يوسف عبد الهادي
بعد فشل مداولات الزويتينة في الوصول إلى شيء بين الأمير إدريس والإيطاليين ومع ازدياد شدة الظروف المُهلكة التي حاقت بالناس، وفي شهر يناير من سنة 1917 بدأت المفاوضات من جديد بين السيِّد إدريس من جهة، وبين الحليفتين: إيطاليا التي يمثِّلها المفاوضان الكولونيل ديفيتا والكومندتور بينيتور
وبريطانيا التي يمثِّلها الكولونيل الإنجليزيّ تالبوت، من جهة أخرى.
كان مكان المفاوضات الذي اختاره السيِّد إدريس هذه المرَّة هو فضاء عكرمة بالقرب من طبرق.
وبعد مداولات مرهقة تجاوزت ثلاثة أشهر حدث خلالها تقاذف متبادل لمسوَّدات التفاهم بين الأطراف الثلاثة، وتحديدًا في السادس عشر من شهر أبريل تم التوقيع على وثيقة هي أقرب إلى (صيغة تعايش) منها إلى الاتِّفاقيَّة، وقد تعهد فيها الطرفان:
بإيقاف الأعمال العدائيَّة،
وإطلاق الأسرى من الجانبين،
وإعادة جميع المنفيِّين من الجزر الإيطاليَّة،
والسماح بالتبادل التجاريِّ بين المناطق التي يحوزها الجانبان،
وأن يسيطر كلٌّ من الطرفين على الأمن في منطقته مع عدم إنشاء أيَّة معسكرات جديدة لكلٍّ منهما.
ولم يُذكر في الاتِّفاق شيء عن موضوع سيادة إيطاليا على البلاد والذي كان الجانب الإيطاليُّ يغرسه في طاولة المداولات منذ أوَّل اجتماع بالزويتينة العام الماضي؛ “أي أنَّ إيطاليا –كما يقول بريتشارد– لم تسحب دعواها في حقِّ السيادة، والسنوسيَّة لم تتنازل لها عنه».
كما أنَّ الاتِّفاق أيضًا لم يتطرَّق إلى مطلب تسليم السلاح، وهو ما كان السيِّد ليسمح به أبدًا.
لقد كان الأمير متأكدًا من أنَّ إيطاليا المنشغلة الآن بالحرب العظمى الأولى لن تتصلَّب أكثر من ذلك.
يضيف بريتشارد :
وقد لام بعض الكتَّاب الفاشيِّين فيما بعد حكومة بلادهم التي وقَّعت تسوية عكرمة، غير أنَّه لا حقَّ لهم في ذلك، فالواقع أنَّها ما كانت تستطيع أن تستخلص من السيِّد أكثر من تنازلات كلاميَّة.
أمَّا مع البريطانيِّين فقد وقع السيِّد إدريس في اليوم التالي على تسوية تضع حدًّا لتهديد السنوسيِّين لمصر.
يقول بريتشارد :
“كان البريطانيُّون أقوياء، ومع هذا لا يطلبون أكثر من الأمن العسكريِّ، الذي كان بمقدورهم الظفر به بالوسيلة العسكريَّة، أمَّا السيِّد إدريس فكان لا يستطيع أن يتأمَّل في أن يكسب الدورة لنفسه، لكنَّه أمسك ببضع ورقات جيِّدة، فهو يتوقَّع أن يربح بعض الجولات إذا ما أحسن اللعب بورقاته، كان موقفه العسكريُّ ميؤوسًا منه، وكان من الممكن له مواصلة قتال الإيطاليِّين وحدهم، حتَّى بعد هزيمة السنوسيِّين في الصحراء الغربيَّة، لكنَّه لم يكن له حظٌّ في النجاح ضدَّ البريطانيِّين، وسرعان ما أدرك أنَّه لن يستطيع التفريق بينهم وبين حلفائهم.
كان شعبه مرهقًا، جائعًا، عاجزًا عن الحركة، وينشُد السلام، ومن ناحية أخرى كان السيِّد إدريس يفطن إلى أنَّ الحلفاء متلهِّفون إلى الوصول إلى اتِّفاقيَّة معه بأسرع وقت ممكن، فالتأخير الذي يكلِّف البدو مشقَّة هم معتادون عليها إنَّما يكلِّف الحلفاء ألوية عسكريَّة يحتاجونها في صراع الحياة أو الموت بينهم وبين دول الوسط”.
إذًا فقد نجح إدريس –كما تقول إحدى الوثائق السرّية الإيطالية– (في فكِّ الحصار والمحافظة على البقيَّة المتبقيَّة ممَّن نجوا بمعجزة من القحط والوباء اللذين عمَّا البلاد وفتكا بهؤلاء الأهالي).
أيضًا فقد حقَّق السيِّد مكسبًا معنويًّا آخر لشعبه جرَّاء هذه التسوية؛ إنَّه الشعور الذي تولَّد عند الأهالي بوجود مرجعيَّة وطنيَّة تنافح عن مصالحهم، فلم يعد هذا الشعب مضطرًّا إلى انتهاج سياسة التقارب مع سلطة المحتلِّ طلبًا للنجاة، وهو ما عبَّر عنه والي برقة الإيطالي الفاشي تيروتسي بعد عشر سنوات قائلًا:
فالسنوسيَّة منذ هذه اللحظة أصبحت – قانونيًّا بحكم الاتِّفاقيات – المعبرَ الرسميَّ” المعترف به ضمن ما يدَّعى بحقوق الأهالي”.
بالفعل بدأت السنوسيَّة في قطف ثمار التوقيع على تسوية عكرمة والسير في عمليَّة لملمة شملها ونجحت كما يقول غراتسياني: “في استعادة مختلف القبائل تحت سلطانها المباشر فعرقلت بالتالي اتِّصالات إيطاليا التي كانت قد بدأتها مع الزعماء المحلِّيِّين”.
يضيف بريتشارد:
“ومن الواجب التأكيد مرَّة ثانية على أنَّ السيِّد قد وقَّع الهدنة مع البريطانيِّين والإيطاليِّين دون استشارة الأتراك، كما أنَّه وقَّعها مع البريطانيِّين باسمه الخاصِّ، لا كزعيم خاضع للسيادة الإيطاليَّة”.
لقد بدا واضحًا أنَّ إدريس كان ينشُد السلام لشعبه أوَّلًا، ثمَّ ينظر إلى ما يمكنه الحصول عليه بعد ذلك، ومن خلال الوثائق والمراسلات وما أجمعت عليه أغلب المصادر، هو أنَّ برقة دخلت بعد توقيع وثيقة عكرمة مرحلةً هامَّة من الاستقرار مكَّنت السنوسيَّة من ترتيب أوضاعها وتأمين مصالح القاطنين في المناطق الواقعة تحت نفوذها، والأهمُّ من هذا كلِّه شروعها في تشييد الحاجز المعنويِّ بين الإيطاليِّين والشعب البرقاويِّ؛ للحيلولة دون استقطابه إلى الجانب الإيطاليِّ.
يقول المجاهد أبوسيف ياسين المغربيُّ –الذي صار فيما بعد وزيرًا في العهد الملكي، شارحًا الظروف التي حاقت بقبيلته في ذلك الوقت:
“في سنة 1335 هـ اشتدَّت الحرب بين الشرق والغرب، واشتدَّ الغلاء والقحط، بحيث انتقل كثير من المغاربة إلى الواحات، ولم تحصل في هذا العام معارك مع الإيطاليِّين، وكان جهاد المجاعة أعظم وأمرَّ من الحرب، وبقي المغاربة بين ثلاث حروب؛ حرب الإيطاليِّين من الجهة الشرقيَّة، وحرب قبائل الغرب من الجهة الغربيَّة، وحرب المجاعة.
وكانت الأخيرة أشدَّها خطرًا، ولولا مداركة الأمير السيِّد محمَّد إدريس السنوسيِّ للأمر، لقضي على أغلب المغاربة، فاحتاط لهذه الأمور الخطيرة التي أحدقت بهاته القبيلة، وجعل هدنة مع الإيطاليِّين سنة 1917، وهي الحلُّ الوحيد لمعالجة المجاعة والحرب من جهة الشرق، وجعل قوَّة عسكريَّة في الحدود الغربيَّة لمنع الغزوات من الطرفين.
وبعد هذه الترتيبات استراحت قبيلة المغاربة كسائر القبائل التي تحت السنوسيَّة، وأخذت ترجع فيها قوَّة الحياة شيئًا فشيئًا، ولم ينته عام 1923 حتَّى عادت لها قوَّتها المعنويَّة ورأس مالها (الحيوان)، فلم تحضر الحرب مع الإيطاليِّين سنة 1923 إلَّا وهي كقوَّتها قبل دخولها للحرب سنة 1911”.
وهو ما عبَّر عنه المجاهد المصري (محمد ابراهيم لطفي) المعاصر لتلك الأحداث بقوله:
“ومع كلِّ هذا الحيف الذي أصاب شعب برقة في معاهداتها المشار إليها، فقد وجد منها الشعب البرقاويُّ بابًا للفرج”. أهـ.
_____________
المصدر: صفحة جبرين حبور على الفيسبوك