عمر الكدي
جاءت الثروة في تاريخ الليبيين من ثلاثة مصادر رئيسية، وثلاثة مصادر فرعية على الأقل في العهد العثماني الأول والعهد القرهمانلي، وهي:
التجارة بفرعيها البحري وتجارة القوافل، والقرصنة البحرية، وتجارة العبيد.
والمصادر الفرعية هي:
الوظيفة العامة، والحرف التقليدية، والزراعة وتربية الحيوانات.
كانت التجارة البحرية غير آمنة بسبب القرصنة وغدر البحر، لذلك لم يغامر التجار بكل رأسمالهم في تجارة قد يبتلعها البحر، أو يسطو عليها القراصنة الأوروبيون، ويفضلون تجارة القوافل فهي أكثر أماناً من التجارة البحرية.
وحتى تجار العبيد كانوا يفضلون نقل العبيد عن طريق البر إلى مصر وتركيا، بدلاً من نقلهم عن طريق البحر، ولذلك كانوا في حاجة إلى استراحات على طول الطريق.
الاستراحة الأولى في تاورغاء والثانية في بنغازي فيما عرف لاحقاً بزرايب العبيد، إلى أن حظرت بريطانيا تجارة العبيد العام 1833.
ولكن هذه التجارة استمرت في ليبيا حتى مُنعت بالكامل بعد الغزو الإيطالي، وقبل ذلك توقفت القرصنة في أواخر عهد يوسف باشا، مما اضطره إلى الاستيلاء على دولة أولاد إمحمد في مرزق العام 1812، ليعوض خسائره بعوائد تجارة القوافل التي كانت تعتمد عليها دولة أولاد إمحمد.
أما شرق ليبيا فكانت بنغازي ودرنة تمارس التجارة البحرية والتجارة مع القبائل البدوية، التي كان مصدرها الوحيد هو تربية الحيوانات، الماشية الصغيرة والأبقار الحمر والإبل، وبعد وصول محمد بن علي السنوسي وتأسيس الزوايا، نشطت القبائل في تجارة القوافل مع تشاد وغرب السودان.
كانت القرصنة البحرية تنقسم إلى قسمين تجارة شرعية تحت إشراف الدولة، وتجارة غير شرعية يمارسها من يملك الإمكانيات من على أي مكان على الساحل الليبي، وتعرض مرتكبيها إلى عقوبات صارمة إذا احتجت إحدى الدول الأوروبية لدى باشا طرابلس.
في القرصنة الشرعية ينطلق القراصنة على مركبهم الصغيرة والسريعة بمباركة الباشا، ليستولوا على بواخر أي دولة لم توقع اتفاقية مع الباشا فقط، أما إذا وقعت اتفاقية فقد ضمنت عدم الاعتداء على أسطولها التجاري، مقابل دفع إتاوة سنوية وهدايا وأسلحة للباشا.
وعندما يعود القراصنة بغنائمهم تنتعش المدينة، وتمتلئ الأسواق ببضائع قادمة من أوروبا وشرق أفريقيا، وأحياناً يتوغل القراصنة في المحيط الأطلسي ويعودون ببضائع قادمة من أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، ولكن الغنيمة الكبرى عندما يعود القراصنة ومعهم أسرى من الأوروبيين، فمن كانت عائلته غنية يدفع فدية سخية لإطلاق سراح المختطف، ومن كانت عائلته فقيرة يباع بسعر أفضل من سعر العبيد السود.
الوظيفة العامة كانت مكاناً مناسباً لصنع ثروة كبيرة، وهذا يعتمد على المنصب الذي سيعين فيه المحظوظ.
أكبر منصب بعد الباشا في العهد القرهمانلي هو منصب الكيخيا الكبير والتي تعادل اليوم منصب رئيس الوزراء، فهو وكيل الباشا ومستشاره وحامل أختامه، ويساعده في وظيفته الكيخيا الصغير،
ثم وظيفة قائد الجيش التي عادة ما يكلف بها ولي العهد أو البيك وهو أكبر أولاد الباشا،
ثم وظيفة قائد السلاح البحري وعادة ما يكلف بهذا المنصب قرصان أوروبي تحول إلى الإسلام،
ثم وظيفة رئيس الميناء التي احتلها مصطفى قرجي خلال حكم يوسف باشا، وهو مملوك تعود أصوله إلى جورجيا في القوقاز، وفي نفس الوقت صهر يوسف باشا،
ثم وظيفة قائد حرس فرسان الساحل والمنشية والتي شغلها أحمد القرهمانلي مؤسس الدولة القرهمانلية.
في العهد العثماني الأول كانت هذه الوظائف حكرا على الأتراك، وفي عهد القرهمانليين حل محلهم الكوراوغلية أي الكراغلة، أي الأتراك من أب تركي وأم ليبية، ثم الوظائف الأقل أهمية مثل شيخ البلد وشيوخ الحرف والطرق الصوفية، وهؤلاء جميعا يعتاشون على ما يمنحهم الباشا، ويمكننا تقدير ثروات هؤلاء من خلال أسماء الأحياء في طرابلس.
فحي قرجي كانت أرضه ملكا لمصطفى قرجي، وحي التوغار ملكا لعائلة التوغار الكرغلية،
وحي الساعدي في طريق المطار، وحي قرقارش سمي على مملوك صلاح الدين بهاء الدين قراقوش، الذي احتل طرابلس وتونس والجزائر وبعض مدن المغرب، قبل أن يجبره الحفصيون على الانسحاب، ويقبضوا عليه في ودان حيث أعدم شنقاً، وثمة من يرجح أنه أعدم في طرابلس، ولكنه ترك حصناً لا تزال آثاره في قرقارش حتى وقت قريب.
في الدواخل كانت وظيفة القائم مقام هي أعلى وظيفة في الريف والتي تقاسمها الكراغلة في الريف القريب من طرابلس، مثل الزاوية غريان ترهونة مسلاتة ومصراتة، بينما ظلت القبائل البدوية تحت حكم أكبر عائلاتها، بلخير في ورفلة، بن قدارة في زليتن، الناكوع في الزنتان، فكيني في الرجبان، أبن نوير في المحاميد، سيف النصر في أولاد سليمان. ثم وظيفة المدير تحت إشراف القائم مقام.
وفي العهد العثماني الثاني استحدثت وظيفة جامع ضرائب العشر، ولابد أن يكون شخصاً غنياً بحيث يضمن دفع الضريبة من ماله الخاص، وهي وظيفة حققت لهذه العائلات ثروات كبيرة، لأنها كانت تجمع الضريبة قبل الحصاد وبشكل تقديري فتستولي على الفارق بين الضريبة المحصلة، والضريبة المدفوعة للدولة، وإذا لم يستطع صاحب الأرض أو الأشجار وخاصة أشجار الزيتون دفع الضريبة تصادر أرضه لصالح الضامن.
ثمة مصدر آخر يلفه الغموض وهو العثور على كنز مدفون، ولكن بعد اكتشاف النفط أصبح هذا الكنز المدفون هو النفط، وللحصول على هذا الكنز أصبح التنافس ليس على موقع الكنز في الصحراء، وإنما على منصب في المؤسسة الوطنية للنفط أو إحدى الشركات التابعة لها، أو في منصب بمصرف ليبيا المركزي، أو وزارة الاقتصاد والمالية، أو في المصرف الليبي الخارجي.
ويبدأ تكوين الثروة بالاستيلاء على مبالغ صغيرة منتظمة إذا كانت الدولة قوية، وإذا انهارت الدولة يتحول الاستيلاء إلى نهب في رابعة النهار، ولهذا أصبحت هذه المناصب وخاصة منصب رئيس الحكومة والبرلمان والوزارات، تباع وتشترى من طرف ممثلي الشعب في أبشع أشكال الفساد وضوحاً، ولكنه نفس الفساد الذي عاش في ظله الليبيون طوال تاريخهم، إلا أن معظمهم أصبح يتحصل على الفتات على شكل رواتب.
أما الثروات الكبرى فحتى الأجهزة الرقابية شريكة في نهبها، بالإضافة إلى الميليشيات التي حلت محل الانكشاريين في العهود القديمة، وتروي الحكايات الشعبية أن التركي والمقصود هنا الانكشاري، إذا نزل ضيفاً على عائلة ليبية، وبعد أن يتغدى يطلب تخليل أسنانه، وهي العبارة المستخدمة لدفع الرشوة.
واليوم كل توقيع على ورقة رسمية يقوم بها موظف حكومي لها ثمن، أو خدمة مقابلة لها في وزارة أخرى، والعجيب أن حملة النهب التي يقوم بها الجميع، ترافقت مع حملة أخرى تفيد بأن ليبيا أصبحت بلد المليون حافظ، ثم تضاعف الرقم في سنوات قليلة، وصل خلالها النهب إلى ذروته، فإذا علمنا أن اثنين مليون تعادل ربع سكان البلاد، فالنتيجة المنطقية هي أنه كلما زاد عدد الحفاظ زاد حجم الفساد، كما أنها تحاول طمأنتنا بأن ربع السكان فازوا بالآخرة وإن خسروا الدنيا.
ولكن هناك أيضا نتيجة أخرى وهي أن الاتجار في الدِّين يحقق أعلى معدلات الربح المادي، وأن من يتاجر بالدِّين شريك أصيل مع من ينهبون مال الشعب.
______________