سالم الكبتي 

الذاكرة البشرية سريعة الزوال” … سمير عطالله

ساعات النهار الطويلة. الصباح والضحى والظهيرة في الساحة الممتدة تحت الشمس ثم في الفصول المجاورة بعضها. أيام الربيع والشتاء.

أوائل الصيف الحار في بوعطني تأكل الوقت والجهد وتسح العرق من الجباه.

ينصرف التكبالي صاحب الجسم العملاق وسط رفاقه إلى تأبط السلاح والطوابير. وأوضاع القتال.. الوقوف. الجلوس. الانبطاح. التدريب الشاق يتواصل داخل الأسوار. ويوم التخرج لم يزل بعيدا.. لكنه في كل الأحوال يقترب.

لكل شيء نهاية. النهايات تكمل البدايات. تتسلسل الأدوار ولا تتوقف. الدوران اللولبي في تاريخ الإنسان وحياته. صيرورته ووجوده. أيامه ولحظات حياته هي تاريخه وسيرته. عصف الكيان والوجود. الدم في العروق. الأثر يظل حتى وإن بهتت الصورة.

التكبالي لم تستنفد روحه المتوثبة معاناة الكتابة وعذابات القصة. الحبر يسيل. دائماً ثمة ما يقال. حكاية أو قصة أو شعر.

وجوده في الكلية عبر الدفعة السابعة قصة متواصلة. كان يطل عبر زمن الأيام.. وخلال عامين من الدراسة ترك وجوداً. وعنواناً. وقصة إنسانية في الكلية يتذكرها العديدون.

وهناك في الكلية العسكرية التي قلبته إلى إنسان آخر يلتزم الطاعة والانضباط ويمتثل للأوامر.

الكثير مما يقص ويروى ويحكى وينقل على الشفاه ويكتب على الورق. لم يضق بالعسكرية الصارمة. كان جربها ضمن صفوف البوليس في طرابلس.

تفاصيل واحدة لكنها تفترق وتختلف بين الجيش والبوليس. عسكريتان تتقاطعان على الدوام في تلك الظروف. والكثير من ذلك الذي يقص أو يروى لم يقع بصورة قوية.

الوجود في الكلية كان قصة وحده أغنى عن سواها من قصص وإبداعات. لا وقت للقص أو الحكي. لعل المخزون هنا في الداخل هذه الكلية وساحاتها وعنابرها ينفجر ويلتهب ذات يوم قريب عقب الخروج منها والعودة إلى الحياة الجديدة.

حياة التكبالي الضابط الذي سيعلق (دبورة) على كتفه. لعل الآفاق المقبلة تتسع وتنزاح عنها العديد من الأمور والأسباب.

التكبالي الطالب ينتظر كل ذلك على قلق.. على جمر يتلظى ويشتعل ويغلي فوقه قدر ساخن لا يبرد.
وداخل الكلية كان التكبالي أيضاً يعيش لحظاته السعيدة ويتذكرها. كان العقل والقلب رغم أوجاعهما بعيداً جداً عن بوعطني..

ظل يختلف في جوانب كثيرة عن رفاق الدرس والسلاح. في الثامن عشر من مايو 1964 خلال العام الدراسي الأول بلغ عمره ستاً وعشرين. أعوام مضت وانقضت وأخرى تليها وتعقبها فكيف ستكون؟

باح لزملائه بذكرى العيد. ابتهج به واحتفل ورقص داخل العنبر وغنى. رغم الضيق والمرارة تحمل البهجة الإنسانية. البهجة أكبر منهما.

انتشر العيد الخاص بينهم. هنأوه. أعد كتيباً صغيراً ملوناً (أوتوجراف) ليثبت فيه صورهم ومشاركتهم له الاحتفاء والبهجة. 18 مايو لم ينسه. تذكره في الكلية.

معمر القذافي الذي يتقاطع في وجه العموم مع التكبالي أراد أن يشارك. كتب في إحدى الصفحات للرفيق اللدود: (الأعمار تقاس بمدى فاعلية أصحابها..) وأشار إلى أن التكبالي توافرت فيه: (عوامل التحفز المشوبة بالأمل المدعم بالإرادة الحية والحس المرهف الإنساني).

اعتراف مذهل بقيمة هذا الرفيق الذي تقاطعت خطوط التواصل المنتظرة معه. القذافي عرف قيمة التكبالي وموهبته وقوة شخصيته. كان التقييم يتجه نحو قدرات التكبالي طالباً وقاصاً يمتلك (حساً إنسانياً مرهفاً)!

وإذا كان القذافي رغم التقاطع قد مضى إلى الاعتراف بذلك للتكبالي مجاملة أو تهيباً أو صدقاً حقيقياً فإن زميله الآخر عبد السلام اجلود كان أكثر اندفاعاً وحماساً حتى ليبدو أنه أشد معرفة وقرباً وتقديراً للتكبالي. كتب يقول: «ما جلست معك في حديث إلا ووجدتك بحراً لمن أراد أن يجول ويخوض عباب البحر.

إنه مكتبة تحوي أنواع الكتب. إن هذا الأفق الواسع وهذا العقل النير. وهذه النفس السمحة. وهذا الوجه الباسم لتجعلك محط تقديري بل تقدير من قدر له ان يعرفك!».

رأيان فيهما تقدير وإعجاب. لكن التقاطع سيتواصل سيشهد اجلود على تنافر يبرز. اصطدام ينهض من عطب ليالٍ ظلت بلا قمر.

____________

مقالات