محمد عبد الحفيظ الشيخ

ثالثاً: عوامل تعثر المسار الديمقراطي في ليبيا

ترافقت العوامل الداخلية، وبصفة خاصة الاعتبارات القبلية والمناطقية وما ترتب عن سلوكاتها من نشوء تشكيلات لجماعات تنتهج العنف في ترجمة مظالمها ومطالبها، مع بعض العوامل الخارجية، المتمثلة بتقديم الدعم لقوى خارجية في الصراع بين قوى سياسية ليبية لمصلحة طرف دون آخر، مؤدية إلى مزيد من تصاعد أعمال العنف وتفاقم الأزمة السياسية في ليبيا. جملة تلك العوامل كان لها أثر مباشر في تعثر المسار الديمقراطي.

1 – عوامل داخلية

بينّت مرحلة ما بعد سقوط نظام القذافي وضعية ليبيا على أنه بلد غير مستقر وتسوده التنافسات السياسية والأيديولوجية القاسية، ووليدة التجربة ما ينذر بدخول البلاد بين المجهول ومخاطر الفوضى. وأفرز الوضع الليبي عدة ظواهر، أبرزها:

  • التدهور السياسي وفقدان الأمن وانتشار الميليشيات والسلاح خارج إطار الشرعية
  • وغياب الخدمات واستشراء الفساد وتصاعد الأزمات السياسية وضعف المؤسسات خصوصاً الأمنية والعسكرية
  • ورافق ذلك تحولات بنيوية في طبيعة الحكم قادت إلى تبلور طبقات سياسية منفصلة عن بنية المجتمع نفسه، ومنها نجد فقدان ثقة المواطن بالنخبة، وفقدان الثقة بين النخب، وفقدان الثقة بين المكّونات.

وهكذا سقط نظام القذافي ليترك مجتمعاً منقسماً، تسوده فوضى سياسية، وهشاشة مؤسساتية، وقلق على المستقبل في ظل غياب مرجعية متفق عليها، وفي ظل طبقة سياسية تتصرف بناءً على مصالحها الضيقة، وهي الإرث الذي خلّفه نظام القذافي، في حين أن الليبيين كانوا بحاجة إلى دولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة والمجتمع المدني، إضافة إلى دولة قوية تكمن في مؤسسة عسكرية وأمنية تتكون في إطار الشرعية المنبثقة من الإرادة الشعبية الجديدة بعيداً من المحاصصات المناطقية والفئوية، لا أن نستبدلها بالعصابات التي تمارس عمليات التخريب الآن، أو خيار عسكري يعود بنا إلى الحقبة السابقة.

وهذا جزء من سيناريو تشويه المكسب الثوري وإطاحته. كما هم بحاجة أكبر إلى هامش كافٍ من الوقت لنجاحها وليس بحاجة إلى دولة الميليشيات التي تصنع وتفرّخ بعيداً من الأجندة الوطنية.

إن ما جرى، وبخاصة في الآونة الأخيرة، من أحداث الاقتتال المتكرر بين المسلحين، خصوصاً حول مطار طرابلس العالمي بين مناطق مصراته والزنتان وما صاحبها من أزمات متتالية، هي تعبيرات عن حراك ينم عن توتر لا ينبغي تجاهله. هذا التوتر يعكس هوة بدا من الواضح أنها باتت تفصل بين السلطة والناس.

فقد اتضح تماماً أن السلطات الانتقالية لا تمتلك حتى الآن أي سلطة مدعومة بالقوة إلا السلطة المعنوية أو الأدبية، حيث لا يمكنها إقرار البرنامج الانتقالي على الأرض من دون الحصول على توافقات، إذ جعل موقف القوى السياسية المختلفة وفئات الثوار من توافرها أمراً صعب المنال.

علاوة على ذلك، هناك مخاوف أن تُضرب المصالحة الوطنية عرض الحائط نتيجة لقانون العزل السياسي، الذي تم إقراره تحت تهديد السلاح ومحاصرة واقتحام وزارتي العدل والخارجية من قبل الميليشيات المسلحة.

إن ما عرف بقانون العزل السياسي يغامر ليس فقط بتوفير الظروف الملائمة لنشوء معارضة قوية، بل إنه يفتح الباب لانقسام أكثر تتضاءل أمامه القدرة والرغبة في التسامح، وهو ما يعرّض الديمقراطية الناشئة للخطر؛ خصوصاً إذا اعتمد منهج واسع في تنفيذه، ما يؤدي إلى تهميش جزء كبير من الشعب الليبي ويهدّد وحدته. لقد بدأت تداعيات هذا القانون واضحة في عدد من الأزمات الأخيرة.

كما أصبح الإرهاب والتطرف الديني يشكل خطراً يهدد مسار التحول الديمقراطي في ليبيا إلى درجة أنه يهدد وحدة وكيان الدولة، وأن استمرار انتشار الإرهاب والتطرف وعدم محاربته بكل الوسائل المشروعة قد يتسبب في تعطيل أو تجميد عملية التحول الديمقراطي وقد يقضى عليها تماماً، وخصوصاً أن ليبيا لم تزل تعاني غياباً واضحاً في الأمن وانتشار فوضى السلاح والميليشيات خارج سلطة الدولة.

لقد أضحت أزمة الشرعية في ليبيا هي محور الصراع السياسي بين أغلب المكوّنات، فعدم استقرار الوضع السياسي أثناء عملية التحول الديمقراطي أدى إلى استمرار الصراع والتنافس السياسي حول الشرعية ما بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية والقانونية، خصوصاً في ظل التنافس الحاد بين مجلس النواب في طبرق، والمؤتمر الوطني العام في طرابلس بعد إصدار المحكمة الدستورية بعدم شرعية مجلس النواب الذي زاد من تفاقم الأزمة السياسية في ليبيا، ناهيك بتراجع الفكر الديني المعتدل وضعف خطابه.

فكلما فشل الفكر الديني المعتدل في أن يكون الضابط للخطاب الديني السائد وأن يكون المرجعية للتيارات الإسلامية السياسية، كلما زاد انتشار الخطاب المتطرف في مواجهة الخطاب الديني المعتدل سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، وبالتالي ساعد على توفير المناخ الملائم لتنامي خطر الإرهاب والتطرف، ما يهدد العملية الديمقراطية بأكملها، كون الفكر المتطرف هو أحد العوامل والأسباب التي أوجدت الإرهاب والتطرف.

2 – عوامل خارجية

لا شك في أن للعامل الخارجي أثراً كبيراً في ما تمر به ليبيا من عدم الاستقرار وغياب الأمن، وحضور العنف بأبشع صورة، ليزيد من تعقيدات الوضع الداخلي وصعوبة تحقيق المصالحة الوطنية بين الفرقاء السياسيين في ليبيا.

ففي سياق العبث الخارجي الذي يلعب بعيداً من اعتبارات المصالحة الليبية وأهميتها في معادلة الاستقرار والأمن الداخلي، أكدت تقارير استخباراتية أن ثمة دوراً لبعض البلدان العربية في ما يحدث في ليبيا، رغبة منها في السيطرة على الحركات المتشددة، وحرصها على كبح نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا.

ناهيك برغبة هذه الأطراف الجامحة إلى تبديد المخاوف الثورية على تخومها، وحشر الربيع العربي في زاوية ضيقة. وترصد هذه التقارير دعماً مالياً ولوجستياً لتحركات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بالتوازي مع الدعم الاستخباراتي والتقني.

وقد أفاد مسؤولون أمريكيون بأن طائرات إماراتية مستخدمة قواعد عسكرية في مصر نفذت غارات جوية على متشددين في العاصمة الليبية طرابلس في آب/أغسطس الماضي. لكن مصر من جانبها نفت ضلوعها في الغارات. ولم يرد أي تصريح مباشر من الإمارات.

ورأى تقرير وكالة أسوشيتد برس الأمريكية أن التدخل العسكري المصري يعزز فكرة أن ليبيا أصبحت ساحة معركة بالوكالة لصراعات إقليمية أكبر (تركيا وقطر بدعمها للمتشددين الإسلاميين، ومصر والسعودية والإمارات والجزائر بدعمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر).

أدت العوامل السابقة في مجملها إلى تصاعد أعمال العنف القبلي والمناطقي، حيث سجلت العديد من المدن حدوث انتهاكات كثيفة لحقوق الإنسان، وخصوصاً في منطقة قبائل ورشفانة جنوب طرابلس وككلة في الجبل الغربي، الأمر الذي دفع المفوضية العليا لحقوق الإنسان إلى إرسال محققين لتقصي الحقائق وإجراء تحقيقات في الانتهاكات التي ارتُكبت في أثناء أعمال العنف التي وقعت مؤخراً.

ولم تقتصر تداعيات الأزمة على الأوضاع السياسية، بما في ذلك تدهور الأوضاع الأمنية والاستقرار في البلاد فحسب، بل شملت أيضاً الظروف المعيشية والأوضاع الاقتصادية للمواطنين، من نقص في الوقود والغذاء وارتفاع في الأسعار.

يتبع

***

محمد عبدالحفيظ الشيخ – عميد كلية القانون، جامعة الجفرة ـــ ليبيا

_____________

مقالات