أمين مازن

لتوفُّرِّ أكثر من حافز على تحمُّل أعباء مشاركة الآخرين، وقد أقول ما يتصف به حُسنُ عرضهم لما يطرحونه للحوار.

كنت في الثامن عشر من رمضان بين الذين ضمهم فضاء بيت محمود بي في مدينة طرابلس القديمة، ومنشطه المعنون بـ«الإعلام والقانون»، الذي استجبت له بكل الصدق لما لمسته في الاتصال الشخصي من مدير عام صندوق دعم الإعلاميين، د. علي عاشور، ظنًا مني أن المشاركة على هيئة ندوة، فأعددتُ لها ما تيسّر، فإذا بها تأخذ شكل الحوارية التي اضطلع بإدارتها الإعلامي أحمد المقصبي بكلمة تقديم سدَّت النقص الذي خشيتُه لإغفال الكثير من منظمي الأنشطة ما يطلق عليه «أوراق العمل» بالانصراف نحو الدعاية للهيئات الداعية ومسيريها.

فاتجه صاحبنا نحو الموضوع تأسيسًا على التاريخ ودوره، فكان في ذلك ما يسر عليَّ الدفع بأولوياتي التي ترى أن الإعلام والقانون عملةٌ ذات وجهين، لا قيمة لهما ما لم تتفق على تلبية احتياجات الوطن وجودًا ودفاعًا وصونًا من المخاطر.

لن أُخفي أنني في حضوري هذا كنت منتعشًا بما أفاض فيه الكاتب إبراهيم الكوني من حديثٍ مليء بالشخصي والعام عمَّا أسماهُ «ثقافة منتصف الستينيات» التي حلَّ بها قادمًا من الجنوب الغالي، وما يزخر به من الثراء التاريخي، ويقترب من الطيف الذي ذكر عددًا من رموزه ممن لم يبخس الكثير منهم حقهم في ذكرياته وتواصلاته وكتاباته التي آثرَ أن يصونها دومًا عن الغرضية ونقيصة التطوع بالكثير مما لا تدعُ الحاجة إليه، ولم يبخل يومًا بالإشادة بها كلما تهيأت له لاحقًا فرص العودة من غيبته، فلا يبخل بالتواصل وأخذ الرأي، ولم يُغْوِهِ تألقه واتساع قاعدته بنسيان واقعه وأعلامه الذين قدَّرَ لهم الأهلية، ولمس منهم في البداية ما رأى واجب ذكره وتأثيره، وتثبيت تاريخ أماكنه في المدينة الصاعدة.

ومن مراجعة تلك الأيام، وما تلاها من متغيرات وأفراد، وكما قلت وأكرر إن الإصرار على الوجود الحقيقي لمن يتخذ من الإعلام بابًا لحضوره مع تفادي شرك القانون من أن يغِلَّ يده أو يُسكت صوته أو يعصف بريشته إنما يبدأ من المراهنة على الممكن أملًا في تحقيق ما يبدو في حكم المستحيل، فقد قبلنا احتكار البعض المقال السياسي، فعالجنا شقيقه الأدبي، والاتجاه نحو سؤال الإبداع وتجلياته في الأسلوب، والمحافظة على اللغة، وليس التوقف الكثير أمام المضمون، حيث يسهل على المتحفزين للاصطياد شبه الأمني ما هدفوا إليه، فخسر المراهنون على الإقصاء رهانهم، واستطاع كل متيقظ للعبة المحافظة على الوجود وتطوير أدواته.

وانطلاقًا من تلك القاعدة وما تلاها من سنين، استُثمِرَت دومًا في الاستمرارية التي اعترف لها من يكره قبل من يحب، إن جازت العبارة. لقد قلنا ونكرر إن على كل من يسلك هذا الدرب أن يواصل الدور دونما اكتراث لأي مثبط، خاصة أن هناك في الفضاءات عامة وخاصة ما يحفز على الاستمرار. كما أن حاجة الوطن كوجود تفرض الحرص على ما هو كائن قبل ذلك الذي يجب أن يكون، وكلما صلُبَ عود الكلمة أمكنها أن تحقق كل ما قد يبدو صعبًا مع الزمن، فالدوام كما يقول أهلنا في أمثالهم «يذوِّب الرخام».

لقد كنت أقول ما أقول وأفكر في ما سأكتب، وبين عيني عديد الشخصيات التي عمرت بهم هذه الأحياء الخالدة كالحاج محمد رجب الغزواني السوكني والشريف أحمد قنابة والسيد أحمد الحصايري والشيخ كامل الهوني والشيخ سالم عكاشة وبشير فحيمة، وغيرهم، وكان يقيني يتضاعف من أن الأثر الشخصي أبقى وأكرم وأعظم من عطاءات السلطات التي سادت وتسود المدينة بعض الوقت، وغيرها من المدن والقرى، تلك التي ما كان لها أن تخلد من دون إسهام البشر ممن كرمهم الله عز وجلّووعدهم بفسيح جناته وواسع رضوانه، ونجد في تاريخهم كل ما يرفع الهمة، ويحول دون منغصات الزمن الذي لن يدوم لأحد ولا مهرب من تقلباته.

____________

مقالات