سالم الكبتي

«لقد أرادو دلاعنا. أنا لم أعطهم الدلاع» .. التكبالي في إحدى قصصه
خريف 1963 حل خليفة التكبالي ببنغازي. حصيلته قصص وذكريات من طرابلس، ثم ألمانيا البعيدة. الثلوج والصقيع والمداخن والبارات الساهرة في الليل إلى الصباح. موسيقى بيتهوفن. تماثيل الشوارع والميادين وحكايات الحرب التي انتهت ومضت. نقلة أخرى في الحياة المتوثبة والمندفعة والقلقة والرانية إلى الجديد القادم.
يومها بنغازي كانت مدينة وقرية. تحفها السباخ في الأطراف وتزنر وسطها عند جليانة وسيدي حسين والملح.. الأكوام البيضاء المترامية تحت وهج الشمس.
مر بها الألمان أيام الحرب. شاركوا في قصفها بالطائرات. جاب الجند شوارعها وأزقتها. أسر بعضهم. عاشوا فيها بقية حياتهم وأعلنوا إسلامهم. شكلوا فرقا رياضية ولعبوا مباريات مع الحلفاء والسكان في ملاعبها.
الحروب تجمع خليطا من البشر من كل مكان. يتجمعون في نقطة واحدة. سود وبيض وسمر وحمر. قايضوا الأهل بالبيض والخبز. ومنحوهم بديلا لها علب السردين واللحم ودقيق الشوفان.
الحرب في كل الأحوال كافرة. بقيت آثارها تلك الأيام في بنغازي وما حولها وكل المدن، وفي العالم بالدرجة الأولى.
ألمانيا ظلت صورة من صور حزن الحرب ودمارها ومأساتها. دفع الألمان فاتورة هتلر منذ 1939.
التكبالي هناك شم رائحة الحرب والدخان والقنابل والسلاح، وتقسيم البلد إلى ألمانيتين واضحتين، شرقية وغربية، وبينهما بوابة عالية وحولها أسوار وأسلاك شائكة وعسكر.. وأسلحة.
غربة التكبالي اختلطت بأحزان الحرب وساعاتها في بلاده أيضا. ألمانيا في غربها ترزح تحت قواعد الأطلسي. وفي أطراف طرابلس الملّاحة وامتدادها شيء يشبه تلك القواعد. انكسار في النفس مع غربة الروح، والعلاج مزيد من القصص والتمرد.
بنغازي القرية والمدينة كانت تحتوي الكلية العسكرية الملكية وفقا لإسمها. موقعها باتجاه الشرق الذي ينحرف قليلا نحو الجنوب. أمامها محطة قطار بوعطني. الضاحية أمام الكلية في طريق بنينا والرجمة، ومنها طريق يتواصل إلى الأبيار والمرج. طريق بري يتلازم مع سكة الحديد.
والحياة تمضي بسرعة في القرية المدينة والضاحية والسباخ، تملؤها أكوام الملح منذ القدم.
كانت الكلية حتى 1957 سكنا لملك البلاد. منحة ليكون مقرا للكلية. هناك عند نهر النسيان حيث «الجخ» كما يسمى. الأسطورة الإغريقية العتيقة وبساتين التفاح والحريات.
ثمة مصبات أخرى وعيون باتجاه الكويفية وعين زيانة وبودزيرة. سباخ ومستنقعات. وفراغ يحيط بالأبعاد. لا تزال المدينة لم تكبر.
أسوار الكلية أطبقت على صف المستجد القادم من كل الأماكن في ليبيا ذلك الخريف. خليط من الطلبة المتعددين. أمامهم كان الصف المتقدم الذي سيتخرج في الصيف اللاحق 1964.
قوام الدفعة السادسة. صف يتكون من حوالي عشرين طالبا أو أقل. رئيس عرفائهم الطالب عمران عطي الله. الأيام الأولى صعبة المراس في حياة المستجد. ستظل قاسية جدا، وستدوم وراء الأسوار أربعين يوما كاملة.
هي مدة الأساس والتكوين. لا خروج. لا نزول إلى المدينة. لا زيارات. لا اتصالات. تنقلب حياة الفرد وتتغير من الطابع المدني، وتصبح له شخصية مغايرة.
نقلة كبيرة من المدنية المتراخية المنطلقة السهلة إلى العسكرية الجافة الصارمة. الأوامر والطاعة وصوت البوق. والمعاناة من الأقدم. الهرولة منذ ساعات الفجر لمدة ساعة. الشورت الأزرق القصير. الحذاء الرياضي. الفانلة البيضاء. الرؤوس الحليقة صفرا كما يقال.
اتجاه آخر مع تلك النقلة. تختلف تماما حياة التكبالي في ألمانيا، حيث الموسيقى وصخب الحانات، والمراقص والمواعيد، ودقات الأجراس من الكنائس. بون وضواحيها. ومبنى المستشارية. اديناور وشاخت ثم إيرهارد. عقلية الاقتصاد وإلحاق الهزيمة بتداعيات الحرب.
هنا في الكلية حيث سيلتقي القذافي وغيره.. الحياة تفترق. تدريب وركض طوال اليوم. طوابير وسلاح وأحذية ثقيلة وتعليمات وتنبيهات وتوبيخات، وتشدد في كل شيء. عليه أن ينسى حياته السابقة بكل أنواعها في ألمانيا وفي طرابلس.
سيكون البرنامج اليومي مشحونا بالدروس العملية في الساحة، ثم بالنظرية في الفصول. الظهيرة. الغداء. ساعة العقوبات. التدريب الإضافي. المطر أحيانا، والوحشة والأرقام فقط.
يتحول الإنسان إلى رقم يُخاطب به ويُعرف. الأسماء تكاد تكون مجهولة في عالم العسكرية. الرقم يدل على الإنسان. العقوبة جماعية. يخطئ الفرد ويتحمل التبعة الجميع. الثناء يكون على مستوى فردي. ثمة دروس في المساء. وبعدها الرياضة والنشاط الترويحي.
المذاكرة الإجبارية. العشاء. التمام. إطفاء الأنوار. الخلود للنوم. رتابة تعيد نفسها مع الزمن واللحظة كل يوم. ألمانيا وأيامها أصبحت ذكريات. ولا قصص جديدة في غمار التجربة العسكرية.
التكبالي أحاط به في هذا الجو الجديد رفاق جدد من المناطق الليبية كافة، ما بين مستجد وقديم. يتولى مسؤولية صفه زميلهم الطالب رئيس عرفاء الدفعة أبوبكر البراني. الأقدمية والتراتبية في العسكرية عسر ومشقة.
هنا ما بين الحياة اليومية في الساحة والعنابر وأسوار الكلية، وتدفق غدير مياه النسيان.. ربما نضجت أفكار وقدحت زنادها لقصص وحكايات. ربما استدعى الفكر والخاطر الموهبة الكامنة في الأعماق. لكنها تظل حبيسة ومخنوقة.
ليس ثمة وقت للكتابة. ليس ثمة مجال لأعمال الفكر. الحيز مشغول على الدوام. مفعم من الصباح إلى الليل بهذا المنهج الثقيل، والسياق الدقيق الصارم.
بعد اليوم الأربعين نزول إلى المدينة، التي كانت تتهيأ لأيام مقبلة ستنفجر خلالها مظاهرات للطلبة في الجامعة والثانوية. الكلية بعيدة عنهما. همس وأحاديث مكسورة دون بوح صراح.
كان أحد أشقائه ممن يكبرونه سنا يعمل ببنغازي في إحدى الوظائف الحكومية. يمر به. أحيانا يقيم لديه. وأحيانا في فندق النهضة الذي يضمه مع رفاق الدراسة في الكلية. وفي بعض الأيام هناك برامج للكلية حضورها يكون مُلزما للطلاب.
حضور فيلم في سينما «ركس» أو مباراة في ملعب 24 ديسمبر. النزول إلى بنغازي مساء الخميس والعودة مساء الجمعة. الحافلة العسكرية تنتظر أمام معهد دي لا سالي. العقوبة بعض المرات تطال المقصر وتحرمه من النزول.
النزول كان بهجة. التبختر بالبذلة العسكرية والعصا. لحظات تُنسي التعب. المرور بمكتبة الوحدة العربية في شارع عمرو بن العاص أو مكتبة فتحي في سوق الظلام.
لم يعرف عن التكبالي في عامي الكلية أنه لازم مقهى معينا أو جالس مثقفي المدينة أو نشر شيئا في صحفها.
كانت يومها “الحقيقة” بدأت في الصدور، وكانت أيضا صحف «الرقيب» و«برقة الجديدة» و«العمل» و«الزمان». وكان المركز الثقافي المصري مغريا بالمتوافر لديه من الفاكهة الصحفية المصرية وأفلامه. ينشر من خلالها مناهجه القادمة من ضفاف النيل.
ذلك كله لم يعبئ فراغ التكبالي القادم من عالم الرايخ القديم. الكلية كانت تصدر كل عام مجلة لم ينشر فيها أي شيء. حضر منها عددين. نعته المجلة عقب وفاته باعتباره ابنا بارا من أبناء الكلية.
المجلة شهدت نشر كتابات لضباط وأساتذة في الجامعة وطلبة من الكلية.. قصص ومقالات لمحمد فرج التومي وسليم الحجاجي وعبد الونيس محمود وبلقاسم القانقا وأحمد المقصبي.. وغيرهم.
كتابات التومي كانت لافتة للنظر. كان محسوبا على تيار البعث، وكان جريئا في طرح أفكاره خلال المجلة. التكبالي والقذافي لم يبادرا بأي مشاركة في النشر.. بقيت الأفكار داخل الصدور. تنافر بينهما في الساحة والعنبر. والتومي زميلهما تحدث عن دور الطليعة في المجتمع. لم يركن إلى الصمت. شارك لاحقا في حركة سبتمبر، ثم قادته الخطوات إلى السجن في ديسمبر 1969.
وكان القذافي يلاحظ ويراقب ويصنف الجميع.
_________________
