عبد العزيز اسماعيل

الشيخ على يحي معمر من أبناء مدينة ناولت، ولد في عام 1919م في قرية تكويت، في صغره تعلم على يدي الشيخ عبد الله بن مسعود الباروني الكاباوي في مدرسته لتحفيظ القرآن الكريم، ثم دخل المدرسة الابتدائية فظهر تميزه سريعا وحاز انتباه معلمية ومنهم الشيخ عيسى بن يحي الباروني الذي أولى له اهتماما خاصا.

في عام 1925م قدم إلى نالوت الشيخ رمضان بن يحي الليني الجربي بطلب من أهلها فكان الشيخ على يحي معمر أحد تلاميذه والمشتركين في حلقاته.

بدأت رحلة الشيخ في طلب العلم خارج ليبيا، من جربة حيث بالشيخ رمضان الليني ليواصل التعلم في حلقاته، ثم ذهب إلى تونس العاصمة لينضم إلى حلقات العلم في جامع الزيتونة وإلى حلقات الشيخ محمد الثميني الذي كان يلقي دروسا على طلاب البعثة الميزابية في تونس.

في عام 1938م سافر الشيخ إلى وادي ميزاب لينضم إلى مدرسة الشيخ بيوض الإصلاحية التي بلغته ابنائها من طلاب البعثة الميزابية في تونس، فدرس في معهد للشباب يسمى معهد الحياةوكان من أساتذه الشيخ بيوض والشيخ شريفي سعيد.

بعد أن أكمل الشيخ تعليمه في وادي ميزاب عاد إلى ليبيا، فحاول أن يدخل مجال السياسة بانضمامه إلى أحد الأحزاب الموجودة أنذاك إلا أنه سرعان ما تراجع عن ذلك وآثر البقاء في مجال التعليم، فبدأ عمله في مدينة جادو حيث درّس فيها زمنا طويلا، ثم تم نقله بعد ذلك إلى مدينة غريان رئيسا للتوجيه الفني في مديرية التعليم، ثم إلى طرابلس ليعمل في قسم إعداد المناهج التابع لوزارة التعليم.

التراث الفكري والأدبي للشيخ

شهد القرن الرابع عشر الهجري ظهور مؤلفات عدة أضافت إلى المكتبة الاسلامية الكثير، ولم يكن جبل نفوسة غائبا عن المشاركة في هذه النهضة العلمية.

خلّف الشيخ آثارا علمية كثيرة ومتنوعة في شتى المجالات كالعقيدة والفقه والتاريخ والأدب نثرا وشعرا، كتبا وبحوثا ورسائل ومقالات وتعليقات على مصنفات منها المخطوط والمطبوع إلى جانب المقدمات التي وضعها لبعض الكتب، ومن مؤلفاته على سبيل المثال لا الحصر:

كتاب “الإباضية في موكب التاريخوهو كتاب ضخم مكون من عدة حلقات كتبه الشيخ عن تاريخ الإباضية في شمال أفريقيا، بدأه بحلقة عن نشأة الإباضية ثم عن الإباضية في ليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم الجزيرة العربية.

بالإضافة إلى كتاب الإباضية في موكب التاريخفإن للشيخ كتبا أخرى منها :الإباضية بين الفرق الإسلامية، سمر أسرة مسلمة، آلهة من الحلوى، الميثاق الغليظ، أحكام السفر في الإسلام.

ولم يغب جانب الشعر عن حياة الشيخ علي يحي، فقد برز في إنشاء الاناشيد المعبرة أثناء فترة دراسته في وادي ميزاب، كما كان من بين مؤلفاته ثلاثة دواوين شعرية إلا أنه أحرقها فلم يبق من شعره إلا ما نشر في الصحف والمجلات.

ويتميز الشيخ علي يحي معمر عن من جاء بعده من شخصيات القرن الرابع عشر الهجري بكثرة التأليف، إذ كان ذو همة عالية يندر أن تكون لدى غيره، وقد ساعدته سعة اطلاعه وتبحره في العلوم مما جعل قلمه سيالا.

الدور الإصلاحي للشيخ

يمكننا اعتبار الشيخ أحد أبرز رواد الإصلاح في زمنه، ومهما تلكمنا عن الدور الذي قام به فلا أظن أننا نوفيه حقه، فقد قضى الشيخ عمره في الإصلاح حيث ما حل وارتحل، وقد برز دوره الإصلاحي مبكرا، فمنذ سنوات تعليمه في وادي ميزاب أسندت إليه بعض المهام التعليمية وبعض المواد ليدرسها نظرا لتمكنه وقد درسها وتمكن منها إثناء دراسته في تونس.

ولكن الدور الإصلاحي الحقيقي الذي ترك به الشيخ أثرا كبيرا في المجتمع كان بعد عودته إلى ليبيا، حيث كان نواة لحركة علمية قوية في ليبيا بدأها من جادو، إذ لم يكن في جادو في 1946م عند قدومه إليها سوى مدرسة حديثة واحدة وهي المدرسة الإيطالية، فبدأ عمله بالتدريس في مدرسة زعيمة الباروني (وكانت مدرسة البنات في تلك الفترة، وكان من بين طلابه في ذلك الوقت دفعة من النجباء من بينهم امحمد موسى إسماعيل والشيخ صالح عبازة.

كانت المدسة الابتدائية إلى الصف الخامس فقط، فلما أكملت تلك الدفعة الصف الخامس انتقل من حصل على نسبة 75% فما فوق إلى الثانوية أما الذين نجحوا ولم تصل نسبتهم إلى 75% ففتح لهم الصف السادس، وطلاب الشيخ على الذين تخطوا عتبة الـ 75% ذهب أغلبهم إلى نالوت ليكمل تعليمه في الثانوية بينما ذهب بعضهم إلى مدينة الزاوية، وقد انتقل الشيخ في هذه المدة الزمنية إلى نالوت مع طلابه ليشرف عليهم بنفسه حيث بقي هناك لمدة سنتين إلى أن أنهوا دراستهم ثم عاد إلى جادو.

واصل الشيخ تدريسه في مدرسة زعيمة الباروني ثم انتقل بفصوله إلى مبنى موجود في ميدان الباروني في مركز المدينة، لاحقا عمد الشيخ مع عدد من طلابه إلى مبنى قديم كان مستشفى للإيطاليين فأصلحوه بمجهوداتهم الذاتية وجعلوها مدرسة بإسم المدرسة المركزية وفتح فيه التعليم الابتدائي ثم التعليم الإعدادي.

وفي عام 1957م أسس الشيخ معهدا في جادو في مكان قريب من المدرسة وأطلق عليه اسم معهد الشيخ إسماعيل الجيطاليوأقيم حفل كبير حضره ولي العهد آنذاك وقام بنفسه بافتتاح المعهد، وعُين الشيخ مديرا له، ولا يزال المعهد حتى الآن يحظى بالذكر الطيب من أهل المدينة رغم أنه تم هدم مبناه وتسويته بالأرض بأوامر من القذافي، ولعل قرار الهدم قصد به أن يمحى ما تركه هذا المعهد من تاريخ وعبرة في قلوب أهل البلد، وقد خرّج المعهد أجيالا منهم الباحثين والمعلمين والمصلحين في شتى الجوانب.

وقد ألقى الشيخ في جادو العديد من المحاضرات والدروس حيث كان الناس يلتفون حوله فيسألونه ويأخذون من علمه، كما كان هو من يستقبل الوفود الزائرة إلى جادو خاصة القادمون من وادي ميزاب، وأيضا القادمون من جربة ومنهم الشيخ سالم بن يعقوب الجربي وكانت هذه الزيارات دائما تحدث بتنسيق منه.

توالت الأحداث ونُقل الشيخ إلى غريان ثم استقر به المقام في طرابلس ليبدأ فيها مرحلة أخرى في الإصلاح، كان من ثمارها بناء مسجد الفتح الذي كان إحدى رغبات الشيخ لمدة طويلة ولم يتخل عنها إلى أن تحققت له بفضل الله تعالي، حيث اكتمل بناء المسجد في 1976 بعد جهود استمرت لسنين عدة اشترك فيها أهل نفوسة وزوارة من الإباضية.

أمسى المسجد منارة علمية ومكانا لاجتماع الإباضية في طرابلس، وكان نشاط الشيخ فيه لا يتوقف بين دروس وحلقات علمية وخطب ومواعظ وجلسات نقاش، ولم ينقطع مع هذا عن زياراته إلى الجبل وإلقاء الدروس فيه.

يقول الشيخ علي في رسالة إلى الشيخ إبي اليقظان: “أبتي العزيز بعد أتمامي لهذه الجولة سوف أبقى بنالوت إلى أواخر رمضان وقد تعودت أن ألقي دروسا في الوعظ والإرشاد في المسجد بين المغرب والعشاء في رمضان، وهذه الدروس تكون قصيرة لا تتجاوز ساعة واحدة وقد تكون أقل من ذلك“.

إضافة إلى نشاطه في المسجد كان للشيخ محاولات لتأسيس جمعية تهتم بالإصلاح، إذ يقول في رسالة له إلى شيخه إبي اليقظان: “أبتي العزيز إن نصائحكم الغالية التي أشرتم بها علينا لفوق الرأس والعين ونحن في حاجة دائمة إلى توجيكم وإرشادكم.

ويؤسفني أن أخبركم أن بعضها لا يمكن القيام به فتأسيس الجمعيات مثلا غير مسموح به، وقد علمت بعد مجيئي من منبع العلم والوفاء وموطء الدين القويم والخلق الكريم في زمن الاحتلال الإنجليزي على تكوين جمعية وتكونت بالفعل وسميناها جمعية الإصلاح، وقامت هذه الجمعية في ذلك الحين ببعض الأعمال وقامت هذه الجمعية في ذلك بإلقاء محاضرات ثقافية وعقدت بعض اجتمات وقدمت تمثيليات اجتماعية هادفة، وكان لها نشاط وإن كان محدودا إلا أنه أفاد ولكن هذه الجمعية ألغيت في زمن الاستقلال وحُوّل ناديها إلى نادى رياضي وهو النوع الوحيد المسموح بها في البلاد.”

يضاف إلى كل هذه الجهود المؤلفات العظيمة التي تركها الشيخ والتي لها دور كبير في الحركة الإصلاحية في وقتها.

الصعوبات التي واجهته في حياته

واجه الشيخ من الصعاب ما يصبر في وجهه إلا العظام، فمنذ بداية طريقه في العلم عندما كان في تونس واجه صعوبات مادية اضطرته إلى الانتقال لمواصلة دراسته في وادي ميزاب، ولكن هذه الصعوبات هي شيء لا يّذكر مقارنة بما ينتظره في ليبيا.

فعندما رجع إلى ليبيا واجه الشيخ التضييق والمعارضة من الحكومات المتعاقبة، فسواء في أيام حكومة استقلال ليبيا أو إبان حكم القذافي، فلم يسلم الشيخ من المضايقات، ومثالا على ما واجهه في أيام الاستقلال.

يقول الشيخ في رسالة إلى شيخه إبي اليقظان: “ وقد عاتبني الأخ الدبوز على عدم النشاط والنشر والإذاعة فاستسمحته واعتذرت بالضعف والبعد ولم أخبره أنني بذلت جهودا متواصلة لكي اشترك في الإذاعة وفي دروس الجامع وفي النشر على الجرائد فأجد بادئ الأمر ترحيبا ثم تهمل أعمالي فلا تذاع ولا تنشر وعندما أناقش القوم عن هذا الإهمال يعتذر بعضهم بما يبدو له يبرئ الآخرون أنفسهم بأن أوامر من جهات معينة طلبت منهم أن لا تنشر أو تذيع لفلان.”

ولم يكن نقل الشيخ إلى مدينة غريان ثم طرابلس إلا إبعادا له ومحاولة للتقليل من نشاطه في جادو وفي الجبل بصفة عامة وإبعاده عن معارفه وطلابه بعد أن كان شعلة من العمل أنتجت نهضة قوية في مجال التعليم.

أما في زمن القذافي فلم يكن الحال أفضل من قبله، فقد عانى الشيخ الكثير من متابعات وملاحقات أجهزة الأمن واللجان الثورية، وقد كان الشيخ أحد ضحايا حملة الاعتقالات التي أطلقها القذافي في عام 1973م باسم الثورة الثقافية فسجن عددا كبيرا من النشطاء والمثقفين وجعل الإنتماء للأحزاب السياسية تهمة يسجن من اقترفها، وقد كان مع الشيخ في سجنه أحد تلاميذه وصديقه الحاج امحم الصكاح، والذي يحكي لنا بعضا من المواقف من تلك الحادثة.

يقول: “دخلت السجن مع الشيخ علي يحي ومجموعة من الشخصيات من بينهم الشيخ عمرو النامي، والشيخ على الشاوش، والشيخ عمرو مسعود، وفي السجن وُزعت علينا مجموعة من النماذج لتعبئتها، وكان من بين البيانات المطلوبة خانة كتب فيها الحزب الذي تنتمي إليه، فما كان من الشيخ علي إلا أن كتب أمام تلك الخانة لا شيءوفعلنا مثله، ولما حان موعد محاكمتنا وعُرضت قضيتنا على القاضي تعجب من ذلك، وقال لماذا سُجنتم إذا؟ ورغم ظهور براءتنا فقد عدنا إلى السجن مدة ستة أشهر إضافية ثم أُطلق سراحنا بعد أن وُجهت إلينا أوامر بأن لا نتكلم عن شيء مما حدث معنا.”

وقد بالغت عيون النظام في الترصّد وملاحقة الشيخ علي يحي، ففي حادثة أخرى يذكرها الحاج امحمد الصكاح وقعت مع الشيخ يقول: “ زارنا باحث مصري كان يحظّر بحثا عن الإباضية، وقد زار وادي ميزاب ولما سأل عن نفوسة نصح بالرجوع إلى الشيخ علي، فجاء إلى ليبيا وصار يسأل عن الشيخ إلى أن تواصل معي فنسقت اللقاء بينه وبين الشيخ، ثم أخذناه في جولة في أنحاء الجبل وفي جادو التقينا بالصدفة مع رئيس مركز الشرطة فدعانا إلى كأس من الشاي وسألنا عن الرجل المصري فأخبرانه بقصته.

ولما وقعت حادثة سجننا واجهنا النائب العام بحكاية هذا المصري مدعيا أنه كان جاسوسا إسرائيليا وأننا ساعدناه على الإطلاع على أسرار الدولة، فحاججناه بأنه مصري الجنسية مسلم الديانة كما كتب في جواز سفره وإننا أبلغنا عنه في مركز الشرطة في جادو، ولولا أن كتب الله لنا ذلك اللقاء مع رئيس مركز الشرطة للفقت لنا تهمة الله فقط يعلم عواقبها.”

يتبن لنا من هذا أن الشيخ علي لم يرتح أبدا من المضايقات والملاحقات المتواصلة، وإضافة إلى كل هذا فقد ابتلاه الله بمرض الربو المزمن فكان يشتد عليه ويعاني من أشد معاناة، وقد عرف أعوان الأمن ذلك فكانوا أحيانا يستدعونه إلى مركز الشرط أو الأمن الداخلي ويتركونه لساعتين أو ثلاث ساعات واقفا في الاستقبال دون أن يكترث به أحد ثم يأتي أحدهم فيدعي الدهشة من أنه لم يأته أحد ويسمح له بالإنصراف وما هذا إلا محاولة منهم لمضايقته وثنيه عن نشاطه الدائم في الإصلاح مع معرفتهم بكبر سنه ومرضه.

عانى الشيخ من عدة أمراض أرهقته خلال مراحل حياته وأبرزها مرض الربو وضغط الدم وتوفى في الخامس عشر من يناير 1980، بعد أن تدهورت حالته الصحية تحت وطأة الضغوط السياسية.

______________

المصدر: ورقة بحثية بعنوان شخصيات من نفوسة في القرن الرابع عشر الهجري (من 1828إلى 1979) للطالب عبد العزيز علي اسماعيل وباشراف الدكتور خالد سعيد تفوشيت

مقالات