سالم الكبتي
(إنتوا رايحين فين.. بس!)
نهاية هذا العام يكون قد مضى على إنشاء أول جامعة في ليبيا سبعون عاماً. بدأت في ديسمبر 1955.
توهجت عدة أعوام ثم انطفأت في أبريل 1973 خلال الحراك العنيف الذي شهدته البلاد ورجها رجا بكل انفلات فيما سمي بالثورة الشعبية التي قلبت الأمور وعطلت القوانين وقادت الكثير إلى المعتقلات وغيرت نظام الإدارة وطالت مسميات الأندية الرياضية وغيرها. كانت الحجة هي الثورة الثانية في ليبيا التي ينبغي أن تكون فريدة وغير تقليدية في العالم.
الثورة أو الفوضى التي عمت الوطن التفتت إلى الجامعة الليبية واستهدفتها رمزا ومعلما وعنوان هوية ومؤسسة صانعة للمستقبل وضربتها في قلبها الواحد وجعلتها جامعتين. الأولى في بنغازي والثانية في طرابلس. القرار أو الأمر أو التوجيه أو المهزلة – سم ما شئت – أخذ في غفلة. تبناه بعض الطلبة والأساتذة من الثوريين يومها ونادوا به واتخذوه وصار أمرا واقعا لا فكاك منه. الفوضى تتلازم مع الغفلة. التهور يطيح بالتاريخ.
لم تكن هناك وثيقة أعدت رسميا في هذا الشأن. لم يكن ثمة ما يشار إليه مكتوبا في قرار وظل الفعل مجهولا. لم تكن ثمة نقطة استناد أو قانون. بعض هؤلاء الثوريين الذين اختفوا وراء المهزلة تصدروا وقادوا مرحلة فبراير فيما بعد.
كان بمقدورهم الإبقاء على كيان الجامعة موحدا ومرجعية تاريخية ووطنية ومعنوية يحمل اسمها العديد من الدلالات والمفاهيم. كان بمقدورهم أيضا المضي إلى تكوين جامعات ومعاهد جديدة إذا أرادوا.
وهذا ما رآه الجميع لاحقا. أسماء عديدة وجامعات خاصة ومعاهد عليا انتشرت كان الكم فيها قد طغى على الكيف. واختفت منذ تلك الفوضى الجامعة الليبية اسما ورمزا ومعنى وعنوانا جميلا كان ينبغي أن يبقى وأن يستمر فيما بقي الأمل يفعم الأحاسيس بعودة الاسم تقديرا وتجديد الاعتبار له.. ولكن ذلك لم يحدث.
ومن الإحسان أن يشار إلى وجود خطوات جيدة في تأسيس جامعات أخرى غير أن الأغلبية لم تنلها الجودة. ظللنا نسمع عن الفوضى العلمية والإدارية. إدارة الطلاب والإدارة الذاتية والزحوف وضرب الأساتذة وإهانتهم وتوجيه الإنذارات لهم وشنق الطلاب وسط الكليات والضعف الأكاديمي الذي اعترى المناهج والدراسات وترحيل الطلبة في نفس عام الفوضى.
سابقة لم تحدث سوى أيام جامعة بغداد عام 1960 في عهد عبد الكريم قاسم عندما استأثر الطلاب الثوريون الشيوعيون وانفردوا بدور العلم هناك ووجهوا التهم والعقوبات لمن طالته الشكوك بحجة البعث والقومية وما إليها.
صراعات لا جدوى منها يضيع معها كل أمل وحلم جميل على مستوى المنطقة التي تظل تكتوي بنيران التخلف. الطلبة الذين رحلوا هناك وهنا وهناك صار ما حدث لهم سبة تلاحقهم ورفضت جامعات على مستوى العالم قبولهم لاستكمال دراساتهم العليا.
اختارت لهم الدولة مجالات أخرى. الفوضى تلد الفوضى وتنشر الخراب وتقطع الطريق على عوامل التقدم.
وكان ما حدث عندنا استنساخا ومسخا لما وقع في أماكن أخرى لصور التخوين والتهم والطرد والتصفية. أضحت معاقل العلم ساحات للخراب الوطني والعلمي والفكري والنفسي. وقع الخلل الرهيب في البنى التعليمية وهاجرت العقول والكفاءات وأجدبت الأرض الأصلية دون مطر ولاقى الكثير منها النجاح والترحيب في أماكن استقرارها الجديد.
ظلت الجامعات عندنا تتجه إلى إيجاد (الإنسان العقائدي) وسيطر لون الفكر الوحيد على كل المفاهيم.
الجامعات اختزلت الدروب الصحيحة وظلت أقفاصا للتدجين ومعامل لتفريخ الحقد. طلاب يخافهم الأساتذة والعاملون أو يسيرون في قافلتهم خوفا وطمعا. ووصلت الجامعات إلى النتائج البارزة الواضحة اليوم عندنا من ضعف وانهيار علمي.
لا مكان للبحوث الميدانية الجادة ومراكز الدراسات واستطلاعات الرأي والقياس. والانتحال والسرقات وكتابة الرسائل العلمية بواسطة الغير والأخطاء التي لا تغتفر في إعداد بحوث الترقيات وعزوف الطلبة عن العمل العلمي الجاد وانبهارهم بالنواحي المادية والمظاهر الأخرى. لماذا حدث ذلك. الإجابات واضحة لدى الجميع.
سبعون عاماً تمر على أول جامعة ليبية كانت على الدوام مضرب المثل في النمو والتطور وظلت رغم ما حدث ويحدث متوهجة بتاريخها رغم محاولات الطمس والنسيان والجهل بهذا التاريخ.
هذا التطور العملاق جعل من وزير التعليم العالي في مصر ينبهر بما شاهده أو سمع عنه. أشار الى رئيس الجامعة الليبية وقتها الأستاذ عبد المولى دغمان في اجتماع بالإسكندرية صيف 1969 لرؤساء الجامعات العربية.. أشار بالقول الصراح: (إلا أوللّي.. إنتوا رايحين فين بس!). وهذا البس قطعه المزيد من التطور.
هذا البس وهذا القول يلخص نهضة الجامعة الليبية وتاريخها المهيب كله الذي انقضى ومر ومحاه قرار مجهول لم يتحمل أحد مسؤوليته حتى الآن. كانت الجامعة الليبية من الجامعات العربية الوليدة مبكرا في بداية الخمسينيات. ثم قفزت وتطورت وكان يرعاها الانتماء والإخلاص ولا يتوقف عند حد.
شهدت وجود القامات العلمية الوطنية والعربية والأجنبية. وحرية البحث والفكر. كانت مشروعا لصناعة المستقبل. بتأثيرها البالغ في توطين العلم والتلاقح مع الجامعات العريقة في العالم وتوفير مكتبة راقية ومواسم ثقافية كاملة الأركان ومدينة جامعية وخدمات راقية.
وعاملين أصحاب خبرة وقيادات إدارية بعيدة عن الشبهات وبعثات وإيفاد لم ينقطع وتواصل مستمر مع كل جديد حولنا ويهمنا ومشروعات علمية وغير ذلك الكثير نهضت به الجامعة الليبية بكل صبر ومعاناة حالفه التوفيق على الدوام وكان ينبغي أن تبقى وتستمر. وكان يجب أيضا أن تعود باسمها الشهير ودلالاته العميقة.. ولكن!
إن هذا التاريخ العلمي للجامعة الليبية التي كانت ثم أضحت أماً لعديد الجامعات جدير بأن يناله التقدير. شهور قليلة كفيلة بأن تحقق ذلك إذا ما صح العزم. بالإمكان عقد ندوات علمية جادة وفعالة عن دور الجامعة وريادة المستقبل وإعداد القادة في المجتمع وخلق الأجيال الواعية.
وإصدار كتاب تذكاري عنها تنشر فيه الدراسات والمقالات عن كيف نشأت الجامعة الليبية وعن إنجازاتها والرؤية للحاضر والقادم وتجربتها من خلال من عاصرها. وإقامة متحف جامعي يرصد تاريخها بالوثائق والصور وغيرها.
وتكريم من بقي من دفعتها الأولى التي تخرجت في العام 1959.. على الأقل بمنحهم شهادة الدكتوراة الفخرية (مثالا في مقدمتهم.. إبراهيم الهنقاري وأبوبكر تنتوش وعبد الحميد الطيار وصالح جبريل) وكذا لجنة الجامعة التي شكلت بعد مرسوم إنشائها لمتابعة تنفيذها واقعا على الأرض..(عبد السلام بسيكري وزير المعارف يومها ومحمود البشتي أول مدير لها وإبراهيم أحمد المهدوي عميد الحقوق لاحقا وأحمد فؤاد شنيب ومستشارها الفني محمد فريد أبوحديد و مصطفى بعيو و إبراهيم البكباك) ومحمد حمي أول مسجل للجامعة.
بالإمكان إعادة توهج التاريخ بإطلاق أسماء أساتذتها الأوائل ومن بعدهم ومن ساهم في انطلاقتها على مدرجات وقاعات الجامعتين في بنغازي وطرابلس. وغير ذلك الكثير. فهل يصح العزم في الجامعتين اللتين كانتا بذرة انطلاقهما في ذلك الشتاء البعيد منذ سبعين عاماً.. جامعة اسمها (الليبية)!!
_________________