يزيد صايغ
التحوّل الميليشياوي
إن الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو تراجع الشرطة المجتمعية إلى أشكال شبه عسكرية، عندما تُحوّلها الأطراف السياسية المنظَّمة إلى أداة لخدمة مآربها الإيديولوجية وفرض سيطرتها الاجتماعية.
وبالتالي، يكون الخطر أعظم، حيث أدَّت عقودٌ من قمع الدولة والتهميش أو الصراع المسلّح المطوَّل إلى إضعاف الحركات الشعبية القاعدية والسلطات المحلّية الأخرى للغاية، أو إلى زيادة حدّة الاستقطاب المجتمعي، وحطّمت في سياق ذلك الأنماط غير الرسمية أو العرفية لضبط الأمن والفصل في المنازعات.
في مثل هذه الحالات، لم تكن المجتمعات المحلّية قادرة على مقاومة العسكرة، أو فرض السلطة المنافسة للجماعات المسلّحة غير الدُولتية أو الميليشيات التي ترعاها الدولة، والتي كثيراً ما تأخذ على عاتقها بعض مهام إنفاذ القانون والتحكيم البدائي.
كما أن عسكرة هذه المهام، أي تحويلها إلى شكل ميليشيوي، تفاقم انهيار قطاع الأمن الرسمي والآليات المجتمعية على حدّ سواء، الأمر الذي يزيد من العقبات والتكاليف التي تعترض أي محاولة للإصلاح في المستقبل.
وقد تَعزّز هذا الاتجاه بسبب الاضطراب الشامل للهياكل الاجتماعية وإعادة تنظيمها، والتي كثيراً مايُنظر إليها باعتبارها أصيلة وتقليدية وغير قابلة للتغيير – مثل العشائر والقبائل – سواء بسبب الهجرة لأسباب اقتصادية أو التهجير القسري.
إحدى نتائج ذلك تمثّلت في تفتيت مجال الأمن البديل وتوفير العدالة، حيث سعت جماعات مسلّحة متنافسة إلى فرض هيئاتها الخاصة على المجتمعات المحلّية التي تم إضعاف قدرتها على المقاومة. في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سورية منذ العام 2012، على سبيل المثال، شكّلت الجماعات المتمردة سلطاتها الشرعية الخاصة وهيئات إنفاذ الأحكام القضائية، كوسيلة لتوطيد سيطرتها الاجتماعية.
أدّى ذلك إلى حدوث تنافس مباشر، حيث سعت جماعات متمرّدة عدّة، بما فيها “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة“، مراراً وتكراراً إلى تأكيد تفوّق هيئاتها الشرعية في مدينة حلب الشمالية، في حين سعت جماعة “جيش الإسلام” المهيمنة في منطقة الغوطة الشرقية المحاصَرة بجوار دمشق باستمرار إلى إجبار جميع منافسيها على الاعتراف بسلطة هيئة “القضاء الموحّد” التابع لها، وقامت بمحاولات عدّة للقضاء على المحاكم الشرعية المنافسة بالقوة.
أن عسكرة ضبط الأمن، أي تحويله إلى شكل ميليشيوي، تفاقم انهيار قطاع الأمن الرسمي والآليات المجتمعية على حدّ سواء، الأمر الذي يزيد من العقبات والتكاليف التي تعترض أي محاولة للإصلاح في المستقبل.
ومن النتائج الأخرى لتآكل المعايير العرفية أو الإسلامية المعمول بها سابقاً وإضعاف الهيئات التي تفسّرها وتطبّقها، انبثاق أنماط أقسى وأكثر عنفاً لضبط الأمن، تزعم الانطلاق من الإطار المعياري والمنطلق العقائدي نفسه.
ويمثّل مزيج الإكراه المُفرَط وفرض رؤية معينة للنظام الاجتماعي من جانب الدولة الإسلامية حالة قصوى، لكنه مع ذلك مؤشّرٌ على اتجاه أوسع. قبيل انتزاع الدولة الإسلامية السيطرة على مدينتي درنة أو سرت الليبيتين في العام 2015، على سبيل المثال، كانت البلاد تأوي بالفعل خليطاً من الهيئات المرتجَلة لضبط الأمن والفصل في المنازعات، تديرها الميليشيات الثورية والإسلامية المختلفة.
والواقع أن إضعاف الشرطة الرسمية وتهميش النظام القضائي المدني، كان يعني أنه حتى الحكومة اضطُرَّت إلى الاعتماد على ترتيبات ارتجالية مع هذه الهيئات.
لم تُسَلِّم المجتمعات المحلية بعسكَرَة ضبط الأمن والفصل في المنازعات فقط تحت الإكراه، بل على العكس تماماً.
ففي منطقة حضرموت الجنوبية في اليمن، تؤكّد بعض المصادر أن العديد من السكان المحلّيين اختاروا منذ العام 2011 اللجوء في نظام القضاء التابع لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، الذي يقدّم الخدمات من دون أخذ أجور وينفّذ الأحكام، بدل اللجوء إلى شيوخ العشائر، الذين يُعتبَرون متحالفين مع الدولة ويطلبون أجراً أو حصة من أي فائدة مالية أو تسوية يشاركون فيها.
لايأخذ الشيوخ في المناطق الأخرى أجراً، غير أن إضعاف النظام القبلي وتفاقم الصراعات المسلحة عموماً جعل المحكّمين المتنافسين مثل القاعدة في جزيرة العرب أكثر فعالية.
قد تستجيب المجتمعات المحلّية أيضاً إلى إعادة تعريف الجماعات المسلّحة غير الدُولتية لما يُعتبر قانونياً وشرعياً، عندما يخدم ذلك مصالحها، أو يكون أفضل من البدائل المتاحة.
في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، على سبيل المثال، أصدر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر فتوى تجيز للميليشيا التابعة له بالمشاركة في أعمال النهب والابتزاز طالما أنهم يدفعون الخمس لإمامهم المحلّي.
شهدت الانتفاضة السورية ظاهرة مماثلة، حيث طوّرت الجماعات الإسلامية المتمرّدة خطاباً كاملاً ومجموعة من القواعد والأعراف حول مفهوم الغنيمة، وصبغته بالشرعية الدينية ورفعته إلى مستوى المبدأ القانوني.
علاوةً على ذلك، في بيئات الصراع المسلّح الذي ينطوي على استقطاب سياسي أو اجتماعي أو طائفي حادّ، تشكّل رؤية المخاطر المحتدمة النظرةَ المجتمعية تجاه ضبط الأمن الاعتيادي، وتصنّفها في مرتبة أدنى من حيث الأولوية.
يُعتبر لبنان مثالاً بارزاً على ذلك، حيث كان أعضاء ومناصرو الأحزاب السياسية القوية، وخاصة تلك التي لديها إرث عسكري، أقل اهتماماً من المواطنين والمقيمين الآخرين بقضايا السياسة الثانوية مثل تقديم الخدمات والبنية التحتية، لأن انتماءهم الحزبي يضمن الحصول على تلك المنافع.
كانت النتيجة في الواقع، كما قال باحث العلوم السياسية سهيل بلحاج وزملاؤه، “تجسيداً قسرياً ومناطقياً للانقسامات السياسية والطائفية“، حيث تدّعي جهات حكومية وغير حكومية متعدّدة بأن لها حقاً مشروعاً في استخدام القوة.
وبالتالي، ترضخ سلطات الشرطة والبلدية بصورة روتينية، في بعض أنحاء البلاد، إلى مايُسمّى اللجان الأمنية التي تشكّلها الميليشيات والأحزاب السياسية شبه العسكرية المهيمنة محلّياً بشأن جميع قضايا ضبط الأمن والعدالة.
تشكّل رؤية المخاطر المحتدمة النظرةَ المجتمعية تجاه ضبط الأمن الاعتيادي، وتصنّفها في مرتبة أدنى من حيث الأولوية.
في بعض الحالات، عكست الظاهرة المليشيوية أنماطاً سابقة لعمليات الانتقال في مجال ضبط الأمن، كانت تستند إلى القوات شبه العسكرية (الدرك) على نطاق واسع إلى جانب أجهزة الشرطة المدنية، كما هو الحال مع الكتائب الأمنية سيئة السمعة في ليبيا أو قوات الأمن المركزي في مصر.
وينعكس هذا الإرث في اتجاه عددٍ من الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، إلى تلزيم مهامها الأمنية إلى أطراف أخرى أم إلى تهجينها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك قوات “الحشد الشعبي” الشيعية التي تشكّلت في العراق في العام 2014، و“الحشد العشائري” السنّي الذي تشكّل بعد عام من ذلك؛ وقوات الدفاع الوطني التي يرعاها النظام في سورية منذ العام 2012؛ وميليشيات اللجنة الأمنية العليا في ليبيا في مرحلة مابعد القذافي؛ وقوات المقاومة الشعبية التي ظهرت بأشكال عدّة لدى أطراف الصراعات المتنافسة في اليمن منذ العام 2011.
أضعفت الهياكل الأمنية الهجينة الأجهزة الرسمية المكلَّفة عادةً بإنفاذ القانون وتنفيذ المهام القضائية أو حلّت محلّها، لكن من دون أن تستبدلها، ناهيك عن تقديم أداء أفضل.
لكن على الرغم من أوجه الخلل الواضحة والنتائج السلبية، من المرجّح أن تستمر الظاهرة المليشيوية، لأن ذلك يشكّل جزءاً لايتجزأ من العمليات الموازية لانهيار الدولة وإعادة التفاوض بشأنها.
…
يتبع
***
يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
______________