يوسف لطفي
يبدو الدور الأمريكي متناقضا عبر مواقفه، ففي حين تصدر واشنطن بيانات تدعو لإيقاف الحرب، يعطي البيت الأبيض لحفتر الضوء الأخضر لشن هجومه على الحكومة التي يعترف بها –حسب تقرير نيويورك تايمز السابق– ولا يبدو أن الإدارة الأمريكية تبذل أي جهود جدية لكبح جماح الأطراف الإقليمية الداعمة لحفتر (الإمارات ،السعودية ومصر).
كما أنها لم تعلق على استخدام الإمارات لطائرات أمريكية في معركتي بنغازي ودرنة فضلا عن دور الأمريكي “إيرك برنس” في تزويدها بالطيارين في ظل حظر التسليح المفروض على البلاد.
تعلن الولايات المتحدة اعترافها بحكومة الوفاق كممثل شرعي للبلاد، وقد قدمت لها دعما عسكريا في مواجهات قواتها لتنظيم الدولة في سرت ولازالت تتعاون معها وتقدم لها الدعم في ملف مكافحة الإرهاب.
وفي المقابل تقوم بالمثل مع حفتر إذ تتردد الطائرات الأمريكية على مطار بنينا بشكل مستمر منذ سنوات وتظهر سجلات مواقع تتبع الطائرات وصول 12 طائرةً عسكرية أمريكية منذ 29 يونيو 2018 وحتى 14 ديسمبر 2019 لمطار بنينا في بنغازي.
ويفسر البعض منح الولايات المتحدة الضوء الأخضر لحلفائها (الإمارات السعودية ومصر ) بدعم حفتر بمهاجمة طرابلس ثم استنكارها لذلك بعد فشل الهجوم الذي كان يفترض أن يكون خاطفا أنه تخبط في السياسة الأمريكية، في حين يفسره آخرون أنه كان قرارا أحاديا من ترامب ومستشاره للأمن القومي بولتون وأنه لا يمثل موقف المؤسسات الأمريكية، وقد يدفع النفوذ الروسي المتزايد في المشهد الليبي الولايات المتحدة لاتخاذ موقف أكثر وضوحا من الأحداث الجارية.
على الرغم من حيازة حكومة الوفاق لشرعية دولية لكن لا يبدو أنها تحظى بحلفاء حقيقيين مستعدين لتقديم الدعم لها في مواجهة هجوم التحالف الداعم لحفتر. وفي ظل هذا العزوف الدولي برز الدور التركي بقوة حيث ضخت تركيا دعما عسكريا كبيرا عبر إرسال مدرعات وطائرات بدون طيار ونظم دفاع جوي كما أرسلت مقاتلين سوريين في مراحل لاحقة مما أعاد التوازن للمعركة، وسمح لقوات الوفاق باستعادة زمام المبادرة وتحقيق تقدمات كبيرة على عدة جبهات.
بالإضافة للدعم اللوجستي والعسكري وقَّعت تركيا اتفاقية تعاون أمني وترسيم حدود بحرية مع حكومة الوفاق الأمر الذي أثار احتجاج حلفاء حفتر والأطراف الدولية المتضررة بشكل مباشر من هذا الاتفاق (فرنسا، مصر، اليونان، إسرائيل).
واعتبرت هذه الدول أن الاتفاقيتين الموقعتين مع حكومة الوفاق باطلتان. وأصدرت مصر واليونان وفرنسا بيانًا مشتركا أدانت فيه الاتفاق ووصفته بأنه يعد تعديا على الحقوق السيادية لدول أخرى وأنه لا يتفق مع قانون البحار.
تحد الاتفاقية البحرية الموقعة بين ليبيا وتركيا من نفوذ هذه الدول وقدرتها على التحرك بشكل أحادي يهمش تركيا في المتوسط كما أنها تقف عائقا أمام مشروع خط الغاز الإسرائيلي لأوروبا، ورغم الاعتراض المبدئي ل”إسرائيل” على هذه الاتفاقية إلا أن بعض المصادر الإعلامية أعلنت عن قبول إسرائيل بالدخول في مفاوضات سرية مع تركيا حول تمرير خط الغاز من إسرائيل عبر تركيا.
ويبدو أن التحالف مع تركيا وتوقيع الاتفاقية البحرية أدخل ليبيا لساحة نزاع دولية إقليمية جديدة وشكل نقطة اللاعودة لحكومة الوفاق التي حاولت طوال السنوات الماضية الحفاظ على علاقات ودية مع حلفاء حفتر، مما يعني أن سير الأحداث في ليبيا سيكون مختلف عما كان عليه قبل التدخل التركي وسيتأثر بشكل مباشر بسير الأحداث في المناطق الأخرى التي تكون فيها تركيا لاعبا أساسيا.
ومع تنامي الدور الروسي على الضفة الأخرى وتزايد اعتماد الأطراف المتنازعة على الدعم الخارجي يزداد تشابه العوامل المؤثرة في الملف الليبي بالملف السوري يوما بعد يوم وهو ما يثير مخاوف كل من الإمارات وفرنسا خشية أن تفقد الأولى السيطرة على القرار السلم والحرب من جانب حفتر وأن يتضاءل دور الثانية بهيمنة هذا الثنائي (تركيا–روسيا) على المشهد.
رغم أن مصر تلعب دورا أساسيا في دعم قوات حفتر عبر تزويده بالذخائر والمدرعات وفتح أراضيها وقواعدها العسكرية كمعبر ومنطلق لمختلف الدول الداعمة لحفتر إلا أن بعض التقارير الصحفية تتحدث عن محاولات إماراتية–سعودية لدفع مصر للتصعيد لمنع انهيار قوات حفتر المستمر منذ التدخل التركي.
وغير معروف طبيعة التصعيد المطلوب، لكن نظرا لمحدودية الإمكانيات المصرية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد لا يتصور أن تجنح مصر لهذا الخيار إلا في حالة الاضطرار كأن يتم تهديد النفوذ المصري في الشرق الليبي.
أما في حالة غياب تهديد حقيقي لا يتصور أن حدوث تصعيد يتعدى ضربات جوية جراحية تنقذ حفتر، وهو ما قد يترتب عليه تصعيد تركي أكبر بعد التلويح به في المناورات الأخير على حدود المياه الإقليمية الليبية.
كما برزت مؤخرا ادعاءات بإرسال السيسي لجنود مصريين للقتال في صفوف حفتر في معركة طرابلس، لكن تظل هذه المزاعم ضعيفة خصوصا في ظل استعانة حفتر بمرتزقة من حركات تمرد سودانية كحركة تحرير السودان (جناح منى مناوي) المدعومة من تشاد وحركات أخرى موالية للحكومة السودانية كمجلس الصحوة الثوري التابعة لموسى هلال زعيم المحاميد. ومن تشاد كجبهة التناوب والوفاق في تشاد، واتحاد القوة من أجل الديمقراطية والتنمية –وهذه الأخيرة تقاتل حتى مع قوات الوفاق.
يبدو أن التفاوضَ والحوار نهجٌ غير مجدي مع حفتر وحلفائه الإقليميين، فعلى الرغم من تقديم الأطراف المناوئة له في حكومة الوفاق تنازلات كبيرة إلا أن حفتر وظَّف عملية الحوار لكسب الوقت لإنهاء معاركه في الشرق والجنوب والتجهيز للتوجه نحو العاصمة.
ولا يبدو أن البلاد ستشهد استقرارا في أي وقت قريب في ظل توازن القوى الحاصل. فالمعركة الحالية تبدو كأنها معركة صفرية فحفتر راهن بكل ما يملك على إمكانية السيطرة على طرابلس بعملية خاطفة وعبر شراء ذمم بعض القوى بالمنطقة الغربية وطرابلس وبفشل هذا التكتيك دفع قوى المنطقة الغربية للتوحد ضده في معركة طويلة وقلص من فرص قبوله سياسيا في المرحلة القادمة بعد أن كانت معظم القوى مستعدة للتفاهم معه وإشراكه.
كما أن هجومه على العاصمة أضعف نفوذ أبو ظبي على معسكر الوفاق ومنح تركيا الشرعية اللازمة للتمدد في المنطقة، لذا فإن ما بعد هذه المعركة سيكون مختلفا عن ما قبلها، وفي حال نجحت قوات الوفاق في تحرير كامل المنطقة الغربية وفزان، فسيكون موقفها التفاوضي أقوى مما سبق خصوصا في ظل تنامي الوجود والدعم التركي الذي لازال في بدايته على عكس الدور المصري\الإماراتي الذي يبدو أنه بلغ ذروته.
توظيف حفتر للنزعة الجهوية والعداءات القبلية بين الشرق والغرب وداخل الغرب نفسه عزز من حالة التشظي الاجتماعي ورسخ فكرة أن ليبيا تقطنها شعوب مختلفة، وفي ظل فشل هجومه على طرابلس بدأت تتعالى أصوات التيار الفيدرالي من جديد، المطالبة بالانفصال ليست فكرة جديدة على الشرق الليبي “برقة”، وفي ظل تنامي العداء بين الاقليمين بسبب الحرب الدائرة تلقى الفكرة قبولا متزايدا في الغرب.
لكن لا يبدو أن هذا الخيار مطروح حاليا حيث ترفضه كافة الأطراف السياسية المؤثرة، فبينما يطمح حفتر والتحالف الداعم له للهيمنة المطلقة والسيطرة على المؤسسات المهمة في طرابلس وإنهاء نفوذ القوى الثورية المناوئة له في مصراتة والمنطقة الغربية.
يطمح معسكر الوفاق للحفاظ على تدفق العائدات النفطية للبنك المركزي طرابلس حيث تكمن معظم ثروة البلاد النفطية بالمنطقة الشرقية وتطمح تركيا للحفاظ على شرعية اتفاقية ترسيم الحدود البحرية.
لكن في حال نجاح معسكر الوفاق في التغلب على قوات حفتر وطردها من المنطقة الغربية والجنوبية وتهديد معقل حفتر في الشرق ربما يتم التلويح بالتقسيم كحل أخير لتعزيز موقف حلفاء حفتر في المفاوضات.
ذلك ما قد يشعل حربا بالمنطقة الوسطى تهدف للسيطرة على الهلال النفطي قد تشمل حتى تصعيد من الأطراف الداعمة لحفتر وعلى رأسه مصر لأهمية الشرق الليبي لها لكنه سيكون محكوما بإمكانيات هذه الدول لم تعد قيمة مضافة مقارنة بإمكانيات تركيا التي لن تتخلى عن الشرق الليبي بسهولة.
ويبدو أنه كل ما تزايد نفوذ وتأثير ثنائي روسيا–تركيا على المشهد كل ما ابتعدنا عن هذا السيناريو واقتربنا من الوصول لتسوية سياسية توازن بين رغبات الطرفين.
لم تظهر تبعات أزمة الوباء والأزمة الاقتصادية وإغلاق النفط –الذي تجاوزت خسائره 4 مليار دولار– على الصراع الليبي بعد، لكن في ظل تراكم مصاريف الحرب وارتباط الأطراف الداخلية بالخارج ومدى تأثير الدعم الخارجي على مجريات الحرب الدائرة قد نشهد قريبا عودة للعملية السياسيى في ظل ظروف و معطيات جديدة.
المشهد الليبي يتعقد يوما بعد يوم ولا يبدو أن الحلول التقليدية قادرة على إنهاء حالة الاستقطاب خصوصا في ظل تنامي نفوذ الأطراف الخارجية وارتباط الطرفين المتصارعين بتحالفات إقليمية مما يجعل ليبيا ملفًّا على طاولة الدول المتنازعة ويربط أحداثها بشكل مباشر بالساحات الأخرى التي تتصارع فيها هذه الدول، كما أن عزوف الولايات المتحدة عن تغليب طرف على آخر واكتفاءها بمنح الأطراف الداعمة لحفتر موافقتها على إسقاط الحكومة الشرعية تارة وإبداء دعمها للحكومة تارة أخرى يزيد من تعقيد المشهد.
ورغم التعقيد الذي يكتنف المشهد إلا أن الحل لإنهاء هذه الأزمة هو الدفع باتجاه الحسم العسكري وانتزاع أوراق نفوذ حفتر ومحاولة التملص من الضغط الدولي عبر المراوحة بين فرض واقع جديد على الأرض وبين التهدئة، خصوصا في ظل موقف الولايات المتحدة الذي يتسم بالتماهي مع سردية الطرف الأقوى والأكثر إصرارا.
تكمن مشكلة معسكر الوفاق في غياب قيادة موحدة وتكتل عسكري يمتثل لها وضعف موقف القيادة السياسية، وترقب القبول الغربي والأممي لمواقفه السياسية وهذا يفرض قيودا على أداء معسكر الوفاق ويحول دون توظيف الانتصارات العسكرية بشكل كامل لصالحها.
وما لم يتم معالجة هذه المشاكل فسيفشل معسكر الوفاق في تحقيق نجاح استراتيجي رغم استعادته للأفضلية العسكرية، وربما يعالج التدخل التركي هذه الإشكاليات ّإذا ما تم توطيد العلاقات وحصر التعاون مع شخصيات تملك حزما وتحظى بدعم محلي على الصعيدين السياسي والعسكري.
وبتعبير آخر لابد من تركيبة سياسية جديدة تملك رؤية استراتيجية، قادرة على توحيد الجبهة الداخلية وغير متخوفة من الدفع باتجاه الحسم العسكري وتجاوز المواقف والمبادرات الدولية التي تعزز من موقف الخصم.
_______________