الهادي بوحمرة
منذ ميلاد الدولة الليبية كان سؤال التقسيم الإداري واحدا من أعقد الأسئلة المرتبطة بالشرعية السياسية والتوازن الجغرافي–السكاني. ولعل ما يميز التجربة الليبية المبكرة أن دستور 1951م وجد في التقسيم الثلاثي إلى برقة وفزان وطرابلس نقطة الارتكاز الوحيدة الممكنة لبناء التوافق الوطني.
لقد مثّل هذا التقسيم قاعدة صلبة للانطلاق، والذي لم تستطع البلاد بعده أن تستقر على تقسيم إداري راسخ يتيح تنمية مكانية حقيقية، فظلّت التجارب متغيرة وسريعة، بلا قاعدة ثابتة تُمكّن المجتمع من الاطمئنان إلى عدالة مناطقية مناسبة.
وبعد العام 2011 عاد هذا التقسيم الثلاثي بقوة إلى الواجهة، إذ لم يكن ممكنا التوافق على قوانين الانتخابات إلا عبر الاعتراف الضمني بوجود ثلاث مناطق كبرى، فالمؤتمر الوطني العام وُلد على أساس هذا التقسيم، وكذلك الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، ثم مجلس النواب.
حتى إن تجربة الهيئة التأسيسية أبرزت حاجة ملحّة إلى وجود مجلس ثان، هو مجلس الشيوخ، مصمم على أساس هذا التوازن الثلاثي، لتأمين أغلبية مزدوجة وتفادي هيمنة منطقة انتخابية على أخرى، وهذا ما استوعبه مشروع الدستور حين وضع آليات دقيقة للتصويت والتوافق، وفتح البلاد أمام التقسيم الإداري الثلاثي.
إن تأسيس حكم محلي يقوم على ثلاث محافظات كبرى أو ثلاث مقاطعات لا تعني بالضرورة الرجوع إلى الفدرالية أو إلى تعددية التشريع أو ازدواجية السلطة. على العكس، ذلك أنه بديل لكل ذلك، باعتباره يجري في إطار دولة بسيطة وموحدة، بسلطة تشريعية واحدة، وقانون واحد، وحكومة وطنية واحدة.
فالمحافظات أو المقاطعات ليست كيانات سياسية، وإنما وحدات إدارية كبرى، يندرج تحتها تقسيم أكثر تفصيلا إلى بلديات وفروع بلدية، وفق معايير السكان والجغرافيا والجدوى الاقتصادية والإدارية، والعوامل الاجتماعية، والتواصل الجغرافي، ومتطلبات السلم والوئام المجتمعي.
وهنا يأتي مبدأ التفريع ليضمن ألا تتحول المحافظات أو المقاطعات إلى مركزيات جديدة، فما تستطيع أن تنهض به البلدية لا يُرفع إلى المحافظة، وما يمكن أن تنجزه المحافظة لا يُحمل على الدولة.
وبهذا تتوسع صلاحيات البلديات انتخابيا وإداريا وماليا، بينما يقتصر دور المحافظات على الإشراف والتنسيق، وتبقى الدولة مسؤولة عن التوازن المالي والمرافق العامة والمعايير الوطنية.
وهنا من الأهمية التأكيد على أن مشروع الدستور الليبي يستوعب بامتياز هذه الرؤية ومن الممكن أن تكون جزءاً من بنيته المؤسسية. ذلك أنه لا يكتفي بتكريس اللامركزية الإدارية والمالية والانتخابية، بل يضع الإطار القانوني الذي يعيد توزيع الصلاحيات بين المركز والمناطق على نحو متوازن.
ومن هنا يمكن أن يصبح إنفاذ هذا التصور، خطوة من خطوات تحويل مشروع الدستور من فكرة إلى واقع، ومن خيار سياسي إلى التزام دستوري.
مع وجوب ملاحظة أن تبنّي هذا المسار ليس عودة إلى الماضي، بل هو استدعاء لتجربة وطنية ناجحة أثبتت قدرتها على جمع الليبيين، مع تطويرها بما يناسب تحديات اليوم؛ بمعنى إنه تصور ممكن لبناء حكم محلي فعّال، وتنمية متوازنة، وتوزيع عادل للتنمية المكانية، وضمان تمثيل متوازن داخل سلطات الدولة، تحت سقف وطن واحد، بدستور نافذ، وسلطة تشريعية واحدة، وقانون موحد، وحكومة وطنية جامعة.
_____________
