عمر الكدي
لا يفضل الليبي في كل أنماط إنتاجه المشاركة، ويفضل العمل منفرداً وفقاً للمثل الموجود في كل أنحاء ليبيا «الشركة تركة»، ولكنه في نفس الوقت لا يتمتع بروح فردية واضحة، ويخضع خضوعاً كاملاً لقيم الجماعة وطريقتها في التدين، حتى ولو كان غير مقتنع بهذه القيم. يقول المثل «كول زي ما تبي والبس زي ما يلبسوا الناس».
حتى في المدينة، العمل فردي وفي أحسن الأحوال عائلي والحياة جماعية، كل الحرف التقليدية يديرها شخص واحد وقد يساعده ابنه، الذي سيرث المهنة والمحل والصيت.
المشاريع في طرابلس القديمة كانت صغيرة. خباز، حلاق، سنفاز، صائغ، حداد، خياط، قهواجي، بقال، وغيرها.
في الستينيات بدأت الرأسمالية الوطنية الناشئة تتوسع في مشاريعها:
- افتتح بن بركة مصنع النسيج في بوهريدة،
- وبنى بن ساسي فندق الشاطئ وقصر ليبيا،
- ونوع محمد الفرجاني مشاريعه،
- وطاطاناكي وانقا والنايض وإبراهيم حافظ وغيرهم.
ولأول مرة نرى الليبيين يعملون كفريق، بالإضافة إلى العاملين في صيد السمك فقد كانوا يعملون بروح الفريق، وبعد ظهور النفط استثمر بعض من أهل مصراتة وزليتن في شاحنات نقل البضائع، ورأيناهم يخرجون بشاحناتهم المحملة بالبضائع ليوصلوها إلى قلب الصحراء.
وفي كل شاحنة يوجد صبي يعمل مساعداً للسائق، وفي كل المهن ثمة صبي يتعلم من «عرفه» بطريقة فيها صرامة وعنف، وعادة يعاقب الصبي في مهنته أكثر من البيت وبمباركة من عائلته، وهكذا تتكون الشخصية الخانعة والمستكينة.
ولكن فجأة جاءت ريح عاتية من الصحراء وردمت كل شيء، وعادت المهن في زمن القذافي فردية جداً، بعد أن أصبح البيت لساكنه والسيارة لمن يقودها، بالرغم من أن الحركة الكشفية وأندية كرة القدم حاولت غرس روح الفريق بين الليبيين، ولكن زعيمهم الجديد منع حتى النجومية وأسماء لاعبي الكرة، وسمح بإذاعة أسماء الخيول في مسابقة الفاتح للفروسية.
كان العمل في الأرياف والبوادي جماعياً ولكنه موسمي ومحدود، وتحديداً في موسم الحرث والدرس وجز الصوف، وما يطلق عليه في الريف الغربي بـ«الرغاطة» وهو عمل تطوعي ليس عليه أجر، باستثناء ما يجود به صاحب الزرع والماشية بأكل وشاي، وهو عمل تبادلي أي أساعدك وتساعدني، وأعطيك حماري لتدرس به سنابلك مقابل أن تعطيني حمارك عندما أدرس.
غير هذا لا يوجد عمل جماعي على مدار السنة، ويبدو العمل الجماعي بين النساء أكثر رسوخاً وتنظيماً من عالم الرجال، ولكنه مقتصر على المناسبات الاجتماعية والدينية. طبخ لأعداد كبيرة من الضيوف وإعداد الكعك والحلويات، وأيضاً المساعدة في تجهيز المسدى. بينما يكتفي الرجال بتقطيع اللحم على المفاصل وإخراج الطعام إلى المدعوين.
وفي الواحات يبدو العمل الجماعي أكثر وضوحاً ورسوخاً منه في باقي أنماط الإنتاج، وخاصة في موسم جمع التمور وفي موسم تلقيحه ولكنه أيضا موسمي، ثم لا تشاهد إلا الجبّاد وهو يقود الجمل في رحلة تشبه رحلة سيزيف بين البئر والجابية.
يسرع الليبيون للتجمع في المناسبات الدينية. في صلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الجنازة وصلاة الاستسقاء، وفي الأفراح والمآتم حيث يتطوع البعض لختم القرآن على روح الميت.
يرسلون الدعوات بسخاء إلى السماء لتحجبها الغيوم، ويدعون للموتى بالمغفرة ثم يخلعون روح الفريق، ويقولون «الشركة تركة» وهو ما يلائم حاكمهم الذي حكمهم من خيمة في قلب المدينة، أو حكامهم السابقين الذين حكموهم من السرايا الحمراء.
وعندما اختفى الحاكم الأخير وخيمته لم يترك وراءه شيئاً، وعندما حاولوا إعادة بناء الدولة من الصفر تقريباً غابت عنهم روح الفريق.
وطبعا لا يمكن بناء دولة حديثة ومدنية بدون روح الفريق، فالدولة الحديثة آلة عملاقة وكل موظف في الدولة هو مجرد ترس في هذه الآلة إذا تحرك يحرك غيره فتعمل الآلة، فإذا أضفنا صفة أخرى إلى صفة العناد في الشخصية الليبية فإن هذه الآلة المزعومة لن تعمل، فالشخصية الليبية في كل أنماط إنتاجها تتصف بالوثوقية والصوابية، فهي واثقة من أنها على صواب في رأيها وغيرها على خطأ.
حتى في التخصصات الدقيقة لا يتردد الليبي العادي في أن يقول لك هذا الطبيب أفضل من ذلك الطبيب، ويدلو بدلوه في كل شيء بثقة عالية، وقد قابلت أشخاصاً في ليبيا وخاصة بعد عودتي العام 2012 فكانوا يسألونني سؤالاً ثم يندفعون في الإجابة على نفس السؤال.
في البداية فسّرت ذلك على أنهم لم يتعودوا التعبير عن آرائهم في ظل حاكم يفهم في كل شيء، وبعد اختفاء الطاغية أخذ الجميع يتكلم في وقت واحد، ولكن بعد متابعتي للنقاشات في المؤتمر الوطني ثم في مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وعلى القنوات الفضائية وخاصة المحللين السياسيين، وعلى الفيس بوك وصفحات التواصل الاجتماعي.
وعندما رأيت مقدم البرنامج في التلفزيون يتكلم أكثر من ضيوفه مجتمعين، أدركت أن هذه الصفة هي صفة وطنية بامتياز وتكاد توحد كل أنماط الإنتاج، التي فرقت بينها البيئة ومعدلات المطر والثقل القبلي.
________________