د. زكية القعود
ـ الأنتاج الفكري في العلوم العقلية:
على الرغم من عدم وصول الكثير من المخطوطات والوثائق التي تشير إلى الحياة الثقافية في ليبيا طوال العصور الإسلامية غير أنه يمكن أن نستدل مما وصلنا على أن هناك علماء ومشائخ كانوا ذا علم واسع، وساهموا مساهمة فعالة في النشاط الفكري في المغرب العربي. وإن كان يغلب على نشاطهم الفكري والعلوم الدينية.
إلا أن العلوم العقلية كان له نصيب من ضمن إنتاجهم الفكري ولكن لا نستطيع إعطاء صورة واضحة عن هذه العلوم في تلك الفترة (العصور الإسلامية) نظرا لضياع أغلبها، بسبب النكبات التي تعرضت لها البلاد، مما أدى إلى ضياع الكثير من تراثها في هذا المجال خاصة. وما سلم من هذا التراث لا يزال حبيس دور المخطوطات والخزائن الخاصة، وبعضه لم يتح للدارسين معرفته حتى الآن.
في هذه الورقات نشير إلى ما حصلت عليه في ـ العلوم العقلية ـ التي أسهم بها أجدادنا في صرح الحضارة الإسلامية. وهو يدل على مكانتهم بين العلماء، كما يعطينا دفعه إلى المزيد من البحث والدراسة في المخطوطات التي تملأ خزائن دول الجوار في المغرب أو المشرق.
ـ علم التاريخ
ونال علم التاريخ وهو من العلوم العقلية اهتمامات الكثير من العلماء الليبيين وكان من أوائل من كتب في التاريخ إبن سلام، واعتبر كتابه “أقدم مؤلف تاريخي للمغرب الإسلامي بأسره“.
وكان لأحمد بن أبى زرعة البرقي (ت 249 هـ) كتاب في التاريخ وكتاب في الطبقات وفي رجال الموطأ وفي غريبه.
ألف كل من حسن بن فراج الطرابلسي (ت 521 هـ) وأبي الحسن بن مخلوف الطرابلسي (ت 533 هـ) كتابا في تاريخ طرابلس.
وكان لابن مخلوف أيضا كتاب “مفاخر الإسلام ومباني الأحكام في أخبار النبي عليه الصلاة والسلام.
وكان لأبي العباس عبد الله الإجدابي (ت 384 هـ) كتابا في علم الأنساب.
ومن علماء القرن السادس الهجري أبا الجاج يوسف بن زيري قاضي طرابلس في الفترة الصقلية وكتب في تاريخها كتاب بعنوان “الكافي في الوثائق“.
ومن ألف في هذا العلم محمد بن بهادر ، وهو ولد في طرابلس سنة 836 هـ ونشأ بها، ومن مؤلفاته رسالة في ترجمة شيخه جلال الدين المحلي، وفتوح النصر في تاريخ ملوك مصر، ومجموعة تواريخ التركمان.
وفي الطبقات والسير ألف كل من أحمد سعيد، ومقرين البغطوري كتابا في سير المشائخ.
واعتنى محمد بن عبد الله اللواتي البرقي الإباضي بحفظ الأخبار وتقييد سير الأخبار زمن مواليد النصف الثاني من التاسع الهجري.
وترجم الشيخ على الخروبي لمشايخه، ووضع الشيخ أبو العباس الشماخي كتابا في سير مشائخ جبل نفوسة.
وكذلك سليمان عبد السلام بن حسان بن عبد الله السياني، مؤلف في التراجم لأبي ربيع من علماء جبل نفوسة في أواخر القرن السادس الهجري كتابا في سير أبي ربيع، ذكر فيه سير شيوخه وغيرهم ممن كان في زمنه.
ومن أشهر من كتب في تاريخ طرابلس إبن غلبون كتاب “التذكار” واعتمد في كتاب التاريخ على البكري والتجاني وابن بطوطة الإدريسي على عبد الحكم وإبن الاثير، والعالم والمؤرخ أحمد النائب الذي كتب عن تاريخ طرابلس “المنهل العذب“.
ـ علم الفرائض
وهو أحد فروع علم العدد، واهتم به العلماء ضمن على المواريث، ويعد علم الفرائض من أجلّ العلوم، وفنّا شريفا لجمعه بين المعقول والمنقول، والوصول به إلى الحقوق في الموروثات بوجوه صحيحة يقينية.
وأشهر من ألف في علم الفرائض علي بن زركرون، وأبا الحسن إبن المنمر، إلا أن كتاب إبن المنمر يعد من أحسن التأليف على مذهب مالك ومن أشهرها، ولإبن المنمر تأليف في فرع آخر من علم العدد وهو الحساب.
ـ علم الرياضيات
وممن برع في هذا العلم، الشيخ أبو الظاهر الجيطالي من مصنفاته “كتاب الحساب وقسم الفرائض” اهتم فيها بالعمليات الحسابية وخصوصا الكسور، ويمتاز كتابه بكثرة التمارين التطبيقية في كيفية توزيع المخلفات بين المستحقين، وخصص جانبا منه لما نسميه الحساب الذهني البسيط، وبسط له قواعد طريفة عجيبة.
كما أن العالم أبو الحسن المنمّر (ت 348 هـ) الذي اهتم بعلم الحساب وكتب فيه كتاب بعنوان “الحساب والأزمنة” كما ليحي الحطاب مقدمة في علم الحساب ومختصر النزهة في علم الغبار، وللشيخ زروق رسالة في العد بالأصابع، ولأبي هارون الجملالمي كتابات في علم الرياضيات والمنطق إلا أنه لم يعتر عليها.
ـ علم الفلك
أعطى علماء ليبيا بعض العناية لعلم الهيأة، وهو علم يختص بحركات الكواكب المختلفة وممن له معرفة بهذا العلم الشيخ سعيد عبد الله عبد الواحد، كما اشتهر بن المنمّر له في ذلك مصنفا بعنوان علم الهيأة والميقات، ولمحمد بن محمد الحطب ثلاث رسائل في استخراج وقت الصلاة، ولإبنه يحي الخطاب رسالة في استخراج الليل والنهار من ربع الدائرة ووسيلة الطلاب لمعرفة أعمال الليل والنهار بطريق الحساب.
أشار الزركلي في الاعلام إلى أنه مطبوع إلا أن الدكتور الزريقي لم يعثر على الكتاب المطبوع، بل عثر على المخطوط بالخزانة الصبيحية في مدينة سلا تحت رقم (199\12)، وهذا الكتاب اختصار لرسالة والده بتكون وسيلة للمبتدئ في هذا العام، وهي خاصة بمعرفة أوقات الصلاة والأعمال الفلكية بدون آلة، وقد رتب الكتاب على سبعة أبواب وخاتمة.
وله أيضا كتاب “مختصر سلك الدرين في حل النيرين” ذكر الزركلي أنه مطبوع إلا أ، الزريقي لم يعثر عليه مطبوعا ولا مخطوطا وهو اختصار كتاب الشيخ أحمد بن موسى بن عبدالغفار وهو في علم الميقات، وله أيضا رسالة في علم النجوم.
ومما كتبه الأجدابي في هذا العلم كتاب “الأزمنة والأنواء” الذي تناول في فصوله المختلفة: فصول السنة وأوقاتها، ومناظر النجوم وهيئاتها والرياح وأسماءها وأوقات الليل وما إلى ذلك من الموضوعات الفلكية.
ومن أشهر ما كتب في هذا العلم ونبغ فيه العالم الشيخ عبد الرحمن بن محمد التاجوري (960 هـ) العالم الفلكي المعروف الذي يعتب في عصره شيخ الجماعة في الفلك والتوقيت، ولهذا العالم العديد من المخطوطات المتعلقة بهذا العلم إلى جانب الرسائل الهامة التي ناظر بها فقهاء المغرب حول قبلة جامع القرويين بفاس منها:
1ـ شرح رسالة المارديني في الربع المجيب ـ مخطوط بالمكتبة العامة بنطوان تحت رقم 656 ـ 859.
2ـ رسالة في استعمال بين الإبرة ـ يوجد منها نسختان بالخزانة العامة بالرباط تحت رقمي 3457د ـ 3488 د.
3ـ ورقات في معرفة وضع بين الإبرة على الجهات الأربع ـ المكتبة الصبيحية بمدينة سلا ـ محفوظة تحت رقم مسلسل 1266 ـ 1080.
4ـ ورقات في معرفة القبلة والأوقات ـ مخطوط بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 740 ق.
5ـ رسالة بعثها التاجوري إلى فقيه درعة محمد بن على التمكروتي حول اتجاه القبلة في مساجد فاس مخطوط بالمكتبة الملكية بالرباط تحت رقم 6999.
6ـ تنبيه الغافلين عن قبلة الصحابة والتابعين ـ مخطوط بالمكتبة الملكية عدد 1053 غير مرقم .
7ـ رسالة في العمل بربع المقنطرات ـ مكتبة تمروت ن مكتبة الجامع استانبول والحسنية بالرباط ولييزج والقاهرة.
8ـ رسالة في علم الهيئة ـ مكتبة السلمانية استانبول.
9ـ رسالة في علم الهيئة مكتبة السلمانية استانبول.
10ـ رسالة في التوطية في الحساب السنة الشمية، مكتب الحسنية ـ الرباط.
ـ علم الطب
ومن كتب في هذا العلم العالم والفقيه الذي قال فيه التيجاني “من أعلم أهل زمانه بجميع العلوم كلاما وفقها ونحوا ولغة وعروضا ونثرا” هو أبو اسحاق إبراهيم الاجدابي فمن مؤلفاته في الطب كتاب “كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ” وهو يشمل عدة أبواب منها باب في النبات وباب في ما يحتاج إلى معرفته من خلق الإنسان، وله رسالة في الحَوَل، من له معرفة من العلماء بعلم الطب في الجبل الغربي يونس بن محمد، وأبو يوسف يعقوب وأبو زكريا يحي بن عامر.
قال عنه الشماخي “أن له في علم الطب اليد العليا” وكان سيدي محمد الطبيب بمدينة طرابلس من فضلاء الأطباء، ومما لهم مخطوطات في هذا العلم ولأحمد الزروق رسالة في أمراض القلوب، ولعلي بن عبد الصادق الجبالي الاعلام في طب أمراض على الوجه المطلوب مخطوط، وهناك ارجوزة في الطب من ألف بين لمحمد السباعي الغدامسي، ومخطوط في اعلام الطب لعلي بن عبد الصادق.
الخاتمة
تلك هي صورة الحياة الثقافية في طرابلس، وإذا كنت لا تقارن بما كانت
عليه في العواصم الإسلامية الكبرى، فإنه يجب أن نأخذ في اعتبارنا المؤثرات إلسلبية التي أثرت على الحياة الثقافية في ليبيا في حقبها التاريخية المختلفة في العهود الإسلامية.
إن تلك المؤثرات كان لها دور لا ينكر في عدم ازدهار الحياة الثقافية في طرابلس إلى مستوى ثقافات العواصم الإسلامية الكبرى.
ولكن رغم تلك الظلال القاتمة التي تحاول إخفاء معالم الإشعاع الثقافي في ليبيا في تلك الحقبة لم تكن طرابلس كما ذكرها العبدري “دار جهل أُفقرت ظهرا وباطنا” بل كانت فيها خفقات حية لنشاط فكري له قيمة في ظل تلك المؤثرات السلبية ويبقى لجلة من علمائها دورهم في نشر الثقافة في ربوع المغرب العربي.
كما يتضح لنا من هذا الطرح أن هناك الكثير مندثر ومتفرق بين خزائن المخطوطات في العالم في هذه العلوم يحتاج منا إلى المزيد من البحث.
إن علمائها ضربوا لنا صورة حية من الجهاد في سبيل الحصول على العلم رغم تلك التحديات التي كانت تواجههم إذا ما قورن ذلك بعلماء تونس والمغرب ومصر الذين كانوا في مناخ خصب يشجّع على العلم والتعلم.
لهذا علينا المزيد من البحث والتنقيب سعيا وراء الحقيقة. أجتهادا في سبيل سدّ الثغرات الكثيرة الناجمة عن ضياع أو احتجاب الكثير من الإنتاج الفكري الليبي خاصة في العهود الإسلامية لإزالة الصورة القاتمة المهزوزة عن تاريخنا الثقافي.
والله ولي التوفيق
________________
المصدر: دراسة في العلوم العقلية في الفترة ما بين القرون (2-10 هـ \ 8 ـ 16