عمر الكدي
ليس هناك نقاء عرقي لأي قبيلة في ليبيا، وخاصة في الغرب والجنوب.
فالقبائل تجمع لأعراق كثيرة وحدتها الجغرافيا ونمط الإنتاج، وسمعت من أصدقاء في الغرب والشرق أنهم أجروا فحصا لجيناتهم معظمهم في بريطانيا، فكانت النتيجة أن أكثر من ستين في المائة من جيناتهم تؤكد أنهم أمازيغ.
لم أتفاجأ بهذه النتيجة لأنني أنتمي لتركيبة سكانية تجمع بين الجينات العربية والأمازيغية، ولذلك تطلق الأجيال السابقة من سكان غريان على أي أمازيغي يقابلونه لقب «خالي»، وبالتالي ما ينطبق على غريان ينطبق على ورفلة ومصراتة وترهونة ومسلاتة والزنتان وغيرها.
يعتقد أهل الزنتان أنهم من جد واحد، وأنهم إخوة مع قبائل ورفلة ويطلقون على بعض عبارة «خوت الجد». في الحقيقة الذي جعلهم يعتقدون ذلك هو التشابه في نمط الإنتاج الذي وحد بين الاثنين وجعلهما في حلف واحد هو ما يسمى بـ«الصف الفوقي».
أرض الزنتان تشبه أرض ورفلة فمساحة الأرض المناسبة للزراعة البعلية ضيقة، ولذلك تجمع المنطقتان بين نمطين مختلفين من الإنتاج، هما الزراعة البعلية الضيقة ورعي الماشية.
تستخدم الأراضي القريبة من القرى في رعي الماشية الصغيرة، وتستخدم الوديان الواسعة لرعي الإبل.
هذا النمط من الإنتاج يستدعي التوسع والبحث الدائم عن الماء والكلأ، ولهذا تصل الأراضي المخصصة لرعي الإبل في ريف ورفلة إلى السدادة ونسمة ورويس الطبل، بينما تصل أراضي الزنتان إلى الحمادة الحمراء، والقريات ووديان مزدة، ومع ذلك فالبيئة طاردة، ولهذا نجد الزنتان في الجبل الغربي وفي القبلة وفي فزان، بينما نجد ورفلة في الغرب والشرق والجنوب.
أما الأخوة بين ورفلة والقذاذفة فادعاء لا صحة له.
القذاذفة قبيلة صغيرة عاشت في ظل قبيلة أولاد سليمان الذين كانوا زعماء الصف الفوقي، ولكن عندما وصل القذافي إلى السلطة استثمر التشابه في نمط الإنتاج وتحول إلى قرابة دموية، حتى قبيلة القحاصات في غريان وعن طريق لعبة اتفق فيها محمد بالقاسم الزوي وعبد المجيد القعود، ادعت أنها «خوت الجد» مع القحوص، وهو الفرع من القذاذفة الذي ينحدر منه معمر القذافي. مجرد تشابه أسماء، أما قبيلة بوعياد في غريان فقد ادعوا أنهم مقارحة.
إذا نظرنا إلى أسماء وديان وقبائل ورفلة فسنجدها أسماء أمازيغية ربما تحرف بعضها، مثل تينيناي اشميخ تلمات تليس الرصيفة الفلادنة السكبة النقارطة الشفاترة واليساحقة، مع أسماء عربية واضحة، في حين اشتق اسم الزنتان من قبيلة زناتة الأمازيغية، أما أسماء القبائل والوديان فبعضها أمازيغي خالص مثل تاغرمين وورنزة فرنانة وغيرها.
والباقي مزيج من العرب والأمازيغ المستعربين والكراغلة وثمة من جاء من سنار في السودان.
حتى يتم ضبط نمطي الإنتاج في ورفلة والزنتان وما قد يترتب على ذلك من مشاكل، تأسس في الزنتان ما يعرف بالعمرة، وهو مجلس يجمع شيوخ قبائل المنطقة، بينما يجمع مجلس قبائل ورفلة نحو أربعين شيخا قراراتهم لا ترد.
ثمة ظاهرة تسود هذا النمط من الإنتاج الذي لا يمكن تحاشي الاحتكاكات فيه، وقد تتسبب هذه المشاكل في سقوط قتلى، وبعد التحقيق ومعرفة الطرف المعتدي يلزم بدفع الدية من رؤوس الماشية التي يعتاش منها، وقد تغير العقوبة وضع العائلة أو العشيرة الاقتصادي، وثمة عقوبة أخرى وهي تهجير العشيرة المعتدية وليس القبيلة كلها.
وهذا يفسر وجود قبيلة تحمل نفس الاسم في مناطق مختلفة من البلاد، مثل قبيلة الصيعان وقبيلة اليعاقيب في ورفلة ففي غريان قبيلة تحمل نفس الاسم، وهناك قبائل في الزنتان تحمل اسم قبيلة العواتة، والمركز الرئيسي لقبيلة الزوية هو اجدابيا، ولكنها توجد في اجخرة والكفرة ووادي الشاطئ وفي غريان، ولأنها قبائل صغيرة في وادي الشاطئ وغريان فغالبا هي عشائر حكم عليها بالرحيل من موطنها الأصلي.
كما يوجد نظام في هذا النمط من الإنتاج يسمى العشير، وهو الوافد من مكان آخر لأي سبب كان وتقبله القبيلة التي يلجأ إليها فيعيش فيها له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، بما في ذلك الزواج من نفس القبيلة وامتلاك الأرض، ولكن في قبائل برقة لا يحق له امتلاك الأرض، وعندما يمتلك الأرض في قبائل غرب وجنوب ليبيا يسجل في الوثائق أنه عشير القبيلة التي لجأ إليها.
وهو نظام يشبه نظام الموالي بين القبائل العربية بعد الإسلام، فالفرس والروم الذين تحولوا إلى الإسلام يشار إلى كل واحد منهم بأنه مولى تميم أو عبس أو ذبيان، ومع الزمن يندمج بالكامل ويتمتع أحفاده حتى بزعامة القبيلة كما حدث لعبد النبي بلخير الصويعي الذي تزعم قبائل ورفلة.
يختفي نمط الإنتاج ولكن تبقى ثقافته والعقلية التي ارتبطت به تعمل لزمن طويل.
تقريبا يعتمد جميع الليبيين اليوم على الريع النفطي، بغض النظر عن نمط الإنتاج الذي كانوا يخضعون له، ويتزاحمون على حصص في مناصب الدولة لضمان أكبر حصة ممكنة من الغنيمة، ولكن التحالفات السابقة التي أنتجتها أنماط الإنتاج لا تزال تعمل بفعالية.
عدد كبير من أبناء ورفلة يؤيدون النظام السابق، والزنتان بالرغم من موقفهم وتضحياتهم في ثورة فبراير، يعيدون حساباتهم وسيف القذافي ليس أسيرا لديهم بل هو ضيف مبجل.
ويوجد جناح يقوده أسامة الجويلي متحالف مع خليفة حفتر، وهو تكتيك عادة ما تستخدمه القبائل الرعوية فلا تضع كل البيض في سلة واحدة، أي أنهم مع ورفلة والقذاذفة يعيدون إحياء الصف الفوقي حتى ولو ضحوا بقيادة هذا الصف المتمثلة في أولاد سليمان.
وهذا قدر ليبيا التي لا تستطيع الفكاك منه، أي أن من يحكم البلاد عادة يأتي من القبائل التي امتهنت رعي الإبل وتجارة القوافل، عكس تونس التي عادة يأتي حكامها من شريحة التاجر البحار وليس الفلاح أو البدوي، والمرة الوحيدة التي وصل فيها رئيس جنوبي إلى قصر قرطاج، حدثت بعد الثورة في شخص المنصف المرزوقي، الذي كان رئيسا شرفيا أقرب منه إلى رئيس بكامل الصلاحيات، وها هي الرئاسة تعود بحزم إلى التاجر البحار في شخص قيس سعيد.
كانت السلطة منذ سيطرة العثمانيين على ليبيا عام 1551م بيد الأتراك، ثم بيد الانكشاريين القادمين من أصقاع شتى، ثم بيد الكراغلة أي الأب تركي والأم ليبية.
وبعد الاستقلال حكم ليبيا الملك إدريس السنوسي، الذي ولد في الجغبوب وترعرع في الكفرة، أي أن نمط إنتاجه هو رعاية الإبل وتجارة القوافل، ولكن بداوته كانت بداوة مستنيرة لأنه سليل دعوة دينية وسطية ومستنيرة، كما عاش زمنا طويلا في مصر الملكية بليبراليتها النخبوية.
وذلك عكس الحاكم الثاني الذي جاء من قبيلة نمط إنتاجها رعي الإبل فقط ولا علاقة لها بتجارة القوافل، أي أنه نمط إنتاج مغلق وغير مستنير، والحاكم القادم لن يكون من المدينة بغض النظر عن هذه المدينة، وإنما من نفس نمط الإنتاج البدوي، حتى ولو كان أسلافه في ترهونة ليسوا من البدو وإنما من الحضر الذين زاوجوا بين الزراعة البعلية وتربية الماشية الصغيرة، ولكنه نشأ وسط قبائل برقة البدوية ويتصرف وفقا لتلك الثقافة المتوارثة بالرغم من اختفاء نمط الإنتاج الذي أنتجها.
_______________
