د. أحمد عبد الله شكاب

عن ليبيا التي نَسِيَتْ أن تغضب أتحدث.

في غياب الوعي الجمعي، يتحول الفساد من جريمة إلى ثقافة، ومن استثناء إلى قاعدة تحكم تفاصيل الحياة الليبية.

أيها الحالمون بـ ليبيا الدولةاهبطوا معي قليلا إلى الأرض: فليبيا اليوم لا تعاني فقط من فساد مالي وإداري، بل من أزمة وعي أخلاقية وفكرية أعمق بكثير من كل القوانين التي وُضعت لمحاربته. فالفساد لم يعد سلوكا شاذالبعض المسؤولين، بل صار جزءاً من نسيج الحياة اليومية، ومن طريقة التفكير التي تحكم العلاقة بين المواطن والدولة، والمسؤول بالسلطة، والمال العام بالمصلحة الخاصة.

في غياب الوعي، تسقط الأخلاق، ويصبح الفساد مهارة اجتماعية تقدر وتكافأ، لا جريمة تدان؟

لم يعد الفساد مجرد تجاوز فردي أو خلل في أداء المؤسسات، بل تحول إلى منظومة ثقافية راسخة تعيد إنتاج نفسها مع كل حكومة جديدةورغم تعاقب الشعارات عن محاربة الفسادإلا أن الواقع يزداد سوءًا.

السبب ليس في القوانين ولا في غياب الأجهزة الرقابية، بل في ضمور الوعي الجمعي، وفي تطبيع الناس مع الفساد حتى صاروا يرونه ذكاءً ودهاءً، ويرون الأمانة ضربا من السذاجة.

وكيف ننتظر من مؤسسات يغلب عليها الولاء القبلي والشخصي أن تنتج عدالة مؤسسية؟ وكيف نطلب من قضاء مرهق ومرتبط بالسلطة أن يحاكم فسادها؟ وكيف نرجو من مجتمع فقد القدرة على التمييز بين الفضيلة والاحتيال أن يقيم دولة قانون؟

في الإدارة العامة تُقاس الكفاءة بقدرتك على تسيير الأمور، لا الالتزام بالنظام؟ وفي القضاء، تفصَّل العدالة حسب المقاس السياسي.

أما الأجهزة الرقابية، فكثيرا ما يتحول حُراسها إلى شركاء في ما يفترض أن يمنعوه، تحت لافتات الضرورةو المصلحة الوطنية“. لقد أصبح الفساد في المخيال الشعبي الليبي ذكاءً اجتماعيًا لا جريمة.

من يتحايل على النظام يُمدح بأنه شاطر، ومن يرفض الرشوة يوصم بالسذاجةتحوّل الانحراف إلى عرف وتحوّل القانون إلى ديكور شكلي لا يخيف أحدًا.

وفي مثل هذه البيئة، يستحيل الإصلاح، لأن الإصلاح لا يبدأ من النصوص القانونية بل من ضمير الجماعة.

نرى مسؤولا ينهب الملايين باسم الإعمار، ومواطنا بسيطا يسرق التيار الكهربائي من الشبكة العامة ثم يلعن الفاسدين في المساءنسمع عن لجان رقابة تصدر تقارير صارخة، ثم تدفن في أدراج الصمت كأنها وثائق من عالم الخياليقال إن القانون فوق الجميع، لكن الجميع يعرف أن من يملك السلاح والنفوذ هو القانون ذاته.

لم يعد الفساد مؤامرة تحاك في الظلام، بل ثقافة تدرّس في العلن. يتعلمها الطفل حين يرى والده يدبر الأمور“. ويتقنها الشاب حين يدخل دهاليز الوظيفة العامة فيدرك أن الطريق المستقيم لا يؤدي إلى شيء.

ثم تلوم المؤسسات وكأنها كائنات منفصلة عنا، بينما هي انعكاس لوعينا، ولصمتنا، ولرضانا المبطن

في عمق المشهد الليبي، يكمن السؤال الأخطر:

هل نريد فعلا الخلاص من الفساد، أم أننا نخاف فقدان الامتيازات الصغيرة التي يمنحنا إياها؟

هل نحن ضحايا منظومة الفساد، أم حرّاسها الصامتون الذين يلعنونها في العلن ويخدمونها في الخفاء؟

نحن نعيش زمنًا غريبًا

زمناً يكافأ فيه الماكر ويسجن فيه النزيه داخل ذاته، زمنًا يلعن الفساد في خطبه ويمارسه في حياته اليوميةولذلك، فإن أول إصلاح تحتاجه ليبيا ليس في وزارة أو حكومة جديدة. بل في ضميرها الجمعي الذي نسي كيف يغضب بشرف.

فمن دون يقظة فكرية ومراجعة للذات، سنظل نحلم بدولة العدالة ونحن نحيا في غابة المصالح. ولإن الغابات لا تعرف الشفافية، سيبقى شعار محاربة الفسادمجرد أناشيد صباحية لبلد اعتاد أن يغسل وجهه بالكذب كل يوم، ثم يخرج مبتسما كأن شيئًا لم يكن.

إياك أن تظن أن الفساد يُهزم بالقوانين أو بالمحاكم، فإنه حين يستوطن الوعي، ويسكن العيون حتى تعتاده، ويغزو القلوب حتى تكبر عليه، وتنسى معه النفوس طعم الطهارة والنقاء فلا مجال حينها لاستئصاله إلا بـ ثورة وعيعميقة في النفوس، راسخة في الأفكار والمبادئ، تسندها يد قانون لا يحابي، وقضاء لا يهادن 

وإلى ذلك الحين دمتم بود..

_____________

مقالات