محمد الهادي الحيدري
المشهد الليبي بتجلياته الراهنة يظهر أن لا أحد من التشكيلات المسلحة الموالية للدبيبة والتشكيلات المناهضة له، مستعد للتخلي عن مصالحه ومكاسبه ونفوذه، بل مستعد للقتال دفاعا عنها.
يشير تقرير مركز “صوفان” الأميركي إلى أن تجدد التحشيد المسلح في غرب ليبيا، خصوصا في العاصمة طرابلس، ينذر بعودة الصراع المسلح ويهدد جهود الأمم المتحدة لتوحيد المؤسسات وإجراء الانتخابات.
ويبدو هذا التقدير في محله باعتبار أن ليبيا ضحية منطق الغنيمة من بداية ثورة فبراير التي أطاحت بنظام القذافي وتكالب التشكيلات المسلحة التي أطلقت على نفسها اسم “الثوار” والنخبة السياسية التي برزت كبديل لنظام شمولي اختزل الدين والدنيا وليبيا بكل مكوناتها في شخصه، على اقتسام الغنيمة.
وصحيح أن التحشيدات العسكرية قد تضع الغرب الليبي على حافة حرب تنسف جهود الأمم المتحدة للتسوية السياسية، لكن الأمم المتحدة ذاتها متورطة طوعا وكرها في صناعة هذا المشهد باعتمادها قاعدة “العربة قبل الحصان” أو ما يسميه التونسيون باللهجة العامية “الحصير قبل الجامع” وهو مثل ربما يردده الليبيون ذاتهم، فقد وضعت الانتخابات الرئاسية والتشريعية هدفا قبل تهيئة البيئة الآمنة والتوافقات السياسية التي يفترض أن تكون قاعدة أساسية لأي عملية سياسية تنتهي بانتخابات تمهد الطريق لانتقال ديمقراطي.
والمشهد بتجلياته الراهنة يظهر أن لا أحد من التشكيلات المسلحة الموالية لعبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها والتشكيلات المناهضة له وبعضها كان من الموالين، مستعد للتخلي عن مصالحه ومكاسبه ونفوذه، بل مستعد للقتال دفاعا عنها، وهو في النهاية وضع صنعه منطق الغنيمة من البداية، مع غياب منطق الدولة.
ولا يخلو المشهد من تصفية حسابات شخصية بدافع الحفاظ على المصالح والنفوذ والسلطة، فإصرار الدبيبة على تفكيك التشكيلات المسلحة بالقوة يعكس مسعى لاحتكار النفوذ العسكري في الغرب الليبي.
لكنه في المقابل يفاقم هشاشة الوضع الأمني ويعطي انطباعًا بارتباط الأزمة الليبية بتوازنات خارجية، لا سيما في ظل نصائح تركيا لحليفها في طرابلس بعدم التصعيد، وتنامي دور روسيا في دعم معسكر الشرق.
وبذلك، تبدو ليبيا عالقة في معادلة معقدة: كلما حاولت أطراف داخلية تعزيز سلطتها بالقوة، ازداد تعثر التسوية الأممية وصعوبة الوصول إلى صيغة سياسية جامعة.
منذ سقوط نظام القذافي عام 2011، لم ينجح الليبيون في تأسيس دولة مدنية ديمقراطية قائمة على التداول السلمي للسلطة. فالمشهد الذي أعقب “ما بعد الزعيم” اتسم بمنطق الغنيمة والميليشيات، حيث هيمنت الحسابات المناطقية والقبلية على الفعل السياسي، وغاب مفهوم الدولة أمام سطوة السلاح وتضارب الولاءات.
وفي هذا السياق، جاءت العملية السياسية برعاية أممية لتفرز سلطة تنفيذية مؤقتة برئاسة الدبيبة، ومجلسا رئاسيا بقيادة محمد المنفي، لكن التوافق الذي أفضى إلى ولادة هذه السلطة بدا منذ البداية هشًا، لأنه قام على استعجال دولي لإنجاز سياسي سريع تجاهل تراكمات عقد من الصراع وألغام التاريخ والجغرافيا الليبية.
السلطة الجديدة مُنحت حينها عشرة أشهر فقط لتوحيد المؤسسات، ضبط سلاح الميليشيات، وتهيئة الظروف لانتخابات عامة تنهي المرحلة الانتقالية. إلا أن هذا السقف الزمني الضيق بدا غير واقعي لمعالجة انقسامات عميقة تضرب بنية المجتمع والدولة، فالصراع لم يكن سياسيًا فحسب، بل ارتبط أيضًا بالتوازنات القبلية والمناطقية، وتوزع الولاءات على امتداد البلاد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ما جعل العملية السياسية أشبه بالسير في حقل ألغام.
إلى جانب التصدعات الداخلية، واجه المسار الانتقالي تعقيدات إقليمية ودولية. فليبيا تحولت إلى ساحة استقطاب لقوى خارجية مثل تركيا وروسيا وغيرها من القوى، إضافة إلى وجود آلاف المرتزقة.
هذه التدخلات والتداخلات زادت من صعوبة أي تسوية، وجعلت الحل الليبي مرهونًا إلى حد كبير بإرادات إقليمية ودولية متناقضة. وحتى دول الجوار، التي يفترض أن تكون الأكثر حرصًا على استقرار ليبيا لأسباب أمنية وجيوسياسية، لم تلعب دورا فاعلًا، بل انخرطت هي الأخرى في اصطفافات مختلفة زادت من تعقيد الأزمة.
في الشرق، برز المشير خليفة حفتر باعتباره الرقم الأصعب، فبعد حربه ضد الجماعات المتشددة، بنى حفتر جيشًا بدعم من قوى إقليمية ودولية مناهضة للإسلام السياسي، لكن طموحه تجاوز حدود الشرق، إذ سعى إلى بسط نفوذه على كامل التراب الليبي، وكانت محاولته للسيطرة على طرابلس عام 2019 أبرز تعبير عن ذلك، قبل أن تتدخل تركيا عسكريًا وتوقف تقدمه.
لاحقًا، قبل حفتر بالانخراط في العملية السياسية، لكنه احتفظ بطموحه الرئاسي، وسعى برلمان طبرق الموالي له إلى صياغة قوانين انتخابية تخدم حظوظه.
في المقابل، لم يكن الغرب بمنأى عن منطق الغنيمة، فالميليشيات هناك، التي شكلت السند العسكري للحكومات المتعاقبة في طرابلس، تحولت إلى قوى نافذة تقلب ولاءاتها وفق مصالحها.
كما أن جماعة الإخوان المسلمين، التي كان لها نفوذ واسع في حكومة الوفاق السابقة (فايز السراج)، دفعت بقوة نحو إدخال تعديلات على المسار الانتخابي بما يضمن استمرار حضورها، وهو ما أثار خلافات حادة مع مجلس النواب.
هذا التنازع بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة فجّر جدلًا واسعًا حول القاعدة الدستورية وقوانين الانتخابات. وهذا الانقسام يعكس هوة عميقة بين سلطتين متنافستين، واحدة تشريعية وأخرى استشارية، كان يفترض أن تتكاملا لدفع العملية السياسية.
وسط هذه التجاذبات، يتفق المراقبون على أن الدفع نحو الانتخابات جرى بمنطق “العربة أمام الحصان“. إذ كيف يمكن تنظيم استحقاق انتخابي حر ونزيه في ظل غياب قاعدة دستورية واضحة وتنازع مسلح قائم؟
بل إن كثيرين يحذرون من أن الذهاب إلى صناديق الاقتراع في ظل هذا المشهد قد لا يحقق الاستقرار، بل يعيد البلاد إلى مربع الفوضى والعنف، خاصة أن الخاسرين من قادة الميليشيات أو الفاعلين السياسيين قد لا يقبلون بالنتائج.
وهناك شبه إجماع داخلي وخارجي على أن الانتخابات ضرورة لا يمكن تجاوزها، ما يجعلها هدفًا لا مفر منه، حتى وإن ظلت شروط نجاحها غائبة.
في المحصلة، ليبيا تقف اليوم أمام خيارين أحلاهما مرّ: انتخابات سريعة قد تفتح الباب لصراع دموي جديد، أو تأجيلها بما يعني استمرار الانقسام وتعميق الأزمة. وما لم يتم التوصل إلى توافق وطني حقيقي يضع أسسًا دستورية وقانونية واضحة، ويضبط السلاح المنفلت، فإن أي استحقاق انتخابي لن يكون سوى محطة أخرى في مسلسل الفوضى المستمرة منذ ما يزيد عن عقد.
____________