في الثاني من مايو 2007.
____________
المصدر: سالم الكبتي، “ليبيا… مسيرة الاستقلال… وثائق محلية ودولية”، الجزء الثالث–تكوين دولة، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2012.