عمر الكدي 

يؤكد عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته أن المجتمع البدوي لا يستطيع تكوين دولة، ولكن كل المجتمعات التي درسها ابن خلدون هي مجتمعات بدوية، وتمكنت من التحول من قبائل متشظية إلى دولة وفقاً لعصر ابن خلدون، وليس الدولة وفقاً للتصور الغربي، أي ما بعد معاهدة ويستفاليا، وهو التصور الذي عبر عنه بالعصبية القبلية والدعوة الدينية والغنيمة.

ولكن عندما نعلم أن الدعوة الدينية جاءت من خارج النظام البدوي، ندرك ما يقصده ابن خلدون، وهي نفس النتيجة التي يصل إليها ماركس عام 1885، عندما أطلق على المجتمعات الآسيوية والأفريقية «نمط الإنتاج الآسيوي»، بل إن ماركس التقدمي بارك احتلال فرنسا للجزائر، باعتبار أن النظام المغلق لا يمكن كسره إلا من خارجه، وهو الموقف الذي سيرفضه الماركسيون في الأممية الثانية والثالثة عندما دعوا إلى إنهاء الاستعمار.

في ليبيا تمكن محمد بن علي السنوسي من كسر النظام البدوي من خارجه، عندما نشر دعوته الدينية بين البدو وتحاشى نشرها في المدن، وأقام سلسلة من الزوايا لتحقيق هذا الهدف.

هذا النظام قديم يعود إلى صدر الإسلام، بل إن الإسلام نفسه هو ترجمة صادقة لنظرية ابن خلدون، وإن تحاشى ابن خلدون ذكر ذلك في مقدمته خوفاً من رد فعل الفقهاء وهو يعيش بالقرب منهم في تونس والمغرب والجزائر ومصر.

النظام المغلق انكسر عندما احتل الاستعمار الغربي كل الوطن العربي، وكنت دائماً أتذكر ما كان يردده أقاربي من أمثال، ومن بينها مثل ظلوا يرددونه حتى بعد أن تحول سهل جندوبة في غريان، إلى أخصب سهل في الجبل الغربي.

يقول المثل «عمرت جندوبة ونبحوا كلابها»، ويضرب المثل للشيء المستحيل، مثل المثل العربي «الغول والعنقاء والخل الوفي».

فقبل وصول الطليان كانت جندوبة مكاناً لرعي الماشية يفصل بين أراضي غريان وأراضي الأصابعة، وبعد وصول الطليان تحولت جندوبة إلى أكبر مشروع زراعي في المنطقة، حيث زرعت فيه آلاف أشجار الزيتون واللوز، وخصصت بقية المساحة لإنتاج أجود أنواع القمح الصلب، وفي إحدى زيارات القذافي لجندوبة حيث كانت له استراحة هناك، قدم له الأصابعة تفاحاً من النوع الممتاز، فأمر بزراعة تلك المساحات التي تنتج القمح بأشجار تفاح.

واليوم لا توجد شجرة تفاح واحدة في المشروع، باستثناء شجرة زرعها القذافي بنفسه، وخصص لها مدير المشروع أحد العمال للعناية بتفاحة القائد. هذا فقط مثال على أن النظام المغلق لا يكسر إلا من خارجه.

جاء الأوروبيون بالحداثة وبأساليب إنتاج لم نعهدها، فقبلنا منتجات الحداثة ورفضنا مبادئ الحداثة، فخسرنا الحداثة وتحولنا إلى مجتمع استهلاكي لمنتجات الحداثة وخاصة بعد تصدير النفط، وهكذا لم نتمكن من إعادة تأسيس الدولة ما قبل معاهدة وستفاليا، أي الدولة الوطنية المدنية ليس فقط في ليبيا وإنما في كل المنطقة.

والربيع العربي كشف هذا العجز الذي لا يمكن تجاوزه إلا بالغلبة وفقاً لابن خلدون، أي إعادة بناء الدولة التقليدية تحت حكم مستبد عسكري أو تحت حكم أمير المؤمنين أو زعماء الميليشيات.

فالدولة المدنية الحديثة تحتاج أولاً للقبول بمبادئ الحداثة وليس فقط منتجاتها، وفي مقدمة هذه المبادئ حرية الإيمان والاعتقاد والمواطنة والفصل بين السلطات وحرية التعبير والتداول السلمي على السلطة، وهو ما يبدو مستحيل الحدوث في المستقبل المنظور.

قادت التحولات في أوروبا الطبقة البرجوازية، وهي التي صممت الدولة على مقاسها، بينما هذه الطبقة لم توجد في ديارنا حتى الآن؛ بل إن الدولة بعد الاستقلال هي من صنع هذه البرجوازية ولهذا ظلت طبقة ضعيفة وخارج التاريخ.

فالبرجوازي الليبي لا يختلف عن شيخ القبيلة. تجد أمام بيته الفخم عدة سيارات، وتجد في بيته أفخم الآثاث ولكن لن تجد فيه مكتبة.

وفي اللهجة الليبية يطلق على الصفقة اسم «الضربة»، فيقال فلان ضرب ضربته واطلع، وهذا ينطبق على كل من صنع ثروة في عهد القذافي وبعده، ويبدو أن كلمة «ضربة» جاءت من التقاليد البدوية عندما تغزو القبائل بعضها وتنهب كل شيء، ومن ثقافة قطاع الطرق الذين يهاجمون القوافل التجارية في الصحراء، ومن ثقافة القرصان البحري الذي يضرب بسيفه ليحصل على الغنيمة.

أي أن كل أنماط الإنتاج في ليبيا تعتمد على الضربة المفاجئة لصنع الثروة، بالوصول إلى السلطة أو بتكوين مليشيا تهيمن على المكان وتبتز من يعيش هناك بالخطف والإخفاء القسري وحتى بالقتل، وهذا ما نلاحظه يومياً في كل أنحاء البلاد.

انهارت الطبقة الوسطى عدة مرات في معظم البلدان العربية، وهي لا تعادل الطبقة البرجوازية في الغرب، وإنما هي طبقة متعلمة تحصل على رزقها من الدولة، وتنتج الثقافة والمعرفة والفن.

وهذه الطبقة كانت موجودة في المدن الليبية، قبل أن يطبق القذافي اشتراكيته، ليس لتوزيع الثروة بشكل عادل كما فعل عبد الناصر بقانون التأميم والإصلاح الزراعي، وإنما لأن القذافي رأى أن هذه الطبقة تشكل خطراً على انفراده بالسلطة، وأن يتحول الجميع من المحامي والطبيب والمهندس والمعلم والمهني والتاجر إلى أجير يستلم راتبه في نهاية الشهر من ريع النفط.

واليوم ربما لا نزال نردد المثل نفسه «عمرت جندوبة ونبحوا كلابها»، وأخشى أن ينهار كل شيء في مشروع جندوبة وفي مشروع الخضراء في ترهونة، فمشاريع القذافي الزراعية انتهت تقريباً جميعاً إلى فشل ذريع.

ولم تبق إلا شجرة التفاح الوحيدة التي غرسها بنفسه، وقد تكون انقرضت مثل نخلة التحدي التي غُرست بعد الغارة الأميركية أمام مبنى القبة الفلكية والتي لم يبق منها عند خروجي من البلاد إلا لافتة يعلوها الصدأ كتب عليها «نخلة التحدي».

____________

مقالات