عمر الكدي 

يركز نمط الإنتاج التجاري والزراعة المروية في طرابلس ومصراتة ودرنة، على التعليم أكثر من غيره من أنماط الإنتاج، والسبب أن هذا النمط يستطيع تحقيق وفرة تكفي لتعليم الأبناء.

وهذا ما حدث مع محمد بن غلبون، الذي ولد في مصراتة أواخر القرن السابع عشر، وعاصر مؤسس الدولة القرهمانلية أحمد باشا، ودرس ابن غلبون في كتاتيب وزوايا مصراتة ثم طرابلس، قبل أن يكمل تعليمه الديني في الجامع الأزهر في القاهرة، وعاد إلى مصراتة ليؤسس زاوية اهتمت بالتعليم.

وترك لنا كتاب «التذكار في من ملك طرابلس وما كان بها من أخبار»، وهو كتاب يبدأه بشرح قصيدة لعبد الدائم الأنصاري، يرد فيها على ما كتبه الرحالة المغربي العبدري وهجائه لطرابلس، حيث يقول «ثم وصلنا طرابلس وهي للجهل مآتم ما للعلم بها عرس، اقفرت استولى عليها عربان البر ونصارى العجم النفاق والكفر، وتفرقت عليها الفضائل تفرق الحجيج يوم النفر»، ولكن الكتاب يسجل لنا أول تاريخ مكتوب عن طرابلس الغرب.

وفي آخر العهد القرهمانلي ظهر حسن الفقيه حسن في طرابلس ليكتب يومياته الليبية، وحملة نابولي على طرابلس، وتولى الفقيه حسن القضاء في طرابلس، وظلت أسرته تعطي لليبيا المتعلمين والتكنوقراط آخرهم إبراهيم الفقيه حسن الذي كان أول مدير لصندوق الضمان الاجتماعي في عهد المملكة.

وفي العهد العثماني الثاني برز اسم المؤرخ أحمد النائب الأنصاري ذي الصول الأندلسية، ومؤلف كتاب «المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب» والذي عاش بين العامين 1840 و1918، وتولى منصب عميد بلدية طرابلس، وله أيضاً كتاب «نفحات النسرين والريحان فيمن كان في طرابلس من الأعيان».

وساهمت زليتن بالشاعر والفقيه أحمد الشارف المولود العام 1864،

وساهمت الزاوية بالمؤرخ والفقيه ومفتي ليبيا الشيخ الطاهر الزاوي المولود العام 1890،

وساهمت بنغازي بالشاعر أحمد رفيق المهدوي المولود العام 1898،

وساهمت درنة بالشاعر إبراهيم الأسطى عمر المولود العام 1908، وهو حفيد لعميد بلدية بنغازي في العهد العثماني الثاني، وجميعهم ينتمون لنمط الإنتاج المديني ولعائلات تولى أبناؤها مناصب عليا في الإدارة، وقادرون ماديا على تعليم أبنائهم.

في الزمن الاستعماري استفاد بعض الليبيين من المدارس الإيطالية، التي تخرج منها مجموعة من التكنوقراط والمثقفين، الذين اعتمدت عليهم دولة الاستقلال، مثل أول رئيس للوزراء محمود المنتصر، وعبد الرزاق شقلوف، ووهبي البوري، وخليفة التليسي، وفؤاد الكعبازي وحسين مازق ومحيي الدين فكيني وغيرهم.

ثم عاد من المهجر بشير السعداوي، ومصطفى بن حليم، والشيخ علي مصطفى المصراتي، ومصطفى بعيو.

وبعد الاستقلال لم يكن هناك أكثر من عشرة ليبيين يحملون شهادة جامعية، ولذلك كان من الضروري تأسيس الجامعة الليبية العام 1955 في قصر المنار ببنغازي، ابتداء من كلية الآداب التي ضمت 31 طالباً، وكان جميع الأساتذة من مصر على نفقة الدولة المصرية.

ثم تأسس فرع للجامعة في طرابلس في العلوم التطبيقية، كما أوفدت الدولة بمواردها المحدودة العديد من الطلبة إلى مصر وأوروبا، ومن هناك عاد الهادي بولقمة وعبد المولى دغمان، وعبد الحميد البكوش، وكامل حسن المقهور.

وعندما وصل القذافي إلى السلطة وجد قاعدة عريضة من المتعلمين والتكنوقراط، مقارنة بما وجده الملك إدريس، فانتقلت القيادة من نمط الإنتاج المديني إلى نمط الإنتاج البدوي، حيث الولاء أهم من الكفاءة وبالتدريج انهار التعليم، ودمرت روح الإبداع والمهنية في الشخصية الليبية.

ففي السبعينيات وبعد أن فشل جلود في شراء قنبلة ذرية من الصين، وعندما قال له رئيس وزراء الصين شواين لاي، إن السلاح النووي ليس للبيع ولا للاستخدام إنه فقط للردع الاستراتيجي، طلب منه جلود ولو قنبلة صغيرة، وعندها قرر القذافي إيفاد آلاف الطلبة إلى الولايات المتحدة لدراسة الذرة، ومن حسن الحظ لم ينجح هؤلاء في صناعة القنبلة الذرية، وإلا لكانت استخدمت مثلما استخدم بشار الأسد السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة.

كان قادة الانقلاب مجموعة من الشباب الجاهل الذين لم يتعد مستواهم التعليمي الشهادة الثانوية، حتى أن بشير هوادي عندما سألوه لماذا سجنت الدكتور المصري عبد الرحمن بدوي، أجاب أنهم يقولون أنه وجودي والعياذ بالله.

وبعد ما عرف بالثورة الثقافية ابتعد أصحاب الشهادات العليا وأصحاب الكفاءات، وحل محلهم الأفاقون فالممرض أصبح مديراً للمستشفى، والجامعة يسيطر عليها صبية اللجان الثورية، الذين لم يتركوا إلا مشانقهم كل سبعة أبريل.

واليوم يقود الإدارة الليبية نفس الأشخاص، مع توليفة من جميع أنماط الإنتاج، بعضهم يحمل شهادات مزورة، وبعضهم تحصل على شهادة عليا من أوروبا الشرقية برشوة أستاذ كتب له رسالة الدكتوراة، وبعضهم تحصَّل على شهادة من إحدى الجامعات الأميركية ولا يتحدث الإنجليزية.

_____________

مقالات