د. يوسف محمد الصواني
أولاً: التعابير الساخرة في ليبيا في عهد القذافي
سعى نظام القذافي إلى استنساخ التجربة الأوروبية الشرقية مثلما استعان بخبراء ومختصين من هذه البلدان وعمل من خلال استخدام آليات التوجيه والأدلجة للسيطرة على كل وكلاء التنشئة الاجتماعية بدءاً من الأسرة والمسجد والمدرسة مروراً بالأعلام ووسائطه المتعددة.
لقد أمعن نظام القذافي في تبني سياسات وأساليب أراد من خلالها تشكيل الثقافة والمخيال الشعبي ولم يترك مناسبة إلا واستثمرها لهذا الغرض مثل اللعب على الحساسيات القبلية أو الجهوية وتوجيه القدرة المحدودة عموماً على إنتاج النقد السياسي في مستواه الشعبوي نحو إنتاج النكت الموجهة لمناطق أو قبائل بعينها لإخراجها من حيز الشأن العام.
لقد وصل الأمر لإصدار قانون يجرّم ويقضي بعقوبات قاسية على كل من يتهكم أو يشيع نكتاً أو إشاعات تتعلق بشخص القذافي أو مؤسسات النظام.
ووفقاً لبعض الدراسين، فقد واجه النظام الرغبة الشعبية في التنفيس من طريق النكتة وقدّم حلولاً سياسية للاستجابة لهذه الحاجة النفسية. يوضح الكاتب الليبي عمر الككلي أن النظام ساهم في إنتاج نكت محلية الصنع وليبية تماماً بترويج نكت اتخذت من بعض الشخصيات في النظام مادة لها، ومن بينهم أبوبكر يونس جابر، الذي كان أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة وقائداً عاماً للقوات المسلحة. «هذا كان أمراً مخططاً له من قبل القذافي يتمثل في إيجاد «بالون حراري» هو أبوبكر يونس جابر يجتذب «صواريخ» التعابير السياسية الساخرة بدلاً من أن تتجه إليه هو شخصياً.
إن اختيار أبو بكر يونس جابر مادة لهذه العملية يمثل فعـلاً دهائياً من قبل معمر القذافي استغل فيه العنصرية الكامنة لدى الليبيين من حيث تصورهم لذهنية الزنوج وقدراتهم العقلية».
حداثة الكيان السياسي ذاته من ناحية، وبفعل الآثار الواسعة لاقتصاد الريع من ناحية أخرى، مد الدولة بقدرات هائلة على جميع المستويات مثلما يجعل الأفراد يحرصون على الحصول على الثروة من خلال ما توزعه الدولة وليس من خلال ما ينتجونه مباشرة.
لم يتمكن الليبيون على ما يبدو من إنتاج نمط المقاومة الذي شهدته مجتمعات أوروبا الشرقية على المستوى الذي أشرنا إليه وإن قاموا بعد أكثر من أربعة عقود من الشمولية بإحداث المفاجأة التي حيّرت في نطاقها ودرجتها ليس الخارج فقط بل وأكثر علماء السياسة والاجتماع متابعة وفطنة عندما انضموا إلى مسيرة الاحتجاجات التي عُرفت بالربيع العربي.
مات القذافي ليتم بذلك إصدار شهادة الوفاة الرسمية لنظامه الذي أرهق الروح الشعبية لكنه لم يتمكن من وأد البذور الجنينية لنشوء روح السخرية والدعابة والنكتة في الحاضر الشعبي اليومي.
إسقاط النظام عبر التدخل الخارجي فسح في المجال أمام الليبيين فأثبتوا أن مكوّن التعابير السياسية الساخرة والطرافة أو المداعبة لم يمت تماماً، وإن كان لا يزال بحاجة إلى فترة أطول ليؤتي ثماراً إيجابية.
ورغم أن المرحلة الحالية لم تُظهر أي تعبيرات واضحة لأي مكوّنات كانت تعتمل تحت الأرض بالمستوى أو الدرجة التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية، فإنه يبدو أننا أمام ظاهرة تستحق الاهتمام لما لها من صلة بمسائل العلاقة بين المجتمع والدولة من ناحية ولصلتها بالسياقات العامة لعمليات التحرر من الشمولية والانتقال الديمقراطي من ناحية أخرى.
هذه الظاهرة تطرح أيضاً أسئلة حول الربيع العربي وحول عملية الاستقطاب التي سببتها الإطاحة بالقذافي في المجتمع الليبي.
يمكن الاستدلال على هذا التطور بما تم إنتاجه في الثقافة الشعبية اليومية من تعابير ساخرة أو طرائف ونكات غلب عليها الطابع والمدلول السياسي وتم تداولها على نطاق واسع في المرحلة التالية لإسقاط النظام من خلال الرسائل النصية الهاتفية التي تغني عن الحاجة إلى القيام بزيارة الأصدقاء والأقارب.
ظاهرة الاستقطاب تجاه القذافي ونظامه برزت واضحة للعيان خلال هذه الرسائل النصية التي تبادلها الليبيون بمناسبة أول عيد أضحى بعد إسقاط النظام ومقتل القذافي والتي يمكن أن نتبين منها أن القذافي ورغم تأكد مقتله ظل حينها يشغل الليبيين ميتاً مثلما شغلهم وشاغلهم وهو حي اثنين وأربعين عاماً وبقوة حضور لافتة للنظر.
…
يتبع
***
د. يوسف محمد الصواني ـ أستاذ جامعي ذو خبرة طويلة في البحث العلمي والاستشارات. مختص بالسياسة والعلاقات الدولية مع اهتمام خاص بالشؤون الليبية وخاصة السياسة الخارجية والأمن .
______________