خالد عصام الإسلامبولي

مسار طويل من المعوقات والتحديات

أثارت تصريحات وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية الانتقاليةوالتي أعلن عنها خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بشأن عزم وزارته فرض بعض القيود على الحقوق والحريات العامة، حالة من الجدل وردود فعل مختلفة في المجتمع الليبي، بين مؤيدٍ يراها تحُدّ من الانحدار الأخلاقي، ومعارضٍ يراها تّغُولا من السلطة على الحقوق والحريات العامة للمواطنين، على حد تعبير الطرفين.

ومن الطبيعي أن يتم التَّطَرُّقُ إلى السؤال الذي يطرح نفسه:

ما موقف القانون الدستوري من تلك القيود الواردة بتصريحات الوزير الليبي؟“.

يُعرف الدستور، بأنه مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ومدى سلطاتها إزاء الأفراد، وكيفية تنظيم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص وعلاقة هذه السلطات ببعضها، ويضع الضمانات الأساسية لحماية هذه الحقوق والحريات وكفالة استعمالها وعدم التعدي عليها، بما يؤدي إلى التوازن والتوفيق بين السلطة والحرية وتجنب الصراع بينهما“.

ومن ثم فإن الدستور يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة التي يوجد فيها، من حيث ظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية، وبالتالي لا يمكن دراسة النظام الدستوري لبلد ما، دون الإحاطة بتاريخه وسبر أغواره، وتحليل حاضره، وصولاً إلى استشراف مستقبل ذلك النظام.

لكن هل وجد القانون الدستوري بهذا المفهوم في الأنظمة السياسية المتعاقبة في ليبيا؟

للإجابة على هذا السؤال يتعين إلقاء الضوء على التطور التاريخي لأنظمة الحكم المتعاقبة في ليبيا منذ بداية العصر الحديث، مروراً بأوائل القرن الثامن عشر وحتى صدور دستور سنة 1951 وما بعده.

لعبت الطبيعة الجغرافية لليبيا دورا بالغ الأثر في تشكيل تاريخها السياسي، فقد تعرضت ليبيا بحكم موقعها لكثير من الحروب والتدخلات الأجنبية، علاوة على أنه وبسبب الطبيعة الصحراوية لأغلب الأراضي الليبية، تشكلت أغلب التجمعات السكانية فيها على شاطئ البحر، وخلقت الصحراء مناطق متاخمة عازلة بين الأقاليم الليبية، تقوم كمانع طبيعي من قيام الدولة المركزية الموحدة.

وقد ظلت فكرة عزلة الأقاليم الليبية قائمة وحاضرة خلال مختلف العصور التاريخية الليبية، كان أولها خلال عهود الإغريق والرومان، عند ظهور المدن الخمس (بنتابولس) في شرق ليبيا، ضمن منطقة إقليم برقة.

قام السلطان العثماني بتوزيع سلطات الحكم على جهات ثلاث، وهي الوالي ويلقب بالباشا، وهو نائب السلطان في حكم البلاد وممثله، وقادة الجند من فرقة (الانكشارية) العسكرية، وأخيراً سناجق الولاية (رؤساء الأقاليم الإدارية)

***

المراحل الخمس للتاريخ الدستوري في ليبيا

المرحلة الأولى: ما قبل الاحتلال الأجنبي (1510-1911)

مطلع العصر الحديث 1510-1551:

تميزت تلك الفترة بمتغيرات جسيمة على المنطقة العربية ككل، وشمال أفريقيا تحديدا، حيث شهدت صعود الدولة العثمانية كقوة بحرية في المتوسط، والمواجهات العثمانية الأوروبية في أعقاب نهاية الحروب الصليبية، وسقوط الأندلس، واكتشاف العالم الجديد، فتعرضت ليبيا للغزو الأسباني سنة 1510، وتنازلت عنها لـفرسان القديس يوحناأو الفرسان الهوسبيتاليين (الإسبتارية) والتي عرفت لاحقاً بـتنظيم فرسان مالطة العسكري ذي السيادة، وذلك تعويضاً لهم عن خسارتهم جزيرة رودس، في مواجهة مع السلطان العثماني سليمان القانوني، والذي ما لبث أن قام بملاحقتهم في طرابلس، وأخضع كامل ليبيا للدولة العثمانية، وتبدأ بها فترة التاريخ الحديث في ليبيا.

الحكم العثماني الأول 1551-1711:

قام السلطان العثماني بتوزيع سلطات الحكم على جهات ثلاث، وهي الوالي ويلقب بالباشا، وهو نائب السلطان في حكم البلاد وممثله، وقادة الجند من فرقة (الانكشارية) العسكرية، وأخيراً سناجق الولاية (رؤساء الأقاليم الإدارية) وذلك بعد تقسيم ليبيا إلى 6 سناجق وهي (بنغازي، طرابلس، الجبل الأخضر، الجبل الغربي، الـُخمس، وفزان)، تميزت تلك الفترة بصدور عدد من الفرمانات التي تخص ولاية (إيالة) ليبيا، وعلى الرغم من أن هذه الفرمانات لا ترقى إلى درجة الدستور، فإن أهميتها تكمن في أثرها على تشكيل هيكل السلطة في ليبيا، كونها تمثل الإرهاصات الأولى لنشأة الدولة، وكان أهمها: فرمان تعيين أول والٍ عثماني على ليبيا عام 1551، ثم فرمان تنظيم البحرية في طرابلس عام 1700، ثم فرمان إعلان استقلال الولاة عام 1711، والذي تضمن منح قدر من الحكم الذاتي تحت إشراف العثمانيين، وبصدوره تنتهي فترة الحكم العثماني الأول.

وقعت الحرب البربرية الأميركية الأولى، وفرضت البحرية الأميركية حصاراً شديداً على طرابلس، لكن ليبيا استطاعت كسر الحصار وأسر الفرقاطة فيلادلفيا سنة 1805، مما أجبر الولايات المتحدة على التفاوض لاستعادة السفينة

حكم أسرة القرمانلي (1711-1835):

حيث تولى أحمد باشا القرمانلي الولاية عقب الإطاحة بالوالي، في ثورة شعبية عام 1711، وقد تمتعت ليبيا خلال هذه الفترة بقدر كبير من الحكم الذاتي، حتى في الشؤون الخارجية، وكانت ليبيا تمتلك أسطولا قوياً مكَّنَها من أن تتمتع بشبه شخصية دولية، وأصبحت تنعم بنوع من الاستقلال، بل إنها مارست السيادة على المياه الإقليمية، حيث طالبت السفن بدفع رسوم للمرور عبر تلك المياه. وعند زيادة هذه الرسوم، رفضتها الولايات المتحدة، ووقعت الحرب البربرية الأميركية الأولى، وفرضت البحرية الأميركية حصاراً شديداً على طرابلس، لكن ليبيا استطاعت كسر الحصار وأسر الفرقاطة فيلادلفيا سنة 1805، مما أجبر حكومة الولايات المتحدة على التفاوض لاستعادة السفينة.

ومن الطريف في هذا الصدد أن الرئيس الأميركي (توماس جيفرسون) طلب نسخة مترجمة من القرآن الكريم بالإنجليزية حتى يفهم السند القانوني والشرعي لهذه الرسوم (الجزية)، وما زالت هذه النسخة موجودة في مكتبة الكونغرس حتى الآن، وهي النسخة ذاتها التي أقسم عليها اليمين الدستورية النائب المسلم كيث إليسون عندما تولى مهام منصبه 2006، ومن الطريف أيضاً أن هذه الحادثة، تركت أثراً غائراً في التاريخ الأميركي، فقد خلدها نشيد قوات مشاة البحرية الأميركي ذائع الصيت (من قاعات مونتوزوما إلى شواطئ طرابلس)، والمعمول به حتى الآن.

الحكم العثماني الثاني (1835-1911):

استعادت الدولة العثمانية الحكم في ليبيا مرة أخرى، بعد رفض آخر حكام أسرة القرمانلي مساعدة السلطان العثماني في حربه ضد اليونان، وتم إصدار فرمان 1863 بجعل سنجق بنغازي ولاية مستقلة، إلا أنه تم العدول عنه، وإرجاع بنغازي سنجقا تابعا لولاية ليبيا بموجب فرمان آخر سنة 1888، ويمكن القول بأن هذا الفرمان، كان بداية ظهور مشكلة انعزال الأقاليم الليبية عن بعضها البعض، والذي وضع بذور فكرة الانفصالية في الدولة الليبية.

المرحلة الثانية: الاحتلال الأجنبي (1911-1951):

قامت إيطاليا باحتلال ليبيا سنة1911 بعد تاريخ سري طويل من الإعداد له مع الدول الأوروبية منذ مؤتمر برلين 1878 حين أعربت إيطاليا عن رغبتها في الاستحواذ على ليبيا، وعدة بلدان أخرى، إلا أن هذا لم يحدث فعلياً إلا في 1911، عند وقوع الحرب الإيطالية التركية، وقامت إيطاليا بغزو ليبيا، بحجة أنها تحميها من التدخل التركي، وانتهت الحرب بتوقيع معاهدة أوشي (اتفاقية لوزان الأولى) 1912، حيث قامت إيطاليا بتقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم كبرى، وأقامت مستعمرة مستقلة في كل إقليم، وهي: إقليم طرابلس الإيطاليةوعاصمته مدينة طرابلس، وإقليم برقة الإيطاليةوعاصمته مدينة بنغازي، وإقليم فزان الإيطاليةوعاصمته مدينة سبها.

وقد اندلعت مقاومة شعبية عنيفة في كامل ليبيا، كان أحد زعمائها الشيخ عمر المختار، الذي استشهد أثناء مقاومته، وكان من أثر تلك المقاومة، الانتباه لضرورة حماية استقلال ليبيا بوثائق دستورية، وكانت أولى هذه المحاولات، إعلان دولة مستقلة في طرابلس سميت الجمهورية الطرابلسية” 1918، وتم إقرار دستور لها في يونيو/حزيران 1919 أطلق عليه القانون الأساسي للقطر الطرابلسي، إلا أنها لم تحصل على الاعتراف الدولي، ولم تدم أكثر من 9 أشهر.

وجراء هذه المقاومة العنيفة، قامت إيطاليا ببسط كامل احتلالها على ليبيا، فضمت الثلاثة أقاليم في مستعمرة واحدة سنة 1934، وسميت ليبيا الإيطالية، وأعلنتها جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، وقُسمت المستعمرة إلى 5 أقاليم إدارية هي (بنغازي، ودرنة، وطرابلس، ومصراته، وإقليم الصحراء الليبية). واختارت مدينة طرابلس عاصمة للمستعمرة.

أطاح نظام القذافي بالنظام الملكي الليبي، وألغى دستور 1951 المُعدل، وأعلن قيام الجمهورية العربية الليبية، وأصدر إعلاناً دستورياً مؤقتاً في ديسمبر 1969، نص على أن مجلس قيادة الثورة هو أعلى سلطة، وقد ظل هذا الإعلان الدستوري قائماً من 1969 حتى 1977

خسرت إيطاليا ليبيا كمستعمرة فعلياً على أرض الواقع بعد معركة العلمين سنة 1942، وتم توزيع الأقاليم الليبية على الدول المنتصرة لإدارتها من 1947 حتى عام 1951، حيث احتلت بريطانيا برقة ومصراتة وطرابلس سنة 1943 واحتلت فرنسا فزان في العام نفسه، وقامت بريطانيا بمنح الولايات المتحدة قاعدة عسكرية بمطار داخل طرابلس سميت قاعدة وايليس الجوية، إلا أنه من الناحية القانونية الدولية، ظلت إيطاليا تتمتع بالسيادة على جميع مستعمراتها، حتى بعد هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ومنها إيطاليا، حتى توقيع معاهدة الصلح عام 1947.

أما ثاني هذه المحاولات فكان في مارس/آذار 1949 عندما أعلن الأمير إدريس السنوسي (الملك إدريس الأول لاحقاً) من مدينة بنغازي قيام إمارة برقةكدولة مستقلة بدعم من بريطانيا، وفي أكتوبر/تشرين الأول 1949 تم إقرار دستور لهذه الدولة أطلق عليه الدستور البرقاوي“.

وعلى الرغم من أن هذه المحاولات كانت مبادرات وطنية تسعى لمقاومة الاستعمار، وتحرير التراب الليبي، فإنها كانت محاولات فردية إقليمية، دون تنسيق مع باقي الأقاليم، دون مراعاة للمطالب المحلية والسكانية، لا سيما القبلية لكل إقليم على حدة، ومن ثم كان من نتائج هذه المحاولات، تبلور فكرة انعزال الأقاليم الليبية عن بعضها البعض، وتعزيز الروح الانفصالية الاستقلالية لكل إقليم، والتي لا يزال يتردد صداها حتى الآن.

وعلى الرغم من أن المحاولة الثانية، كانت أكثر نجاحاً من الأولى، فإن هذه الدولة لم تحظ بالاعتراف الدولي الواسع، حيث تبنت بريطانيا وفرنسا مشروع قرار أممي، ينص على استقلال كامل الأراضي الليبية، ومن ثم تم تبني ذلك الاتجاه واستمرت هذه الدولة من 1949 حتى 1951.

يتبع

***

خالد عصام الإسلامبولي ـ قاض بمجلس الدولة المصري، حاصل على ماجيستير القانون الدولي والمقارن من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة، وباحث دكتوراه في القانون الدستوري المقارن.

_______________

مقالات