عمر الكدي
جاء في كتاب المؤرخ والقنصل الفرنسي في ليبيا شارل فيرو «الحوليات الليبية»، ترجمة الدكتور عبد الكريم الوافي، «وقبيل نهاية سنة 540 هجري 1145م، اندثرت سلالة يوسف بن زيري مع تولي المعز بن باديس، وظلت طرابلس تحت سيطرة العُبيديين طيلة بقائهم في الحكم.
غير أنه عند وفاة المعز، فإن الطرابلسيين الذين كانوا يتطلعون منذ مدة طويلة للانعتاق من ظلم هؤلاء الحكام، قد أعلنوا استقلالهم الذاتي وحولوا ولايتهم إلى دولة مستقلة، وقرروا أن تختار كل قبيلة لها زعيما بمحض إرادتها، وأن يتنازل كل زعيم بعد ذلك عن منصبه الرئاسي لمن يكون قد حصل من بينهم على أكبر عدد من أصوات القبائل الأخرى.
غير أن الحرب نشبت بين هذه القبائل لعدم اتفاقها جميعا على الشرط المذكور، فهلك عدد كبير من الطرابلسيين في حروب أهلية، وزاد الطين بلة استفحال الجفاف وندرة الأمطار وانتشار المجاعات، فأصبحوا في أقصى حالة من البؤس».
ما أشبه الليلة بالبارحة فالذي أنقذ الليبيين اليوم هو استمرار تصدير النفط، بالرغم من أنهم مثل أسلافهم لم يتفقوا على تقاسم السلطة بالانتخابات وبالتنازلات المتبادلة، وهكذا مرة أخرى لم يستطيعوا الاستقلال وبناء دولة.
وكانت النتيجة سقوط طرابلس بيد الصقليين بقيادة الأميرال جورج ميخائيل الذين حكموها لمدة 12 سنة، وانتقلت طرابلس لحكم الحفصيين في تونس، قبل أن يستولي عليها شرف الدين قراقوش مملوك صلاح الدين الأيوبي حاكم مصر، ثم يستعيدها الحفصيون بعد حروب كثيرة.
وقائع كثيرة تؤكد أن الليبيين إذا تركوا وحدهم لن يتفقوا، ويصبحون لقمة سائغة لجيرانهم الأقوى أو للأوروبيين مثل الصقليين ثم الإسبان، أو لأي مغامر مثل قراقوش الذي سمي عليه حي قرقارش، أو علي برغل الذي حكمها بفرمان مزور خلال حكم القرهمانليين، ولهذا كان الليبيون دائما يرحبون بأن يحكمهم أي طاغية محلي أو أجنبي، المهم أن يحقق الأمن والاستقرار ويخفض الأسعار، وهي مهمة سهلة فهم من سيدفعون كل التكاليف من الضرائب التي ستفرض عليهم، والآن أصبح الأمر أيسر بسبب عوائد النفط الكبيرة.
يذكر أن المقصود بطرابلس هنا كل المنطقة الغربية من زوارة إلى مصراتة، فطرابلس كانت أصغر من أن تتسع لكل هذه القبائل التي لم تتفق، والسبب مرة أخرى هو تباين أنماط الإنتاج، بينما كانت برقة مستسلمة لأعرافها البدوية وللحروب القبلية، ويكتفي حاكم طرابلس بإرسال من ينوب عنه إلى بنغازي، في حين كانت فزان منسية ولم تظهر بعد دولة أولاد امحمد الفاسي، التي ستظهر عام 1550 على يد مهاجر من مدينة فاس المغربية يعود نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب.
بعد احتلال الإسبان لطرابلس عام 1510 لم يستطع الليبيون تحريرها، وحتى بعد انسحاب الإسبان وتسليم المدينة إلى فرسان القديس يوحنا، وفي عام 1551 سافر وفد من أعيان طرابلس إلى الأستانة، ليطلبوا من السلطان العثماني سليمان القانوني مساعدتهم لتحرير المدينة، فأرسل أسطولا من عشرين سفينة بقيادة سنان باشا ودرغوت باشا.
وهكذا أصبحت ليبيا ولاية عثمانية حتى عام 1711 عندما وصل أحمد باشا القرهمانلي إلى السلطة، ليؤسس دولة مستقلة وتابعة اسميا للدولة العثمانية حتى عام 1835، عندما عاد الأتراك وحكموها بشكل مباشر حتى عام 1911 تاريخ وصول المستعمرين الإيطاليين.
وهذا يعني أن فرصة الاستقلال التي ضاعت عام 1145 بسبب عدم اتفاق القبائل، لن تعود مرة أخرى إلا عام 1951 بقرار من الأمم المتحدة وليس بسبب عوامل داخلية.
من كل ما سبق نستنتج أن حكام ليبيا منذ استيلاء عمرو بن العاص على طرابلس عام 643م، وكل حكامها جاءوا من مصدرين اثنين. الغزو البحري والاجتياح الصحراوي.
فقد احتل طرابلس الصقليون والإسبان وفرسان القديس يوحنا، قبل أن يأتي الأتراك وتتحول إلى ولاية عثمانية، حكم خلالها إنكشاريون وطابور طويل من العلوج والقراصنة، أما الصحراء فجاء منها العرب بالإسلام، ثم جاء مهاجر مغربي من فاس فأسس دولة أولاد امحمد في فزان، ولم يكن إلا رئيس ركب الحجاج المغاربة.
ولكنه يملك رأس مال رمزي مهم جدا، وهو أنه من نسل الحسن بن علي بن أبي طالب، وتمكن سليل الانكشاريين أحمد باشا القرهمانللي من الاستيلاء على هذه البلاد عام 1711.
كما تمكن مهاجر جزائري يملك نفس الرأسمال الرمزي، هو محمد بن علي السنوسي من تأسيس حركته الدينية في بادية برقة، ولم يحدث أن وصل حاكم في تاريخ ليبيا إلى السلطة من خلال توافق داخلي، فحتى الليبي الوحيد الذي وصل إلى السلطة بعد انقلاب سبتمبر 1969.
جاء من الصحراء وبانقلاب عسكري وليس من خلال الانتخابات، ووصل إدريس السنوسي إلى السلطة بتنازل من زعماء الحركة الوطنية في طرابلس وبنغازي ودرنة، بعد أن هدد بأن تستقل برقة وحدها، ولكنه استفاد دون شك من إرث جده الجزائري ووالده اللذين مهدا له الطريق.
وإذا راجعنا خلفية أعضاء مجلس انقلاب القذافي الاثني عشر، فسنجد أن قائدهم جاء من نمط الإنتاج البدوي، بالإضافة إلى الرجل الثاني عبدالسلام جلود، وامحمد المقريف، بينما جاء ثلاثة فقط من أكبر مدينتين في البلاد هم، مختار القروي من طرابلس، وعوض حمزة ومحمد نجم من بنغازي.
أما من نمط إنتاج الزراعة المروية والتجارة فجاء كل من، عمر المحيشي ومصطفى الخروبي والخويلدي الحميدي، وعبدالمنعم الهوني، ومن نمط إنتاج الواحات جاء أبوبكر يونس جابر من واحة جالو، وبشير هوادي من واحة ودان.
استقال القادمون من المدن مبكرا، واستبعد الباقون على دفعات، ولم يبق مع القذافي إلا أبوبكر يونس والخروبي والخويلدي الحميدي عندما سقط نظامه، وهو ما يعني أن نمط الإنتاج البدوي هو المصدر الأول للطاغية في ليبيا، عندما يتوقف التدخل الخارجي، الذي لا يستطيع التدخل المباشر على غرار ما حدث عند وصول العثمانيين.
ولكن التدخل الخارجي يحدث من خلال الزعامات المحلية، فالأتراك موجودون اليوم عسكريا في غرب ليبيا، والروس موجودون في شرق ليبيا، والقوى الإقليمية والدولية لها في كل مكان في ليبيا حصان طروادة يعولون عليه.
واليوم يوجد في مؤسسات السلطة جميع أنماط الإنتاج الخمسة ولكنهم مثل أسلافهم لا يستطيعون التوافق، في انتظار التوافق الدولي حول هذا الكيان الشاذ حتى عن أقرب جيرانه.
بعد استيلاء يوسف باشا على دولة أولاد امحمد في مرزق، حكم فزان عمال ليوسف باشا كانوا في منتهى الاستبداد والطغيان، أشهرهم محمد المكني القادم من مكنين في تونس، ولم يبق من عسفه إلا قصيدة لشاعر فزان امحمد قنانة الزيداني قالها في حضرة يوسف باشا:
بلا موت يا باشا تبي تقتلها، فزان ما رديت بالك منها،
فزان ما هي صقالة، ولا هي في وادي وسيع الجالة
خليتها للزاوي، وخليتها كيف الجريد التاوي
يجي يوم ربي يعدله ويساوي، وتخلص الجمة من طوال قرنها
، وهي قصيدة احتجاج ضد عامل والي يوسف باشا على فزان، وعلى الضرائب المرتفعة التي فرضها على الأهالي، كما بقى مثل يقول «كيف حصان المكني كان قدته ما ينقاد، وكان قربته صكني».
بالإضافة إلى قصة ناقة أحد الولاة التي عاثت في سواني الفزازنة فسادا، فاتفق ثلاثة على تقديم شكوى للوالي، واتفقوا أن يقول كل واحد كلمة على التوالي، فقال الأول الناقة يا سيدي، فرد عليه الوالي وخيرها الناقة، وعندما لم يتكلم الآخران، قال للوالي الناقة تبي جمل.
______________