سالم الكبتي

(وداعاً رفيقي لن يطول بنا البعد .. سأعود يحرقني الحنين .. ويعلو هامتي الزبد)

خليفة التكبالي

يوم الإثنين التاسع من أغسطس 1965 تخرجت في بنغازي الدفعة السابعة من طلبة الكلية العسكرية الملكية شملت في مجملها سبعة وأربعين طالباً كانوا التحقوا بها في أكتوبر 1963. قضوا مدة عامين في مرحلة المستجد ثم المتقدم في الدراسة العملية والنظرية والتدريب.

الطلبة الذين منحوا بمرسوم ملكي عشية اليوم التاسع المذكور رتبة ملازم ثانٍ في الجيش الليبي كانوا من مناطق مختلفة من ليبيا. بعضهم أنهى دراسته الثانوية وبعضهم كان معلماً في المدارس الابتدائية وغيرهم كان من العاملين في مرافق الدولة الحكومية. وعقب التخرج عينوا في وحدات الجيش المنتشرة في البلاد وفقاً للتخصصات التي وجهوا إليها. كانت ليبيا يومها بدأت تجني بدايات مداخيل البترول وثمة خطة للتنمية والتطوير تسعى لتحقيقها الجهات المسؤولة فوق الأرض.

كان من ضمن الطلبة في هذه الدفعة مجموعة توزع نشاطها قبل الالتحاق بالكلية في حراك سياسي ضمن القوميين العرب أو حزب البعث أو تيارات اليسار والاهتمام بقضايا الفكر والفن السائدة في تلك الفترة. بعض هؤلاء الطلبة رأى في الالتحاق بالجيش فرصة لتوكيد الوعي الوطني ومحاولة للقيام بإصلاح النظام أو تغييره رأساً على عقب.

في هذه الدفعة انطلق تشكيل الوحدويين الأحرار الذي كان هدفه الوصول إلى السلطة وقلب النظام الملكي. التشكيل كانت معارفه تتحدد في الانتماء الشديد للتيار القومي العروبي والإعجاب بجمال عبد الناصر والتأثر به والحلم بتحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين والقضاء على الرجعية العربية.

كانت الثقافة الطاغية في الغالب هي خطب عبد الناصر ومقالات محمد حسنين هيكل وإذاعة صوت العرب ومديرها أحمد سعيد وما تبثه من برامج وذكريات النضال لتحرير الجزائر وما يسود الواقع العربي الراهن يومها من تحرير اليمن الجنوبي من الإنجليز.

إضافة الى رؤيته للداخل بما يعتقد أنه يشكل ارتهاناً للخارج بوجود القواعد الأجنبية والاستقلال المزيف ومظاهر الفساد والمحسوبية.

كان الهدف من التغيير ضرورة في أعماق هذا التنظيم الذي أسسه داخل الكلية الطالب معمر القذافي وتكونت خليته العسكرية الأولى أثناء المعسكر الخارجي تحت تلال طلميثة عند شاطئ البحر بالقرب من ضريح سيدي عبد الله صيف 1964.

احتوت هذه الخلية إضافة إلى القذافي الطلبة: عبد السلام اجلود ومحمد نجم وأبوبكر يونس ومختار القروي وعبد المنعم الهوني وعوض علي حمزة والخويلدي محمد الوالي وسالم مسعود البصير، كانوا تسعة من الطلبة في البداية.

وضعوا قاعدة هذه الخلية التي ستأخذ الشكل الهرمي وتتوزع بنفس الكيفية الى خلايا أخرى. كل خلية تضم خمسة من العناصر لا يعرف بعضها البعض فيما يتولى أعضاء التنظيم في كل المراحل اللاحقة اختيار وتجنيد من يرونه كفؤاً ومناسباً للعمل.

هكذا كانت الانطلاقة مثلها مثل بقية التشكيلات السرية العسكرية العربية. لم تخرج عن ذلك الإطار بل حاكته وتأثرت به في كل الأحوال. وعلى هذا النحو تواصلت اللقاءات والاجتماعات داخل أسوار الكلية أثناء الدراسة خلال العامين وبعدهما وعقدت تلك اللقاءات في سيدي خليفة وأماكن أخرى في ضواحي بنغازي وغيرها وانضوى كثير من الطلبة ثم من تخرج وأضحى ضابطاً إلى التنظيم السري في الجيش الذي سيظفر بالسلطة في ليبيا عبر يوم الإثنين الأول من سبتمبر 1969.

مع مضي الوقت سيحدث تبدل في الاختيارات فعلى سبيل المثال ظل عضو التنظيم سالم البصير يتأخر ويتغيب عن الاجتماعات فقرر الأعضاء فصله وفقا لرواية الرائد محمد نجم لي شخصياً.

وهنا اختير بدلا منه في عضوية التنظيم الملازم مصطفى الخروبي. كان ذلك في شهر أغسطس 1966. أتى صحبة معمر القذافي إلى منزل الملازم عبد المنعم الهوني في طرابلس وكان حديث الزواج. كان مع الهوني في بيته محمد نجم وعبد السلام اجلود. وتم الاتفاق على مفاتحة الخروبي وضمه للخلية بدلاً من البصير.

وفي هذه الأثناء وعبر ما يدور من اتصالات ونقاشات واكتشافات للمزيد من الأعضاء كان لعبد السلام اجلود وجهة نظر ظل يصر عليها تتمثل في اقتراحه بأن (موعد الثورة ينبغي أن يتم بعد عشر سنوات) يعني خلال 1975 أو 1976 حتى تتضح الأمور وتنضج الرؤى وتنجح الخطوات بالتدريج.

على أرض الواقع ظل عدد اللجنة المركزية المتمثلة في الخلية الأولى المذكورة تسعة أعضاء توزعوا في معسكرات المخابرة والهندسة والمدفعية والدروع والمشاة والإدارة. لم تكن الرؤية واضحة بشكل كبير لما يتصل بالسلاحين الجوي والبحري وفيما بعد اختير بعض من ضباطهما للمشاركة في الحركة.

كان العمل يمتد في مواقع الجيش انطلاقاً من تخرج الدفعات من الكلية وتواصلا مع وحدات الجيش بصنوفها وأسلحتها المختلفة في كل أنحاء ليبيا.

وبعد تحقيق النجاح في سبتمبر للتنظيم وفقاً لحديث محمد نجم أضيف ثلاثة للتسعة الذين سيكونون في مجملهم اثني عشر ضابطاً ظلوا القوام الكامل لمجلس قيادة الثورة وهم: بشير هوادي وامحمد المقريف وعمر المحيشي.

كانوا قد اختيروا في التنظيم ولكنهم أضحوا أعضاء في القيادة لاحقاً. لم يكونوا في الأصل أعضاء في الخلية المركزية الأولى. لقد تم ذلك مراعاة في الواقع للتوازن القبلي والجهوي في البلاد.

حين تخرج هؤلاء الضباط الصغار وتوزعوا في مرافق الجيش كان لديهم حماس في التدريب والدراسة اكتسبوه في صفوف الكلية وزاد لديهم حين عينوا ضباطاً ولاحظوا: (أن ثمة ضباطاً من الرتب الكبيرة ممن سبقوهم في العسكرية يسخرون من هذا الحماس وظلوا يشيرون إلينا بأننا مع الوقت.. سنهوط وننفش).

ثم يواصل صديقي محمد نجم في ذلك اللقاء البعيد من لقاءات عديدة جمعتني به رحمه الله القول بأنه: (عندما عين ضابطا في سلاح المدفعية بحامية الزاوية كان يتولى تدريب الجنود بنفسهلاحظ بأن أغلبهم حالته فقيرة وبعضهم يسكن مع عائلات أخرى بعائلته في بيت واحد ويستعملون مطبخاً واحداً ودورة مياه واحدة. لكن ذلك لم يخل بالضبط والربط في الجيش ولم يفت في عضد هؤلاء الجنود (الغلابة).

ويقول أيضاً.. (كنا كضباط نقضي نهارنا في العمل وليس لدينا مكان نمضي إليه مساء عندما لا يكون لأحد منا أي تكليف بخفارة او واجب تقتضيه الظروف. نجلس في المقهى في ميدان الزاوية أو نرتاد السينما فيما كنا نشعر بالملل أيام العطلات وأيام الجمع لأنها تمر ثقيلة علينا بدون عمل).

في تلك الأيام برز زميل الدفعة.. خليفة عمر التكبالي. القاص. صاحب الموهبة والمثقف اليساري.

كان من مواليد 1938 في طرابلس. أقام في ألمانيا فترة ثلاث سنوات من 1960 إلى 1963. التحق بالكلية العسكرية. كان في الخمسينيات جندياً في قوة البوليس. في ترتيبه في التخرج كان رقمه عشرين ومعمر القذافي بعده واحد وعشرون.

مفارقات تحصل بين الرقمين طوال الدراسة.

في الكلية كان رقم التكبالي 217 ومحمد نجم كان يحمل الرقم 227. كانا رفيقين وصديقين يحملان وداً وألفة قوية.. لكن العلاقة بين التكبالي والقذافي اعتراها الالتباس والتعقيد والتصادم. التكبالي يحمل نفساً ضاجة بالمعاناة والقلق والموهبة الكبيرة. أعماقه تتدفق قصصاً وشعراً.

كيف جرت الأمور.. وسارت المياه المتدفقة بينهما في الأنابيب؟!

_____________________

مقالات