كمال بن يونس

صراعات بورقيبة ونظام القذافي

س ـ كيف تفسر دخول النظامين التونسي والليبي في صراعات سياسية وإعلامية طويلة منذ وصول العقيد القذافي ورفاقه الناصريينإلى الحكم في 1969؟ هل كانت الخلافات سياسية أساسا أم إنها كانت بسبب مشاركة النظام الليبي وعدد من المقربين إليه والمتحالفين معه في تونس في الصراعات داخل تونس ضمن ما عرف بمعركة خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة الذي استفحل به المرض وتقدم به السن؟

 ـ أعتقد أن طبيعة النظاميين السياسيين في تونس وليبيا، ونرجسية زعيميهما على مستوى الطموح الشخصي للرجلين كانت وراء كل التوترات بين البلدين التي أدت إلى انعكاسات سلبيّة مباشرة على الشعبين.

فإذا كان العقيد القذافي مهووسا بـ النظام الاشتراكيوقيام دولة الوحدةفإن بورقيبة بالمقابل كان يركز على بناء وحدة الدولة القطرية الأمةوتركيز نظام سياسي ليبرالي مستقر مبنيّ على عدم الانحياز في السياسة الخارجية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وخاصة دول الجوار.

وكان بورقيبة كثيرا ما يعتد بنفسه لما كان يتميز به عن غيره ـ من الزعامات العربية ـ من وعي عميق بـمخالب سياسة النظام الدولي الذي سطره المنتصرون في الحرب العالمية الثانيةأثناء مؤتمر يالطا سنة 1945.

بورقيبة له قناعات عميقة في فهمه للحداثة ووعيه بالتاريخ اللذان أثرا في سيرته الذهنيّة والنفسيّة في التعاطي مع الحاضر بأكثر براغماتية. فهو يُقر بالضعف دون يأس من الاستقواء، ويؤمن بأسباب المناعة لدى العالم المتقدم دون استنساخ الشكل. ولعل أهم خلاف برز منذ خطاب الرئيس بورقيبة في قاعة سينما البالمريومفي العاصمة تونس في ديسمبر سنة 1972 في تجمع شعبي تونس كان العقيد القذافي يلقي فيه خطابا عن الوحدة العربيةوالوحدة بين تونس وليبيا

دعا القذافي إلى وحدة اندماجية فوريةبين البلدين بمنهج فوقي. لكن بورقيبة رد عليه وتحدث بعقلانيّة فائقة على كون الوحدة الترابية والسياسية بين الأنظمة ليست هدفا في حد ذاتها ما لم يسبقها تكامل اقتصادي واجتماعي يتم بالتدرج، تُبنى على أسس التكامل المستدام حتى تستفيد منها الشعوب في المقام الأول..

وحذر بورقيبة الرئيس الليبي في نفس الخطاب وفي خطابات لاحقة من مغبة التنطع والدخول في معارك خاسرة معالكبار، من شأنها تحطيم الجانب المعنوي للأمة وهو أغلى ما اكتسبته بعد معارك التحرير التي خاضتها ضد المستعمر.. واعتبر بورقيبة أن المعارك الحقيقية بعد الجلاء العسكري للاحتلال هي تلك التي يجب على الأمة أن تخوض غمارها دون هوادة ضد الجهل والتخلف والانحطاط، وذلك بعدم تنكّب سبل العلم والمعرفة، ومنها اكتساب أسباب القوة لكسب رهان التحرر من التبعيّة للاستعمار الاقتصادي والمعرفي والثقافي.

لكن الغريب في الأمر أن هذه الرؤية الموضوعية والخطاب العقلاني، قد ضاعا وتبخرا بعد أقل من سنتين، أمام شخصيته المهوسة بجنون العظمة والغرور بالزعامة، حيث أمضى في جزيرة جربة، وبصفة فاجأت العالم بما في ذلك فريق حكومته، وثيقة الوحدة الاندماجية مع القذافي في 12 كانون ثاني / يناير 1974.

هذه الوثيقة الوحدويةالتي تصدت لها القوى السياسية داخل النظام التونسي وأدخلتها طي النسيان بعد ساعات من ميلادها، بزعامة الهادي نويرة رئيس الحكومة، كانت نتاج الحكم الفردي والقرار الفوقي الذي كان يخضع لمزاج لبورقيبة الزعيم وليس بورقيبة الرئيس على حساب آليات ومؤسسات الحكم.

وسرعان ما أصبح هذا الحدث فيما بعد، مصدرا رئيسيا في توتر العلاقات واضطرابها بين النظامين الليبي والتونسي لعدة سنوات متعاقبة: وصل الأمر فيها إلى حد العدوانية والانتقام الدموي من قِبَل النظام الليبي.

بقي التوتر والحذر سيدا الموقف بين البلدين منذ ذلك العهد. وواصل نظام طرابلس استفزاز النظام في تونس والتحريض عليه ومحاولة تفجير هزات داخلية اجتماعية من شأنها إرباك النظام التونسي وإسقاط حكومة الهادي نويرة المستهدف شخصيا من قِبَل نظام القذافي باعتباره حجر العثرة أمام الوحدة مثلما يحمله القذافي شخصيا فشل اتفاق جربة.

وفي شهر مارس من سنة 1976، ألقي القبض في تونس على ثلاثة عناصر من الاستخبارات الليبية جاءت لتنفيذ مخطط اغتيال الوزير الأول الهادي نويرة باعتباره المسؤول الأول على إبطال مسعى وثيقة جربة وإفشالها.

حوكم أفراد هذه المجموعة بعد شهر في محكمة أمن الدولة التي قضت بإعدام قائدها وسجن الآخرين. فعمد النظام الليبي بعدها ردا على المحاكمة إلى أسر ثلاثة جنود تونسيين من المركز الصحراوي المتقدم مشقيقعلى الحدود الليبية التونسية حيث كانوا بصدد جلب المياه من بئر على التماس، حين باغتتهم ثلاث سيارات للمخابرات الليبية وتم اختطافهم للمساومة بهم. وهو ما تم فعلا سنة 1977 حيث عدلت السلطات التونسية عن تنفيذ حكم الإعدام واضطرت لمبادلة الإرهابيين بالجنود الثلاثة المختطفين.

كما أنه انفجر تنازع تونسي ليبي على المخزون البترولي بالجرف القاري في المياه الفاصلة بين البلدين والذي كاد أن يتحوّل إلى نزاع مسلح بين البلدين الجارين.

_________________

مقالات