سمير الزبن
ولدت الهوية الوطنية في المشرق العربي هشّة ومرذولة، فقد جاءت الكيانات الوطنية نتاج الإدارة الاستعمارية للمنطقة ونتيجة تقسيمات اعتباطية بين بريطانيا وفرنسا، إذ ولد التشكيل الأساسي لهذه الأوطان بفعل اتفاق سايكس – بيكو بينهما حتى قبل السيطرة عليها نتيجة انتصارها في الحرب العالمية الأولى.
ولم يكن لشعوب المنطقة ولا لحكّامها أي دور في صناعة خرائط بلدانهم، إنما ورثوها بحدودها الحالية من الدول الاستعمارية التي حكمت المنطقة.
لذلك، وُلدت هذه الأوطان مرذولةً من أصحابها بوصفها مؤامرة الاستعمار لتقسيم المنطقة، وتحطيم وحدتها التي كانت قائمة في ظل الإمبراطورية العثمانية.
مع الاستقلال الوطني، ورغم الشعارات القومية التي رفعها عديدون من القوى السياسية لتحقيق الوحدة العربية، بوصف هذه الدول تنتمي إلى الأمة العربية الواحدة، لم يولد مسارٌ سياسيٌّ وحدويٌّ جدّيٌّ للرد على الحدود التي صنعها الاستعمار.
جاءت المحاولة الوحيدة عبر الوحدة السورية – المصرية التي كانت معيبة، وسرعان ما انهارت، وخيّبت الآمال الكبيرة للشعوب العربية بالوحدة العربية نفسها. فقد أدارت السلطات المصرية الوحدة باعتبار سورية ملحقاً بالإقليم الجنوبي، وليست شريكاً في الوحدة.
ولم تختلف إدارتها عن الإدارة الاستعمارية، بل كانت أسوأ، لأنها لم تكن إدارة سياسية من خلال العمل على احترام الاختلاف بين البلدين، بل كانت إدارة أمنية بحتة.
ولا يُجانب الصواب القول إنّ سلطة جمال عبد الناصر هي التي أسسّت الدولة الأمنية في سورية في عهد الوحدة، وهي الأساس الذي بنى عليه حكام “البعث” أخطبوطهم الأمني الذي بطش بالمجتمع السوري وصولاً إلى تحطيمه.
لأن الأوطان تخترعها شعوبُها، على السوريين اختراع وطنهم وهويتهم الوطنية من جديد
ولأن الدولة الوطنية العربية وُلدت مرذولة من الجميع، تشكّلت الهويات الجمعية الأساسية في المنطقة إما أقل من وطنية، هوية طائفية ومناطقية وجهوية وعشائرية، أو فوق وطنية، وقومية وإسلامية ومسيحية ودرزية.
أما الوطن فلم يُعترف به لأن حدوده استعمارية مصطنعة.
ومن مفارقات التجربة الجماعية العربية أن حرّية التنقل بين البلدان العربية في زمن الاستعمار، ورغم أنها كانت تخضع لدولتين استعماريتين، كانت أسهل وأكثر يسراً بما لا يُقاس، من حال ما بعد الاستقلال، فقد عزّزت الدول المستقلة الحدود القُطرية المصطنعة بعد الاستقلال، وكانت الحواجز أعلى كلما كانت الدول أكثر ادّعاءً للانتماء القومي العربي.
فقد كان الوجود في البلد الآخر جريمةً لا تغتفر، بين الأنظمة الأكثر ادّعاءً للقومية، وهو ما كان عليه الحال في كل من العراق صدّام حسين وسورية حافظ الأسد. ومع الاستقلال، جرى رفع الحدود الوطنية وتعقيد التنقل، وفي الدول التي تدّعي القومية، رُفعت الحدود القطرية إلى درجة التقديس.
لم يكن هذا الضعف في الهوية الوطنية على مستوى السلطات الحاكمة فحسب، بل كان في قلب التشكيلات الاجتماعية داخل مجتمعات الدولة القطرية أيضًا.
هناك مثلان يستحقان التأمل:
الأول فلسطيني:
في الأيام الأولى لحرب 1948، سقطت المدن الفلسطينية، ولم تعترف القرى بهذا السقوط فقاومت، حتى إن قرى قاومت أكثر من ستة أشهر. المفارقة كانت أن مقاتلي القرى التي تسقط كانوا يبيعون سلاحهم وذخيرتهم للقرى المجاورة، فبالنسبة إلى الفلاح الفلسطيني كانت القرية الوطن النهائي، وسقوط القرية يعني سقوط الوطن، والقرى الأخرى أوطان الآخرين، لذلك تحوّل الفلسطينيون إلى لاجئين حتى في بلادهم، الضفة الغربية وقطاع غزّة.
الهوية الوطنية ليست معطياتٍ نهائية، هي اختراع بشري، ويمكن إعادة إنتاجها بتوافقاتٍ وحوارات
المثل الثاني سوري:
ولدت التشكيلات العسكرية للجيش الحر في سورية كتشكيلات مناطقية، حتى الضبّاط الذين انشقّوا عادوا إلى مناطقهم لبناء هذه التشكيلات. وعندما كانت منطقة تساند أخرى، كان يذهب عدد من المتطوّعين إلى تلك المنطقة موقتاً، وعندما ينتهي الخطر يعودون إلى أماكنهم الأهلية، من دون صوغ أي خطط دفاعية مشتركة.
وحدهم الإسلاميون على شاكلة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة أصحاب الهويات فوق الوطنية امتلكوا تشكيلاتٍ عسكريةً متجاوزة المناطقية، بحكم عدم اعترافهم بالحدود الوطنية أولاً، وبحكم خارجيّتهم عن المجتمع السوري ثانياً.
ولا شك في أن النقص في تبلور الهوية الوطنية واحدٌ من الأسباب التي منعت أي عمل سوري موحد في مواجهة النظام المجرم.
ومع سقوط النظام، علت أصوات الهويات الجزئية، سواء من الأغلبية، التي أخذت تنادي بحقّ السنّة في الحكم، والحديث عن هوية أموية، لا أحد يعرف ملامحها، والحديث المتواصل عن مظلومية سنية، لن تسمح بذبح السنة من جديد، أو الأقليات، خاصة الأكراد والدروز الذي باتوا يطالبون بلامركزية سياسية،.
وعزّزت هذه المطالب مذابح طائفية ارتكبتها قوات السلطة في كل من الساحل السوري والسويداء، والتي رفعت الاستقطاب والاحتقان والتخندق الطائفي إلى أعلى مستوى.
ولا يمكن الخروج من هذا الاستقطاب الحادّ سوى بالحوار، ومزيد من الحوار، فلا يمكن بناء وطن بهوية وطنية مرذولة ولا من هويات جزئية طائفية وجهوية، تحاول صراعات الهوية أن تحجُب الصراعات السياسية، وتنقل المسمّيات إلى مجال آخر، بحيث يخرج الصراع الهوياتي من مجال الصراع السياسي، ليعطى صفاتٍ أخرى تُبعده عن إطاره الطبيعي، بوصف الصراع يقع فعلياً في المجال السياسي.
ولأن الأوطان تخترعها شعوبُها، على السوريين اختراع وطنهم وهويتهم الوطنية من جديد، فالهوية الوطنية ليست معطياتٍ نهائية، هي اختراع بشري، ويمكن إعادة إنتاجها بتوافقاتٍ وحوارات، أساسها أن الوطن الذي تبنيه هذه الجماعات هو وطن الجميع، والهويات الجزئية، لا يعيبها أن توجد إلى جانب الهوية الوطنية الجامعة.
ولكنها تكون هوية معيبة عندما تصبح بديلاً، أو نقيضاً للهوية الوطنية الجامعة. لذلك تحتاج الهوية الوطنية إعادة نظر، فهي الوعاء الذي يجب أن يحتوي كل الهويات الأخرى من فوقها ومن تحتها، وهي الأساس المكوّن لشراكةٍ في الوطن والأساس في عقد اجتماعي بين مواطنين متساوين وأحرار.
أما وطن الهويات الائتلافية فعرضةٌ للتفكّك والانقسام الدموي.
_____________