يتأرجح الليبيون بين قيود انقسام طال لأكثر من عقد منذ سقوط نظام القذافي، وآمال متجددة بالوحدة مع كل مبادرة سياسية أو وساطة خارجية، أو أي تغيير أمني وعسكري يطرأ على البلاد.

وبين هذين المسارين، تبقى الأسئلة معلقة منذ أكثر من 14 سنة وحتى اللحظة: هل ينطلق قطار السياسة الليبي من محطة الجمود نحو مسار جديد؟

اليوم، تبدو الإجابة أكثر تعقيداً عن أي وقت مضى؛ إذ يترسّخ اختلاط الأوراق بين ترتيبات أمنية وعسكرية متباينة شرقاً وغرباً، وسباق إقليمي ودولي يواصل مد خيوطه داخل الجغرافيا الليبية يدفع ثمنه المواطن الليبي.

تذهب تقديرات مؤسسات بحثية دولية حديثة إلى أن الأزمة الليبية تجاوزت الانقسام السياسي. إذ تشكلت سلطات موازية ومؤسسات اقتصادية ومالية متنافسة، مع صراع على الموارد النفطية، ما جعل الخلاف السياسي حالة مؤسّسية مستمرة وطويلة الأمد، وهي رؤية تتشاطرها مجموعة «الأزمات الدولية» ومعهد «الولايات المتحدة للسلام».

في معسكر غرب ليبيا، شهدت الأشهر الأخيرة تطورات متسارعة، حيث تسيطر فصائل مسلحة متناحرة على النفوذ والتمويل، من دون قيادة موحّدة رغم تبعيتها الشكلية للسلطات الرسمية.

وتظل طرابلس مسرحاً بارزاً لانعكاسات هذا الانقسام الليبي، على الرغم من الاتفاق الذي رعته تركيا بين حكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة وقوات موالية لها، وميليشيات «جهاز الردع»، بعد 3 أشهر من قتال دامٍ وحالة استنفار عسكري.

التفاهمات تبدو مؤقتة

ومن جهة أخرى، مع أنه بُذلت محاولات لإعادة توزيع النفوذ عبر تحشيدات للميليشيات المتناحرة وتصعيد متبادل، فإن هذه التفاهمات تبدو مؤقتة في نظر محللين، ذلك أن أي تغير طفيف في موازين القوى قد يفجّر الموقف مجدّداً.

وأمام ذلك ينتظر جُل الليبيين مغادرة قطار السياسة محطة «المرحلة الانتقالية» إلى حالة من الاستقرار تكسر الجمود المسيطرة على البلاد. فمن جانب، حكومة الدبيبة تسوّق الاتفاق الذي أُبرم مع «جهاز الردع» بوصفه نجاحاً في «إضعاف نفوذ الميليشيات»، لكن مراقبين محليين يشككون في استمراره، طالما ظلت التركيبة الميليشياوية قائمة في التركيبة المسلحة.

وهنا يستشهد مراقبون بما وقع سابقاً من مواجهات دامية انتهت بمقتل عبد الغني الكيكلي (غنيوة)، قائد ميليشيا «دعم الاستقرار» في مايو الماضي، ثم اندلاع قتال عنيف مع «الردع»، وهو ما كشف هشاشة الترتيبات الأمنية.

النافذة الدولية

في الحقيقة، لم تتوقف ليبيا فقط عند محطة التغييرات العسكرية المتسارعة، بل إن قطار السياسة يبحث عن فكاك من قيود الانقسام عبر نافذة دولية. ذلك أن المبعوثة الأممية هانا تيتيه، تصرّ على المضي في مسار «خريطتها» التي قُدمت أمام مجلس الأمن الدولي يوم 21 أغسطس لإنهاء الأزمة السياسية.

بيد أن ردود الفعل حول هذه الخطة الدولية جاءت متباينة؛ فقد رآها البعض وبجداولها الزمنية – «فرصة تاريخية» لإنقاذ ليبيا، بينما اعتبرها آخرون طموحة إلى حدّ المبالغة وقد تصطدم بواقع سياسي معقد تغذيه التدخلات الخارجية.

يشار إلى أن الخطة الأممية تتضمن تعديلات دستورية محدودة تسمح بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة، مع إعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات وضمان استقلاليتها، وتشكيل حكومة موحَّدة خلال شهرين، إلى جانب إطلاق حوار وطني يضم القوى السياسية والمجتمع المدني.

أما عن اللجنة الاستشارية الليبية للأمم المتحدة، التي أسهمت في تمهيد الطريق لخريطة تيتيه، فهي تتمسك بتفاؤل مفعم بالثقة من نجاح هذا المسار. وهو ما أظهرته تصريح جازية شعيتير، عضوة اللجنة لـ«الشرق الأوسط»، حين رأت أن «المسار الأممي يمضي بخطوات محسوبة نحو هدفه، رغم ما يكتنفها من تحديات». بل وكشفت عن أن «مختلف الأطراف المعنية بالصراع الليبي تنشغل حالياً بإعادة ترتيب أوراقها واستعداداتها، في محاولة للتأقلم مع المرحلة المقبلة وتنفيذ ما تتطلبه الخطة».

الدور الأميركي حاضر

في زاوية أخرى من المشهد الليبي، كان الدور الأميركي يسجل حضوره المتصاعد، بالنظر إلى «لقاء سري» عُقد في روما بين صدام حفتر وإبراهيم الدبيبة مستشار الأمن القومي للدبيبة يوم 3 سبتمبر برعاية مستشار الرئيس الأميركي مسعد بولس.

وحتى اللحظة، ظلّت أجندة «لقاء روما» غير واضحة، رغم ما كشفته مجلة «جون أفريك» عن تطرق المباحثات إلى ملفات معقدة، أبرزها موقف حفتر من صراع طرابلس ومستقبل إدارة قطاع النفط.

وفي مقابل أنباء تسربت عن تفاهمات أولية لدمج الحكومتين في شرق ليبيا وغربها، فإن غياب التأكيد الرسمي زاد الغموض، في حين اعتبر مراقبون أن هذه المؤشرات قد تكون مجرد «مناورات سياسية» لا تتجاوز حدود التسريبات.

هذه أيضاً كانت وجهة نظر الباحث عبد العزيز غنية، الذي قال إن «الأطراف الليبية تتقن لعبة المراوغة»، مرجحاً «فشل سيناريو دمج الحكومتين»، لا سيما أن «الانقسامات داخل معسكر طرابلس عميقة ولا تسمح بتحقيق تسوية سياسية حقيقية في المرحلة الراهنة».

…..

يتبع

_____________

مقالات