عمر الكدي
لم يطلق الليبيون اسم ليبيا على بلادهم وإنما أطلقه الإغريق، عندما وصلوا من جزيرة تيرا «سانتورين» حالياً في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وعندما قابلوا سكان الجبل الأخضر سألوهم عن هويتهم فقالوا نحن «ليبو»، فأطلقوا الاسم على المنطقة الشرقية.
هذا يعني إذا وصل الإغريق من الجنوب وقابلوا الجرمنت، كان من الممكن أن تسمى البلاد «جرمانيا» أو «جرمنتيا»، ولو وصلوا إلى غرب البلاد كان من الممكن أن يتغير اسم البلاد على اسم القبيلة التي تستضيفهم.
أن يأتي الاسم من الخارج فهذه ظاهرة شائعة في التاريخ
فتونس تغير اسمها من قرطاج إلى أفريقية ثم تونس، كما لم تستقر ليبيا على اسم واحد، فطوال الحكم العثماني والدولة القرهمانلية كانت تسمى طرابلس الغرب، قبل أن يحتلها الطليان ويعودوا إلى الاسم القديم «ليبيا»، ولكن إذا وصل أحد الرحالة وانتقل من مكان إلى آخر، فلن يسمع اسم ليبيا وإنما اسماء المناطق التي سيمر بها.
كان جدي لأمي فقيه قريتنا وهو من يوثق الحجج التي تثبت ملكية الأرض والأشجار والعقارات، ووفقاً للحجايج التي اطلعت عليها، كان يوقع في آخر الحجة باسم «الفقيه أو العبد لله الفقير إبراهيم بن رمضان المغربي الخليفي الغرياني»، المغربي تشير إلى قريته المغاربة، والخليفي تشير إلى مديرية بني خليفة التي مركزها قرية أبوزيان، والغرياني تشير إلى متصرفية غريان، ولم يستخدم اسم الليبي على الإطلاق، على الرغم من أنه توفي العام 1947، ونظام المديريات والمتصرفيات أرجح أنه وضع في العهد العثماني الثاني والذي قسم غريان إلى أربع مديريات، وهي من الجنوب إلى الشمال، القواسم، بني داود، بني نصير، وبني خليفة، وأرجح أنها أسماء المدراء الأوائل الذين كلفوا بهذه المناصب.
وجاء الطليان فثبتوا هذا النظام وهو نفس النظام الإداري في العهد الملكي، وعلى الرغم من أن القذافي ألغى المحافظات، إلا أن التقسيم الإداري ظل كما هو، على الأقل في منطقتنا.
الثورات التي قام بها الليبيون وخاصة في العهد العثماني الثاني، مثل ثورة غومة المحمودي وعبد الجليل سيف النصر، لم تكن تهدف إلى استقلال الكيان الليبي عن الحكم التركي، ببساطة كانت قبيلة المحاميد بزعامة غومة المحمودي وقبيلة أولاد سليمان بزعامة عبد الجليل سيف النصر معفيتين من دفع الضرائب، على أن يخرج مقاتلوها مع الجيش لإجبار بقية الأهالي على دفع ضريبة العُشر.
وفي العهد العثماني الثاني بعد العام 1835 تغير نظام الضرائب، ليشمل المحاميد وأولاد سليمان مما دفعهم للثورة.
السنوسيون لم يقاتلوا خارج مناطقهم وعلى رأسهم عمر المختار، وإنما قاتلوا دفاعاً عن زواياهم في شمال تشاد حيث قاتل عمر المختار الفرنسيين، وفي غرب السودان حيث قُتل المهدي السنوسي، وفي برقة حيث قاد المقاومة أحمد الشريف.
كما أن قبائل غرب وجنوب ليبيا لم تقاتل إلا على أراضيها، باستثناء بعض المعارك التي قاتل فيها الجميع، مثل معارك الهاني والقرضابية وجندوبة، وبعد عشرين عاماً من الصمود الأسطوري استسلم الجميع.
لم يأت الاستقلال كنتيجة مباشرة لذلك الصمود الأسطوري، وإنما جاء كهدية من الغرب عندما طلب الاتحاد السوفياتي حصة في ليبيا، التي كاد أن يقتسمها البريطانيون والطليان والفرنسيون وفقاً لاتفاقية بيفن سفورزا، وبفضل مندوب هايتي في الأمم المتحدة السيد إميل سان لو الذي صوت ضد رغبة بلاده، وهو الصوت الذي رجح استقلال ليبيا.
أي أنه كانت مجموعة من المصادفات أدت إلى استقلال ليبيا، قبل أن تتأسس فيها سلطة محلية على شكل إمارة أو مملكة مثل دول الخليج، التي تولت فيها الأسر الحاكمة حالياً زمام الأمور في البلاد قبل استقلالها.
العام 1947 أوفى الإنجليز بعهودهم في استثناء نادر، ومنحوا برقة استقلالاً صورياً تحت حكم الأمير إدريس السنوسي، إلا أن الحركة الوطنية رفضت استقلال برقة وطالبت باستقلال ليبيا كاملة.
كانت الحركة الوطنية ممثلة بحزب المؤتمر بقيادة بشير السعداوي في الغرب، وبجمعية عمر المختار في الشرق وخاصة في بنغازي ودرنة، وهذه الجمعية كان معظم قياداتها والمنتسبين إليها من أصول غرباوية، بالإضافة إلى مثقفين وطنيين من قبائل برقة، مثل بشير المغيربي وصالح مسعود بويصير، وعبد الحميد نجم (عواقير)، وعبدالسلام بسيكري (عقيب)، وأعضاء هذه الجمعية كانوا وراء تأسيس النادي الأهلي في بنغازي والحركة الكشفية وجريدة الوطن.
ولكن سرعان ما دب الخلاف بين فرع بنغازي وفرع درنة.
ما سبب هذا الخلاف؟
أرجح أن فرع درنة كان أكثر تأييداً لمطالب السعداوي باستقلال ليبيا كاملة دون قيد أو شرط، وإلغاء النظام الفيدرالي الذي أقرته الجمعية التأسيسية، بمعنى آخر أن جماعة الغرب والشرق لم يتفقوا على كيفية استقلال ليبيا، لولا أن الأمير إدريس قال لجماعة الغرب يمكنكم الاستقلال منفردين فبرقة مستقلة منذ 1947 وأنا أميرها، وهو ما أجبر السعداوي على التنازل والقبول باستقلال ليبيا كاملة تحت حكم الملك إدريس.
بعد أشهر قليلة من تنصيبه ملكاً على ليبيا ألغى الملك إدريس جمعية عمر المختار، وحظر جميع الأحزاب في كل أنحاء البلاد، ولكنه عين محمود المنتصر رئيساً لأول حكومة وهو من مصراتة، وظل الملك يوازن بين جناحي البلد فمرة يكون رئيس الحكومة من الغرب ومرة من الشرق، والمرة الوحيدة التي عين فيها رئيساً للحكومة من فزان كانت حكومة محمد عثمان الصيد.
وفي 22 فبراير 1952 أصدر الملك إدريس أمراً ملكياً بنفي بشير السعداوي خارج البلاد، باعتباره لا يحمل الجنسية الليبية وإنما يحمل جواز سفر سعودياً منذ أن كان مستشاراً للملك عبدالعزيز آل سعود.
كان من الحكمة أن يعين الملك إدريس بشير السعداوي مستشاراً له، أو رئيساً لمجلس الشيوخ بدلاً من تأجيج معارضة ضد نظامه في غياب زعيمها الحكيم.
اليوم تعود هذه البلاد إلى المربع الأول الذي انطلقت منه، وكأن الثلاثة والسبعين عاماً السابقة كانت مجرد سراب.
الوحدة الوطنية في خطر، والهوية الوطنية التي كانت جامعة تحولت إلى شظايا، وكل قبيلة أو مجموعة عرقية عادت إلى هويتها الفرعية. ولهذا من المنطقي أن نتساءل:
هل صار الليبيون ليبيين؟
كان مجلس النواب الليبي في العهد الملكي يتكون من 55 عضواً، 35 من طرابلس و15 من برقة و5 من فزان، أي أن نواب طرابلس أكثر من نواب برقة وفزان مجتمعين، وإذا أضفنا نواب درنة ونصف نواب بنغازي من أصول غرباوية، ستصبح الأغلبية الكاسحة للغرب وهذا يهدد الوحدة الوطنية، فعندما عبر الملك إدريس عن رغبته في تحويل ليبيا إلى جمهورية، قال له أعيان برقة إن السلطة ستصبح بيد أهل الغرب بالكامل.
وهذه حقيقة فسكان الغرب يشكلون أكثر من سبعين في المئة، بينما يستخرج أغلب النفط من الحقول النفطية في شرق البلاد، وتأتي أغلب المياه من جنوب البلاد، وهذا يعني أنه لا بد من توافق الأقاليم الثلاثة.
فالعنصر البشري الذي يخفف من هشاشة الكيان يوجد في الغرب، ومعظم الثروة النفطية في الشرق، والاحتياطي الاستراتيجي من المياه في الجنوب، وإذا انفصلت برقة مثلا فسيؤدي ذلك إلى صراع بين سكان برقة من أصول غرباوية وشرقاوية، وحتى الآن هناك عشرات آلاف المهجرين من بنغازي من اصول غرباوية يعيشون في الغرب بعد 2014.
بعد 73 سنة من الاستقلال يعود الليبيون إلى المربع الأول، وما من شيء يوحدهم إلا العلم والنشيد اللذان حولهما خلاف، على الرغم من أن النشيد كتبه شاعر تونسي ولحنه موسيقار مصري، وعلم الاستقلال الذي يتكون من ثلاثة ألوان يوحدها فقط الهلال والنجمة، بينما علم القذافي الأخضر أشبه بالعلم الموجود فوق قبة الأولياء الصالحين «المرابطين» يتحول إلى اللون الأصفر تحت الشمس، وحتى المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي اللذين منعا ليبيا من التشظي، لا يزالان محل تنازع بين مجلسين تشريعيين وحكومتين ومجلس رئاسي يتكون من ممثلين للأقاليم الثلاثة.
وهذا يعني نجاحاً ساحقاً لمشروع بيفن سفورزا بعد 75 عاماً من فشله، أو أن يكتسح الطرف الأقوى عسكرياً الطرف الآخر، ويبدو أن خليفة حفتر يستعد لذلك إذا توافقت حوله القوى الإقليمية والدولية، التي تفضل الاتفاق مع شخص واحد وليس مع مجلسين تشريعيين وربما ثلاثة
وهذه الحرب مثل حرب السودان ستدمر كل ما بُنِي منذ العهد العثماني الثاني، وتفرض على البلاد دكتاتورية عسكرية أسوأ من استبداد القذافي، ولكن بالنظر لثروات ليبيا ستوفر الأمن والخبز والكهرباء والسيولة وانخفاض الأسعار وارتفاع قوة الدينار، وهذا ما يريده معظم الناس في كل زمان ومكان قبل الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان.
فالتوافق بين الأطراف المتصارعة أصبح مستحيلاً، ولكل ما سبق هل صار الليبيون ليبيين، على الرغم من أن البلاد صالحة لنهضة حقيقية وسريعة، إذا تصالحت مكونات شخصيتها والتي ليست شخصيتين كما في مصر وتونس، وإنما خمس شخصيات، وهي:
ـ سكان المدن الساحلية مثل طرابلس وزوارة ومصراتة وبنغازي ودرنة،
ـ وسكان الريف الزراعي من صبراتة إلى مصراتة،
ـ وسكان الريف الذي يجمع بين الزراعة البعلية والرعي،
ـ والقبائل البدوية التي لا تزال تحتقر الزراعة والحرف اليدوية،
ـ وسكان الواحات.
وفي جميع هذه الأماكن سنجد جميع أعراق ليبيا، العرب والأمازيغ والطوارق والتبو والأفارقة والأتراك والشركس والقريتلية، ولكن يصعب إيجاد التوافق فالاتفاق الوحيد بين هذه الشخصيات الخمس، هو أشبه بقصة الملاك الذي هبط إلى الأرض، وعندما قابل جارين ليبيين، قال لهما الذي يطلب طلباً أحققه له فوراً، ولكن جاره سيأخذ الضعف، وعندما لم يتفق الجاران على من يختار أولاً، دفع الغيظ والحسد أحدهما أن يطلب من الملاك أن يعور عينه اليمنى، ليصبح جاره أعمى بالكامل.
_______________