كريمة ناجي  

روسيا سبقت الولايات المتحدة الأميركية بتعزيز وجودها داخل الأراضي الليبية، وذلك باحتلالها قواعد عسكرية استراتيجية، إضافة إلى تمددها نحو قاعدة معطن السارة في أقصى الجنوب الشرقي من ليبيا القريب من السودان ومصر.

دفعت الولايات المتحدة الأميركية بثقلها الدبلوماسي للعودة إلى ليبيا، التي تطل على الجناح الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، حيث يتمركز حلف الناتو، والمتوقعة أيضاً شمال القارة الأفريقية، حيث تربطها حدود جغرافية بعدة بلدان أفريقية تصنف بالمهمة لكل من واشنطن وموسكو وفرنسا.

واشتد عود التحرك الأميركي في ليبيا، خصوصاً بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2024، حين سارعت روسيا لتحريك قطعها البحرية نحو الشرق الليبي.

تلك الخطوة رفعت أسهم المخاوف الأميركية من تنامي النفوذ الروسي في ليبيا الغنية بالموارد النفطية، التي توصف بالبوابة الاستراتيجية نحو أفريقية، بخاصة أن موسكو لها حليف يسيطر على الشرق والجنوب الليبي يتمثل في معسكر الرجمة الذي يقوده المشير خليفة حفتر وأبناؤه، إضافة إلى توسع الانفتاح الروسي أخيراً بصفته على القطب الغربي الذي تسيطر عليه حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة.

كثافة الزيارات 

لمواجهة النفوذ الروسي وضعت واشنطن توحيد المؤسسة العسكرية على رأس أجندتها في ليبيا وحركت أسطولها الدبلوماسي على الأرض، حيث سبق وزار مدير وكالة الاستخبارات الأميركية سي آي أيويليام بيرنز ليبيا عام 2023 في زيارة تعد الأولى لمسؤول أمني أميركي رفيع المستوى منذ مقتل سفير الولايات المتحدة لدى ليبيا كريستوفر ستيفنز عام 2012.

زيارة جاءت لدعم توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، حيث التقى وقتها رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة وقائد قوات الجيش الليبي بالمنطقة الشرقية المشير خليفة حفتر وجددت واشنطن في أغسطس (آب) الماضي، أهمية توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية في ليبيا، على لسان القائم بأعمال السفارة الأميركية لدى ليبيا جيرمي برنت الذي عقد لقاءات عدة مع كل من نائب القيادة العامة بالشرق الليبي الفريق أول ركن صدام حفتر، ورئيس أركان القوات المسلحة بوزارة دفاع حكومة الوحدة الوطنية بالغرب الليبي، الفريق أول محمد الحداد

وبرزت الجهود الأميركية الهادفة إلى إنهاء الانقسامات المؤسساتية بزيارة كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترمب لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا مسعد بولس، الذي حط الرحال في ليبيا آخر يوليو (تموز) الماضي، زيارة جاءت مباشرة بعد اشتباكات دامية شهدتها العاصمة الليبية طرابلس.

كما استمرت زيارات نائب قيادة الـأفريكوم” الجنرال جون برينان إلى ليبيا منذ العام الماضي، التي قدرت أربع زيارات، كان آخرها زيارة الأسبوع الماضي حيث التقى في العاصمة طرابلس عدداً من أعضاء حكومة الدبيبة من بينهم نائب وزير الدفاع عبدالسلام الزوبي، ورئيس الأركان محمد الحداد، ومدير الاستخبارات العسكرية محمود حمزة، فيما استقبله في مدينة سرت نائب القيادة العامة بالشرق الليبي الفريق أول ركن صدام حفتر، حيث كشف برينان عن قرار إجراء تمرين فلينتلوك في سرت الليبية (وسط) بمشاركة مشتركة للقوات الليبية بغرب وشرق البلاد

دمج غير متكافئ 

خطوة وصفها بيان قيادة الـأفريكومبـالمهمة في الجهود الرامية إلى توحيد المؤسسات العسكرية وبناء تعاون أمني قوي بين الولايات المتحدة وليبيا، زخم أميركي لوحظت ذروته بداية من عام 2023، لإنهاء انقسام المؤسسة الأمنية في ليبيا إلا أن الجهود المبذولة بقيت تراوح مكانها بخاصة في ظل التنامي الروسي في ليبيا وامتداده نحو بقية مناطق الساحل والصحراء الأفريقية.

رئيس الائتلاف الليبي الأميركي، أرجع تعثر خطوات واشنطن في هذا الملف إلى جملة من الأسباب يأتي في مقدمها، طبيعة الأزمة الليبية التي لا تعد أزمة تنسيق عسكري، بل أزمة ثقة وتوازن بين مؤسسة منضبطة وفوضى مسلحة يقدر فيها انتشار السلاح بـ29 مليون قطعة وفق تقارير أممية ودولية.

ورأى المتخصص في الشؤون الليبيةالأميركية، أن واشنطن عبر قيادتها العسكرية في أفريقيا تبذل جهداً متزايداً لتوحيد المؤسسة العسكرية، لكن الواقع الميداني والسياسي في ليبيا لا يزال غير متكافئ، مما يجعل أي توحيد بلا أسس صلبة خطراً على الدولة لا دعماً لها.

ودعا إلى عدم تجاوز ثقل المعسكر الشرقي، فالمنطقة الشرقية تمتلك مؤسسة عسكرية وطنية راسخة تم تأسيسها على أسس احترافية بخبرة ميدانية وهرمية واضحة، وتعمل وفق نظام إداري وأمني صارم، وقد نجحت هذه المؤسسة في تأمين أكثر من 80 في المئة من الأراضي الليبية بما في ذلك الحقول والموانئ النفطية، واستعادت الاستقرار في الشرق والجنوب بعد أعوام من انتشار الإرهاب والفوضى.

دور الـ أفريكوم” 

إن المطلوب من الإدارة الأميركية، وبخاصة قيادة أفريكوم، أن تتعامل بواقعية لا بمثالية مع موضوع توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، وأن المعادلة العادلة تقتضي أن تدعم المؤسسية القائمة في الشرق كركيزة أساسية للاستقرار الوطني.

وفي الوقت ذاته تعزز قدرات الأجهزة النظامية في الغرب الليبي التي تمثل النواة القانونية التي يمكن البناء عليها لتوسيع سلطة الدولة، ويشمل ذلك تحديداً قوة الردع الخاصة بقيادة عبدالرؤوف كاره، التي تعد من أبرز الأجهزة المنضبطة أمنياً في العاصمة طرابلس، وتعمل على مكافحة الجريمة والإرهاب.

إضافة إلى جهاز مكافحة الإرهاب بقيادة مختار الجحاوي، الذي أثبت كفاءته في مواجهة التنظيمات المتطرفة، حيث يمثل خط الدفاع الرسمي للدولة ضد التهديدات الإرهابية، وغيرها من الوحدات النظامية التي تلتزم القانون وتعمل تحت مظلة وزارتي الداخلية والدفاع الشرعيتين.

وشدد أن مثل هذه القوى هي التي يجب دعمها وتمكينها، لا المجموعات الخارجة عن القانون التي تستغل ضعف الدولة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والأمني، فالتجارب الميدانية، كما أوردت التقارير أثبتت أن تعزيز المؤسسية النظامية هو الخطوة الأولى نحو تفكيك الميليشيات وتحقيق أمن مستدام، وأن دمج الفوضى مع النظام ينتج دولة هشة لا مستقرة.

وقال الجحاوي، إن التوازن الاستراتيجي الذي ينبغي أن تعتمده واشنطن هو دعم المؤسسية والانضباط في الشرق باعتبارهما قاعدة الاستقرار، وفي الوقت نفسه تمكين الأجهزة النظامية في الغرب لفرض القانون والسيطرة على الميليشيات.

ودعا أفريكومإلى ترجمة هذا التوازن إلى برامج تدريب وتنسيق أمني مشترك ترسخ التعاون بين هذه القوى النظامية، بما يمهد الطريق لتأسيس مؤسسة عسكرية وطنية موحدة تقوم على القانون والكفاءة لا على الولاءات والسلاح، مؤكداً أن الثقة والانضباط والتراتبية العسكرية التي بنيت في الشرق ليست عقبة أمام التوحيد، بل هي الركيزة الوحيدة القادرة على إنجاحه.

وأوضح قائلاً إن القوى النظامية في الغرب التي تعمل تحت مظلة الدولة، مثل قوة الردع والجهاز الوطني لمكافحة الإرهاب، يجب أن تدعم لتقويض نفوذ الميليشيات، حتى تتحول إلى شريك فعلي في بناء الأمن الوطني لا مجرد طرف ضمن معادلة فوضوية,

مؤكداً أن واشنطن وأفريكوممطالبتان بتبني مقاربة واقعية تعلي من شأن المؤسسية، وتقدم الدعم الفني والتدريبي للقوى الرسمية المنضبطة، لا للتنظيمات الخارجة عن القانون التي تمثل جوهر الأزمة، مشدداً أنه بهذا فقط يمكن تحويل تدريب فلينتلوكوسائر التمارين المشتركة إلى منصة حقيقية لبناء جيش وطني موحد، لا مجرد نشاط رمزي أمام واقع منقسم.

التمدد الروسي 

المتخصص في الشؤون العسكرية العميد عادل عبدالكافي أكد أن الولايات المتحدة الأميركية تسعى منذ ما يقارب الثلاثة أعوام إلى عدة مسارات لتكوين قوة ليبية على غرار لواء الذنب في الصومال، الذي يعمل تحت إشراف أفريكوم، موضحاً أنها تعمل على تأسيس مثل هذا اللواء الذي يتطلب تقارباً بين معسكر الرجمة ورئاسة الأركان في طرابلس.

وأوضح عبدالكافي أن تحرك واشنطن لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية برز منذ إشراكها القوات البحرية الليبية التابعة للشرق والغرب في تدريب الأسد الأفريقي بتونس، إضافة إلى عقدها سلسلة اجتماعات في إيطاليا وفرنسا ومصر وتونس بين القطب الشرقي والعربي.

ونوه عبدالكافي أن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تعمل على توحيد المؤسسة العسكرية بهدف تقويض التمدد الروسي داخل الأراضي الليبية التي تحولت إلى خطوط إمداد مفتوح نحو بقية البلدان الأفريقية التي تنشط فيها روسيا.

واستدرك أن روسيا سبقت الولايات المتحدة الأميركية بتعزيز وجودها داخل الأراضي الليبية، وذلك باحتلالها لقواعد عسكرية استراتيجية، إضافة إلى تمددها نحو قاعدة معطن السارة في أقصى الجنوب الشرقي من ليبيا القريب من السودان ومصر.

ونوه عبدالكافي في حديثه مع اندبندنت عربيةأن التمدد الروسي يقوض المساعي الأميركية في إحداث تقارب بين معسكري الغرب والشرق الليبي، لأن معسكر الرجمة واقع بين ضغط الولايات المتحدة الأميركية من جهة وروسيا من جهة أخرى

وأكد أنه على رغم الزيارات المتكررة لمستشاري الولايات المتحدة الأميركية إلى روسيا بشأن حرب أوكرانيا واللقاءات في ليبيا حول التمدد الروسي في أفريقيا، استطاعت روسيا انتزاع منطقة الساحل والصحراء الأفريقية من يد الولايات المتحدة الأميركية، التي ترتب عليها طردها من بعض دول الساحل والصحراء، فالولايات المتحدة الأميركية أمام استراتيجية نافذة للروس على رغم محاولاتها تسريع وتيرة وجودها في ليبيا من خلال الزيارات المكوكية لقيادات أفريكومإلى الشرق والغرب الليبي لتقليص التمدد الروسي وإخضاع معسكر الرجمة لسياسة الولايات المتحدة الأميركية.

لكن خطوات أميركا جاءت متأخرة لأن العلاقات الروسية مع معسكر الرجمة جعلته عاجزاً عن الخروج من الاستراتيجية الروسية، موضحاً أن هذه هي أبرز العقبات التي تعرقل استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في الذهاب نحو توحيد المؤسسة العسكرية الليبية.

تحرك وقائي

في الـ22 من أبريل (نيسان) الماضي، شاركت القوات المسلحة الليبية في مناورات الأسد الأفريقي 2025 التونسية الأميركية في القاعدة العسكرية بالعوينة في تونس بمشاركة 40 دولة عربية وأفريقية وأوروبية من بينهم ليبيا، تدريب سبقه تمرين في الـ26 من فبراير (شباط) الماضي، أين أجرت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) تدريباً لمراقبي الجو التكتيكي العسكريين في محيط مدينة سرت، بهدف تعزيز عملية إعادة توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية“.

وقال نائب القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا أفريكومالجنرال برينان، إن مناورات فلينتلوك 26 التي ستجرى بداية العام المقبل، ستكون دليلاً ملموساً على شراكتنا المتنامية مع الضباط العسكريين الليبيين في الغرب والشرق، موضحاً أن هذه المناورة لا تقتصر على التدريب العسكري فحسب، بل تهدف أيضاً إلى تجاوز الانقسامات، وبناء القدرات، ودعم حق ليبيا السيادي في تقرير مصيرها. ورأى أن هذه المناورات ستسهم بصورة مباشرة في الجهود الليبية لتوحيد مؤسساتها العسكرية.

يذكر أن تحرك الـأفريكومفي سرت جاء مباشرة بعد تصريحات رسمية روسية اتهمت فيها حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة بالتنسيق مع أوكرانيا لتغذية الإرهاب بالساحل الأفريقي، وعلاقة انعكاس هذا الاتهام على تحرك الـأفريكومفي ليبيا.

قال العميد المتقاعد من قوات الجيش التونسي والرئيس السابق لمركز للجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب بتونس مختار بالنصر، إن تحرك أفريكومفي ليبيا لا يمكن فصله عن السياق الإقليمي والدولي، بخاصة مع تصاعد النفوذ الروسي في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي، حيث كانت ليبيا ولا تزال نقطة انطلاق وعبور مهمة للجماعات الإرهابية نحو الساحل الأفريقي.

ونوه بالنصر إلى أنه مع ضعف مؤسسات الدولة والانقسام السياسي توجد بيئة خصبة لعودة التنظيمات المتطرفة مثل القاعدةوداعش، منوهاً بأن اتهامات روسيا لحكومة الدبيبة بتغذية الإرهاب بالساحل الأفريقي سواء كانت صحيحة أم جزءاً من حرب معلوماتية حول دعم حكومة الدبيبة لبعض الجماعات المتطرفة، تبقى مصدر تعزيز للمخاوف الغربية.

فروسيا من خلال مجموعة فاغنر، التي تظهر الآن بإطار رسمي روسي بعد دمجها في وزارة الدفاع تحت مسمي الفيلق الروسي عززت وجودها في ليبيا بخاصة في الشرق والجنوب إذ يمتد هذا الوجود نحو التشاد ومالي والنيجر، أمر يهدد النفوذ الفرنسي والأميركي في منطقة الساحل الأفريقي لذلك قد يكون التحرك الأميركي وقائياً لمنع روسيا من استخدام ليبيا كمنطقة لتوسيع نفوذها.

أما إذا ثبت أن حكومة الدبيبة تتعاون أو تغض الطرف على جماعات متطرقة فذلك يشكل تهديداً مباشراً للأمن الإقليمي، ومن مصلحة أميركا التي تدعي محاربة الإرهاب عالمياً أن تتدخل أو ترسل رسائل قوة عبر أفريكوم“.

____________

مقالات