محمد عبد الحفيظ الشيخ

رابعاً: التجربة الليبية المعاصرة في عملية الانتقال الديمقراطي

بعد سقوط نظام القذافي في أواخر 2011، تطرح التجربة الليبية جملة من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية الداخلية التي رافقت السنوات منذ ما بعد التغيير والفشل في تقديم حلول ومعالجات جادة لها. وتعدد التدخلات والتأثيرات الخارجية بأنواعها المختلفة، الإقليمية والدولية والأممية.

كل ذلك ترك، ولا يزال، وسيترك آثاراً في مجمل أوضاع المشهد الليبي الذي يتميز بحالة من عدم الاستقرار ودوامة العنف والتوتر وإنتاج وإعادة إنتاج الأزمات بأنواعها المختلفة. ولكن ذلك لا يلغي عدة حقائق جديرة بالاهتمام يجب الإشارة إليها:

القضية الأولى: في العام 2011 سقط نظام مستبد، حكم ليبيا لأكثر من اثنين وأربعين عاماً، ومارس أبشع صنوف القمع والتنكيل بحق الليبيين، سواء في الداخل أو الخارج، وافتعل الأزمات والحروب مع الدول المجاورة. وبسقوط النظام المباد طويت صفحة الدولة الشمولية التي استمرت لأكثر من 42 عاماً (1969 – 2011).

القضية الثانية: منذ العام 2011 حتى الآن أنجزت خطوات مهمة غيّرت طبيعة والنظام السياسي وشكله الذي تحول من الاستبداد باتجاه الديمقراطية، وما رافق العملية السياسية من مكاسب مهمة كالتعددية السياسية والحزبية. لقد أجرت ليبيا أول انتخابات ديمقراطية في سابقة هي الأولى من نوعها بعد أكثر من نصف قرن في تموز/يوليو 2012، وتم انتخاب مؤتمر وطني من 200 عضو ليتولى قيادة المرحلة، كما حددتها خريطة الطريق بالإعلان الدستوري المؤقت.

وبدأت قوى سياسية مختلفة بالتعبير عن نفسها بأشكال وتعبيرات وتمثلات متعددة، بولادة أشكال ومستويات مختلفة من العمل السياسي الحزبي أو المجتمع المدني؛ حيث تشهد الساحة ولادة منظمات وتنظيمات جديدة باستمرار.

إلا أن انتخاب مجلس النواب في 25 حزيران/يونيو 2014 وما أسفر عنها من نتائج، والتي أظهرت عن هزيمة ثقيلة للجماعات الإسلامية وصعود وجوه مدنية بالأساس، أدت إلى اندلاع الاضطرابات وتصاعد أعمال العنف التي شهدتها مدن ليبية عدة.

وعكس الاقتتال الدائر في طرابلس وبنغازي مدى الانقسام الذي وصلت إليه النخب الليبية وحجم التصدع في النسيج الاجتماعي الذي تنامى بين عدد من المدن الليبية بسبب التصارع على مراكز السلطة والموارد والنفوذ. هذا الصراع تسبب في خسائر مادية وبشرية أثرت في حياة المواطن وأصبح يهدد بدخول البلاد في نفق مظلم من التجاذبات والاقتتال في ظل تعنُّت الأطراف المتقاتلة التي لم يستطع أي منها الحسم لمصلحتها حتى اللحظة، وما سيترتب عنه إطالة أمد الصراع، ما يهدد تماسك الدولة الليبية وسيادتها.

في ضوء ذلك يمكننا القول إن ليبيا تمر بمرحلة انتقالية، ترافقها مجموعة من المشكلات وعلى مختلف الصعد. هذا التحول أنتج – إضافة إلى المكاسب التي تمت الإشارة إليها – ديمقراطية هشة، وأزمة ثقة بين القوى السياسية والمكونات الاجتماعية.

فالديمقراطية في ليبيا ما زالت في طور التخلص من ذهنية ما قبل الديمقراطية. لأن الديمقراطية لا تعني مجرّد انتخاب، وإنما هي منهج وقيم وحالة ثقافية لا تلقينية، إنها تفترض تأطير النوازع السلطوية البدائية وكبحها، وهذه عملية تتحقق بالتمرين والمراس، وتقود إلى نظام حكم يقوم على الترتيبات المؤسسية والاجتماعية الأساسية التي تشيّد هيكلية آليات الحكم وتحدد وسائل ومضمون العلاقات بين الدولة والمجتمع على أسس ديمقراطية.

كما إن عملية الانتقال الديمقراطي تتطلب بيئة اجتماعية حضارية ترفض همجية العنف لمصلحة التعامل السلمي، وترفض التفرد بالقبول بالتعددية، وتقوم على بناء دولة قانون ذات مؤسسات سياسية واجتماعية قوية تحترم إرادة الناخبين من خلال تكريس التعددية السياسية ومبدأ التداول السلمي للسلطة.

لكننا في التجربة الليبية افتقدنا مثل هذه السياسة. لقد شهدت البلاد الصدامات المسلحة، وغيرها بين مختلف الجماعات التي كانت توحدت في مواجهة نظام القذافي، هذا الصراع يتميز بغياب القادة الملتزمين بالديمقراطية، فيما ارتفع عدد الحوادث المرتبطة بهذا الصدام والصراع على الموارد والوظائف والزعامة.

لا يبدو أن الطبقة السياسية الموجودة الآن التي تشكل المؤسسات الانتقالية، تعكس ما يمكن أن نسميه التوجه العام المجتمعي، بل تعبر عن توجهات مختلفة ونزعات متعلقة بالأطراف التي تنافس المركز، وتعبر عن مصالح فئوية متنوعة وتغلب عليها روح الحصول على المكاسب، وهو ما يرسّخ القبلية والجهوية والشخصنة وغيرها من الممارسات، بما يؤدي إلى المزيد من الانقسامات، فيجعل الطريق نحو الديمقراطية متعثراً ومليئاً بما هو أكثر من العقبات والتحديات.

يتبع

***

محمد عبدالحفيظ الشيخ – عميد كلية القانون، جامعة الجفرة ـــ ليبيا

_____________

مركز دراسات الوحدة العربية

مقالات