منذ مايو/ أيار الماضي، دخلت العاصمة الليبية طرابلس مرحلةً جديدة من التوتر الأمني، بعدما شنّت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة أكبر عملية عسكرية لها منذ توليها السلطة في فبراير/ شباط 2021.

شنّت الحكومة عملية خاطفة ضد جهاز دعم الاستقرار انتهت بإطاحته، لكنها فشلت في المحاولة التالية ضد جهاز الردع، في الشهر ذاته، بعد اشتباكات استمرت يوماً كاملاً وأسفرت عن قتلى وجرحى ونزوح بعض المدنيين.

ورغم هذا الفشل الجزئي، أصر الدبيبة على مشروع حكومته الذي أطلقه وقتها تحت شعار استعادة سلطان الدولة، ووجّه اتهامات متكررة لجهاز الردع بأنه مليشيا خارجة عن القانونودولة داخل الدولة، مشدداً على ضرورة حلّه.

في مقابل هذا الفشل النسبي، انخرطت الحكومة في تحالفات مع أبرز القوى المسلحة في العاصمة، مثل اللواءين 444 و111 وجهاز الأمن العام، والتي كانت قد شرعنتها ضمن وزارتي الداخلية والدفاع، لتبقى معضلتها الأساسية في جهاز الردع.

تحديات سياسية وعسكرية في طرابلس

وفي ما يبدو أن مشروع الحكومة الرامي لاستعادة السيطرة العسكرية على طرابلس، يهدف إلى فرض نفسها أمراً واقعاً إزاء التغيرات السياسية المحتملة التي قد تحملها خريطة الطريق الجديدة التي تعمل البعثة الأممية على تنفيذها.

لا تزال الحكومة تواجه العديد من التحديات السياسية، أبرزها خصومتها الحادة مع مجلس النواب المتحالف مع قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، إذ سعى مجلس النواب مبكراً إلى إعلان سحب ثقته منها، في سبتمبر/ أيلول 2021، وتشكيل حكومة بديلة عنها.

كما أعاد لاحقاً طرح فكرة تشكيل حكومة جديدة في أكثر من مناسبة، غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل بفعل تمسك الدبيبة بطرابلس واستمرار الاعتراف الدولي به، لتظل حكومته الخصم السياسي للمجلس.

معسكر الحكومة واسع ويملك تسليحاً قوياً ومسيّرات

وفي غرب البلاد، تعيش الحكومة في مسرح انقسامات مناطقية حادة. ففي الزنتان، أقصى غرب البلاد، لا يزال الفريق أسامة الجويلي، آمر المنطقة العسكرية الغربية التابع للمجلس الرئاسي، يعد أبرز خصومها، منذ دعمه دخول (رئيس الحكومة المكلّف من مجلس النواب آنذاك) فتحي باشاغا إلى طرابلس بالقوة في مايو 2022.

وتعيش مصراتة، المدينة التي يتحدر منها الدبيبة، على وقع انقسام بين أنصاره ومعارضيه الذين نظموا حراكات سياسية ضده في العديد من المرات.

أما في مدينة الزاوية، البوابة الغربية للعاصمة، فتنشط قوى معارضة بارزة، من بينها خالد المشري، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة، المعارض للدبيبة، إلى جانب عائلة أبوزريبة ذات النفوذ، حيث يشغل علي أبوزريبة عضوية مجلس النواب، ويقود شقيقه عصام وزارة الداخلية في حكومة مجلس النواب، فيما يسيطر شقيقهما حسن على إحدى أبرز مليشيات المدينة، على الرغم من وجود قوى موالية للدبيبة في تلك المدينة.

وعلى الرغم من هذه التحديات، تحتفظ الحكومة بأوراق قوة مهمة، أبرزها الاعتراف الدولي بها باعتبارها سلطة شرعية، والوجود العسكري التركي في طرابلس، ما يمنح أي سلطة في العاصمة الليبية دعماً عسكرياً مباشراً.

إضافة إلى ذلك، هناك ارتباط وثيق لحكومة الدبيبة بإيطاليا عبر ملفي الهجرة والطاقة، وهي تلقى دعماً أميركياً سياسياً يعزّز موقفها. وغير ذلك، فالعاصمة نفسها تمثل مركز القوة المالي والاقتصادي، إذ تضم المصرف المركزي ومؤسسة النفط، ما يمنح الحكومة موارد تمكنها من الصمود.

وبعد نجاح حكومة الدبيبة في إطاحة جهاز دعم الاستقرار، منتصف مايو الماضي، تغيرت خريطة السلاح في طرابلس، وباتت تتركز في أربع قوى رئيسية، أبرزها:

جهاز الردع التابع للمجلس الرئاسي، والذي يقوده الملازم عبد الرؤوف كارة، المتمركز في قاعدة معيتيقة التي تضم مطار المدينة وميناءها. وللجهاز انتشار واسع في معظم أحياء شمال طرابلس ووسطها، بالإضافة إلى انتشار فروع له في المناطق القريبة من شرق العاصمة.

وفي جانب الحكومة، تقف ثلاث أبرز قوى:

أولها اللواء 444 قتال بقيادة محمود حمزة التابع لوزارة الداخلية، المتمركز في معسكرات جنوب شرقي العاصمة، والذي يمتد نفوذه نحو ترهونة وبني وليد، جنوب شرقي العاصمة، وصولاً إلى الشويرف على بعد أزيد من 400 كيلومتر نحو الجنوب.

وهناك اللواء 111 بقيادة العميد عبد السلام الزوبي، وكيل وزارة الدفاع الحالي، المتمركز في وسط العاصمة، وله امتداد في أغلب أحياء جنوب العاصمة، مع امتداد نحو مدن أقصى غرب البلاد.

وثالث القوى الموالية للحكومة، هو جهاز الأمن العام بقيادة شقيق عماد الطرابلسي، وزير الداخلية الحالي والمتحدر من الزنتان، ويتمركز في غوط الشعال، وسط طرابلس، لكن حضور هذا الجهاز كثيف في أحياء ومناطق عدة داخل العاصمة وضواحيها.

وإلى جانب هذه القوى، توجد تشكيلات أصغر، مثل كتيبة فرسان جنزور، القوى الوطنية المتحركة في السراج، اللواء 51 مشاة، وكتيبة أسود تاجوراء، وجميها تلعب أدواراً محلية في موازين القوة داخل المدينة لصالح الحكومة.

وعلى الرغم من أن العاصمة الليبية شهدت هدوءاً نسبياً منذ تولي الحكومة السلطة في فبراير 2021، إلا أنها عرفت العديد من المعارك في السنوات التالية، أبرزها في مايو 2022 عندما حاول باشاغا دخولها بالقوة، بدعم من لواءي النواصي و777 داخل طرابلس، وبقيادة أسامة الجويلي من خارجها، ضد قوات الردع ودعم الاستقرار، المتحالفين وقتها مع الحكومة.

وانتهت المحاولة بهزيمة باشاغا وسقوط ستة مدنيين قتلى، بالإضافة إلى طرد لواءي النواصي و777 إلى خارج العاصمة.

وفي يوليو/ تموز من العام نفسه، اندلعت مواجهات بين كتيبة ثوار طرابلس وجهاز الردع بعد اختطاف أحد قادته، فامتدت إلى الفرناج وعين زارة وزاوية الدهماني، وأسفرت عن 15 قتيلاً، بينهم أربعة أطفال، ونحو 30 جريحاً.

وفي أغسطس/ آب 2023، تفجرت معارك عنيفة بين جهاز الردع واللواء 444 إثر اعتقال قائده محمود حمزة، استمرت يوماً ونصف وخلّفت نحو 30 قتيلاً و100 جريح.

أما المواجهة الأشرس، فكانت في مايو الماضي، حين حاولت قوات الحكومة اقتحام مقرات جهاز الردع بعد الإطاحة بجهاز دعم الاستقرار، فامتدت المعارك إلى معظم أحياء العاصمة، قبل أن تعلن الحكومة وقف إطلاق النار بعد سقوط سبعة قتلى و31 جريحاً.

تحديات مجتمعية

وحيال هذه التحولات المستمرة، يرى الباحث السياسي في استراتيجيات الأمن القومي محمد السنوسي، في حديث لـالعربي الجديد، أن استقرار طرابلس لن يتحقق عبر هدوء وهدنٍ مؤقتةأو تفاهمات بين الكتائب، لتبقى العاصمة في حالة اللاسلم واللاحرب، بل من خلال إعادة هيكلة فعلية لمؤسستي الجيش والشرطة تحت قيادة مدنية شرعية، وبسلسلة قيادة موحدة وواضحة.

لكنه في الوقت نفسه يلفت إلى أن هذا الهدف يصطدم بالواقع الذي تعمل معظم التشكيلات المسلحة فيه تحت مظلات رسمية حكومية، فيما قرارها الفعلي يظل مرهوناً بقياداتها الميدانية وشبكاتها الاقتصادية المتشابكة وحساباتها الخاصة، خصوصاً أن القيادة السياسية نفسها تستفيد من هذا النمط لأن التشكيلات توفر لها غطاء أمنياً وتوازناً في النفوذ أمام الخصوم“.

ومع ذلك، يعتبر السنوسي أن التغيير ممكن، لكنه مشروط بثلاثة عناصر مترابطة:

  • ـ صفقة سياسية مقننة تُلزم الجميع بقواعد موحدة،
  • ـ وإصلاح مالي يوقف التدفقات الضخمة في ظلّ ضعف الرقابة ويجعل الولاء للمؤسسة لا للأشخاص،
  • ـ وأخيراً دعم دولي متماسك يضغط نحو الدمج لا نحو الاستقطاب.

وإلى أن يحدث ذلك سيظل الطابع المليشياوي هو المتحكم، والحالة الهلامية السمة الأبرز، وفق اعتقاده.

وفي تقييمه لموازين القوى الحالية، يوضح السنوسي أن معسكر الحكومة واسع ويملك تسليحاً قوياً وعناصر تلقت تدريبات متقدمة. ويقدر قوام القوات الحكومية بالآلاف، موزعين بين أبرز القوى التابعة لها: اللواءان 444 و111 اللذان يتميزان بقدرة تنظيمية وتدريبية عالية تؤهلهما لعمليات معقدة، ويمتلكان أسلحة خفيفة ومتوسطة، ومدرعات، ومنظومات رصد واتصال، إضافة إلى جهاز الأمن العام الذي يملك قدرة على ممارسة العمليات الأمنية.

أما جهاز الردع، فيقدر السنوسي قوامه بعدة آلاف مدّربين على نمط شبه عسكري، وبخبرة بارزة في الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب“.

وعن تسليحه، يذكر السنوسي أنه يعتمد أساساً على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة المناسبة لحرب المدن، ويملك عربات مصفحة خفيفة تمنحه مرونة الحركة والمناورة، بالإضافة إلى امتلاكه تجهيزات تقنية متقدمة في نظم الاتصال والمراقبة، وهو جانب قد يتفوق فيه على قوات الحكومة، ومع ذلك فقدراته في العتاد الثقيل تبقى محدودة.

وبالإضافة إلى تمتع الحكومة بتفوق عددي ولوجستي واضح، فلديها ميزة نوعية بامتلاكها الطائرات المسيّرة، ما يرجح كفتها في حال المواجهة المفتوحة. غير أن السنوسي يعتبر أن الحسم العسكري الكامل ربما يكون باهظ الثمن، لأن إقصاء جهاز الردع قد يفتح فراغاً أمنياً في العاصمة يصعب على الحكومة ملؤه بسهولة“.

من جهته، يرى مدير المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية إشريف عبد الله أن الوضع الحالي في طرابلس يختلف عن جولات التصعيد السابقة، إذ لا يتعلق التوازن العسكري فقط بحجم التشكيلات أو نوعية التسليح، بل بتعقيدات أعمق تشمل طبيعة المدينة، المجتمع المحلي، والارتباطات الإقليمية والدولية التي تؤثر على المشهد الأمني والسياسي.

ويوضح عبد الله في حديث لـالعربي الجديد، أن جهاز الردع يمتلك مصدرين رئيسيين للقوة:

أولهما هو موقعه الاستراتيجي داخل قاعدة معيتيقة، شمال العاصمة، حيث تقع المؤسسات الحيوية مثل المطار والميناء وشركة الاتصالات والمصرف المركزي ومؤسسة النفط، ما يعني أن أي مواجهات مسلحة هناك ستشل الحياة اليومية بالكامل.

خصوصاً منطقة سوق الجمعة، التي تمثل أكبر وأهم أحياء وسط العاصمة وأكثرها تماسكاً اجتماعياً، فأغلب قادة الردع يتحدرون منها، ما منح الجهاز حاضنة شعبية قوية.

ويشير عبد الله إلى أن منطق الجهوية يُعدّ عامل تغيير إضافي لعب دوراً كبيراً في تعزيز قوة الردع، موضحاً أن أهالي طرابلس، لا سيما في تاجوراء وسوق الجمعة، ينظرون بعين الريبة إلى القوات القادمة من خارجها، خصوصاً من مصراتة التي ينتمي إليها الدبيبة، وهو عامل خلق لجهاز الردع منتظماً اجتماعياً أوسع يؤيد مبدأ رفض عودة الحرب إلى طرابلس، ولا شك أنه عامل لا يقل أهمية عن القوة الميدانية“.

ويتحدث عبد الله عن الدور الدولي في المشهد، موضحاً أن عدة عواصم لديها مصالح مباشرة في طرابلس لن تسمح بانزلاق المدينة إلى حرب طويلة تهدد تلك المصالح، وهو ما يفسر، برأيه، عدم حصول الحكومة حتى الآن على ضوء أخضردولي لشنّ عملية عسكرية حاسمة ضد جهاز الردع.

ويخلص إلى أن الحكومة اليوم تواجه مأزقاً حقيقياً، فهي بين خيارين: إما خوض حرب مُكلفة تتضمن خسائر مدنية وأضراراً للبنية الحيوية في الأحياء المكتظة، ما يهدد شرعيتها الشعبية والسياسية بالتقويض، أو الانتصار في عملية عسكرية خاطفة لتحقيق السيطرة وتثبيت وجودها في العاصمة“.

يذكر أن المبعوثة الأممية إلى ليبيا هانا تيتيه، ونائبتها للشؤون السياسية ستيفاني خوري، التقتا، مؤخرا، رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في طرابلس، حيث جرى بحث آخر التطورات الأمنية في العاصمة، فيما أعربت تيتيه عن دعمها المتواصل لجميع جهود الوساطة الجارية في هذا الصدد.

وجاء ذلك بعدما كانت البعثة قد أبدت انزعاجها البالغ إزاء التقارير التي تفيد بتصاعد التوترات واستمرار التعبئة العسكرية التي قد تؤدي إلى اندلاع مواجهات مسلحة، وحذّرت من أن تجدد الاشتبكات ستكون له عواقب وخيمة على ليبيا وشعبها“.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات