في عصر تسود فيه الانقسامات الثقافية في النقاش العام، يقدم مراد بالحاج رؤية أعمق وأكثر إثارة للتأمل.

هذا الفنان الليبي البريطاني من أصول أمازيغية وعربية، لا يتبنى مواقف متشددة، بل يعبر عن أفكاره عبر لوحاته، حيث تحمل كل لوحة رسالة دقيقة مفادها أن ما يجمعنا كبشر أعمق بكثير مما يفرقنا.

يقول: “أحاول أن أعبر بما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه. أريد أن أظهر أننا أكثر تلاحمًا مما نظن“.
ولد بالحاج في طرابلس، وتأثر بثلاث بيئات:

  • شوارع مدينة طرابلس القديمة،

  • وجبال نفوسة الصخرية،

  • والسماء الرمادية في بريطانيا.

كل بيئة منحتّه شيئًا فريدًا نسيجًا، وهدوءًا، ونظرة عالمية. لا يضعهن في تناقض، بل يدمج بينهن في أعماله الفنية.

قد تبدو لوحة فتى يحمل رُمانًا بسيطة مشهد يومي في طرابلس. لكن هندستها تعكس عمقًا في الفن الأمازيغي، وألوانها تحمل طابعًا شماليًّا، وإطارها يعكس هدوء الفن الأوروبي.

النتيجة: عمل ليبي أصيل، ولكنه عالمي في جوهره.

لا يهتم بالحاج بإعلان هويته، بل بكشفها. لا يسعى بلوحاته إلى لفت الأنظار، بل إلى إثارة التأمل.

يقول: “لا أؤمن بالتعصب، بل بالتنوع. هذه هي روح الثقافة. وهذه هي روح الإنسان“.

هذه ليست مجرد نظرية، بل موقف نابع من تفكير عميق. يستلهم بالحاج أفكاره من دراسته المستمرة للفلسفة وعلم الاجتماع وتاريخ الفن مجالات يعتبرها أساسية لدور الفنان في المجتمع. من خلالها، يستكشف مفهوم الهوية الإنسانية الشاملة التي تقبل الجميع وتُقبل من الجميع.

هدفه ليس مجرد الرسم الجيد، بل التفكير العميق، وبناء لغة بصرية تتجاوز الحدود والتحيزات.

ينعكس تفكيره في أسلوبه في الرسم: الصبر، والتأمل، والابتعاد عن السذاجة.

لوحاته ليست مجرد رسوم، بل هي تأملات عميقة.

جزء كبير من هذا الحس المرهف يرجع إلى جذوره الأمازيغية. غالبًا ما يتحدث في حواراته عن معالم الهندسة المعمارية في الجبال منازل مبنية من الحجارة المحلية، وجدران تشكلها الرياح والضرورات الحياتية، دون أي تبذير.

يقول: “لم نُجبر الطبيعة على شيء، بل تعاملنا معها بحكمة“. هذا المبدأ، الذي ينص على أن الشكل يجب أن يتناسب مع الطبيعة، يُشكّل طريقة تفكيره سواء فيما يتعلق بالمباني أو الناس.

أصبح هذا الانتباه العميق مبدأً أساسياً في حياته. لا يُجادل، بل يلاحظ.

لا يرسم لوحات تُعبّر عن استنتاجات، بل عن أفكار مفتوحة.

يتجنب المواضيع العامة ويُركز على التفاصيل البسيطة والإنسانية:

يد امرأة تضخ الماء، حصان يغير اتجاهه على درب ريفي، ضوء الشمس على جدار شجرة زيتون. هذه ليست مشاهد زخرفية، بل هي تعبير عن الانتباه.
يقول: “لا تحتاج اللوحة إلى أن تكون صاخبة لتُعبّر عن نفسها، بل يكفي أن تكون موجودة، صادقة، ومفتوحة“.

ينعكس هذا النهج لدى بالحاج في حواراته مع الآخرين. يؤمن بأهمية التنوع في المجتمع، ويعمل على إدماج هذه القيم في رسوماته وكتاباته وحواراته.

يتحدث باستمرار مع الطلاب والمفكرين والفنانين الآخرين عن أهمية المشاركة الحضور والاستماع والإبداع خارج الأطر التقليدية. بالنسبة له، دور الفنان ليس فقط الرؤية، بل مساعدة الآخرين على الرؤية، وإبراز ما يجمع بين مختلف الثقافات.

يطبق بالحاج هذا المبدأ على ليبيا بحرص شديد. وطنيته ليست رمزية، بل راسخة في الذاكرة والإيماءة وطريقة النظر.

بالنسبة له، ليبيا حاضرة في رائحة زيت الزيتون على المدفأة الشتوية، وشكل باب في غريان، وصوت الناي التقليدي عند الغروب. هذه ليست ذكريات رومانسية، بل هي أرشيف حي.

يقول: “نحن أغنى مما نظن، لكن علينا أن ننظر بعيوننا الخاصة، لا بعيون تُركز فقط على الصراع“.

في نظر بالحاج، ليبيا ليست مسألة إما/أو. إنها بلد متعدد الطبقات عربية، أمازيغية، متوسطية، صحراوية وقوتها تكمن في هذا التنوع.

يعكس فنه هذا المعنى: إنه لا يسعى إلى رسم صورة ثابتة للهوية، بل إلى تجسيدها في صورة متغيرة. ليس هدفه الترويج لأفكار معينة، بل إلهام المشاعر.

يقول: “في النهاية، ما أهدف إليه هو رسم صورة لما أتمنى أن تتذكره ليبيا عن نفسها“.
لا توجد هنا شعارات، ولا ادعاءات بالحق المطلق. إنما هو فنان، وقلم، وإصرار على عدم اختزال تاريخ دولة في صورة واحدة.

بين يدي مراد بالحاج، ليبيا لا تُفسّر ، بل تُرى.

***

بعض من لوحات الفنان مراد بالحاج

________________

مقالات